كان .. ما .. كان

سيدنا موسى 7

 

نستكمل قصة هامان:

﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِى صَرْحًا لَعَلِّى أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّى لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِى تَبَابٍ﴾ سورة غافر-36.

كذب فرعون فى دعواه أن الله أرسله، وزعم فرعون لقومه ما كذبه وافتراه فى قوله ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِى فَأَوْقِدْ لِى يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِى صَرْحًا لَعَلِّى أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّى لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ سورة القصص-38.

وقال هاهنا ﴿لَعَلِّى أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ • أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ﴾ أى طرقها ومسالكها ﴿فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّى لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا﴾ ويحتمل هذا معنيين: أحدهما وإنى لاظنه كاذبا فى قوله إن للعالم ربا غيرى، والثانى فى دعواه أن الله أرسله.

والاول أشبه بظاهر حال فرعون، فإنه كان ينكر ظاهرا إثبات الصانع والثانى أقرب إلى اللفظ حيث قال ﴿فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى﴾ أى فأسأله هل أرسله أم لا؟ ﴿وَإِنِّى لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا﴾ أى فى دعواه ذلك.

وإنما كان مقصود فرعون أن يصد الناس عن تصديق موسى، وأن يحثهم على تكذيبه.

قال الله تعالى ﴿وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ﴾ وقرئ ﴿وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِى تَبَابٍ﴾. قال ابن عباس ومجاهد: يقول: إلا فى خسار، أى باطل، لا يحصل له شئ من مقصوده الذى رامه، فإنه لا سبيل للبشر أن يتوصلوا بقواهم إلى نيل السماء أبدا - أعنى السماء الدنيا - فكيف بما بعدها من السموات العلى؟

وما فوق ذلك من الارتفاع الذى لا يعلمه إلا الله عزوجل؟ وذكر غير واحد من المفسرين أن هذا الصرح، وهو القصر الذى بناه وزيره هامان له لم يُر بناء أعلى منه، وأنه كان مبنيا من الآجر المشوى بالنار ولهذا قال ﴿فَأَوْقِدْ لِى يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِى صَرْحًا﴾.

وعند أهل الكتاب: أن بنى إسرائيل كانوا يسخرون فى ضرب اللبن، وكان مما حملوا من التكاليف الفرعونية أنهم لا يساعدون على شئ مما يحتاجون إليه فيه، بل كانوا هم الذين يجمعون ترابه وتبنه وماءه، ويطلب منهم كل يوم قسط معين، إن لم يفعلوه ضربوا وأهينوا غاية الاهانة وأوذوا غاية الاذية.

ولهذا قالوا لموسى ﴿أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ سورة الأعراف-129.

فوعدهم بأن العاقبة لهم على القبط، وكذلك وقع، وهذا من دلائل النبوة.

وذكر هلاك فرعون وجنوده لما تمادى قبط مصر على كفرهم وعتوهم وعنادهم، متابعة لملكهم فرعون، ومخالفة لنبى الله ورسوله وكليمه موسى بن عمران أقام الله على أهل مصر الحجج العظيمة القاهرة، وأراهم من خوارق العادات ما بهر الابصار وحير العقول، وهم مع ذلك لا يرعوون ولا ينتهون، ولا ينزعون ولا يرجعون.

ولم يؤمن منهم إلا القليل. قيل ثلاثة: وهم امرأة فرعون، ولا علم لأهل الكتاب بخبرها، ومؤمن آل فرعون الذى تقدمت حكاية موعظته ومشورته وحجته عليهم، والرجل الناصح الذى جاء يسعى من أقصى المدينة، فقال ﴿يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّى لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ﴾ سورة القصص-20.

قاله ابن عباس فيما رواه ابن أبى حاتم عنه: ومراده غير السحرة، فإنهم كانوا من القبط. وقيل بل آمن به طائفة من القبط من قوم فرعون، والسحرة كلهم وجميع شعب بنى إسرائيل. ويدل على هذا قوله تعالى ﴿فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِى الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ﴾ سورة يونس-83. فالضمير فى قوله ﴿إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ﴾ عائد على فرعون لان السياق يدل عليه، وقيل على موسى لقربه، والاول أظهر. وإيمانهم كان خفية لمخافتهم من فرعون وسطوته، وجبروته وسلطته، ومن ملئهم أن ينموا عليهم إليه فيفتنهم عن دينهم.

قال الله تعالى مخبرا عن فرعون وكفى بالله شهيدا ﴿وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِى الْأَرْضِ﴾ أى جبار عنيد مشتغل بغير الحق ﴿وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ﴾ أى فى جميع أموره وشئونه وأحواله. ولكنه جرثومة قد حان انجعافها وثمرة خبيثة قد آن قطافها، ومهجة ملعونة قد حتم إتلافها.

وعند ذلك قال موسى ﴿يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ • فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ • وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ سورة يونس-84:86. فأمرهم بالتوكل على الله، والاستعانة به، والالتجاء إليه، فأتمروا بذلك فجعل الله لهم مما كانوا فيه فرجا ومخرجا.

﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِين﴾ سورة يونس-87.

أوحى الله تعالى إلى موسى وأخيه هارون أن يتخذا لقومهما بيوتا متميزة فيما بينهم عن بيوت القبط، ليكونوا على أهبة الرحيل إذا أمروا به، ليعرف بعضهم بيوت بعض. وقوله ﴿وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً﴾ قيل مساجد، وقيل معناه كثرة الصلاة فيها.

ومعناه على هذا: الاستعانة على ما هم فيه من الضر والشدة والضيق بكثرة الصلاة، كما قال تعالى ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ سورة البقرة-45. وكان رسول الله إذا حزبه أمر صلى.

وقيل معناه: أنهم لم يكونوا حينئذ يقدرون على إظهار عبادتهم فى مجتمعاتهم ومعابدهم، فأمروا أن يصلوا فى بيوتهم، عوضا عما فاتهم من إظهار شعائر الدين الحق فى ذلك الزمان، الذى اقتضى حالهم إخفاءه خوفا من فرعون وملئه والمعنى الاول أقوى لقوله ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِين﴾ وإن كان لا ينافى الثانى أيضا.

﴿ وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ* قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ سورة يونس-88 ، 89.

هذه دعوة عظيمة دعا بها كليم الله موسى على عدو الله فرعون، غضبا لله عليه لتكبره عن اتباع الحق، وصده عن سبيل الله ومعاندته وعتوه وتمرده، واستمراره على الباطل، ومكابرته الحق الواضح الجلى الحسى والمعنوى، والبرهان القطعى، فقال ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ﴾ يعنى قومه من القبط، ومن كان على ملته ودان بدينه ﴿زِينَةً وَأَمْوَالًا فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ﴾ أى وهذا يغتر به من يعظم أمر الدنيا، فيحسب الجاهل أنهم على شئ، لكن هذه الاموال وهذه الزينة، من اللباس والمراكب الحسنة الهنية، والدور الانيقة والقصور المبنية، والمآكل الشهية والمناظر البهية، والملك العزيز والتمكين، والجاه العريض فى الدنيا لا الدين.

قال قتادة: بلغنا أن زروعهم صارت حجارة وقال محمد بن كعب: جعل سكرهم حجارة، وقال أيضا: صارت أموالهم كلها حجارة ذكر ذلك لعمر بن عبد العزيز، فقال عمر بن عبد العزيز لغلام له: ائتنى بكيس. فجاءه بكيس، فإذا فيه حمص وبيض قد حول حجارة! رواه ابن أبى حاتم.

وقوله ﴿وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾ قال ابن عباس: أى اطبع عليها. وهذه دعوة غضب لله تعالى ولدينه ولبراهينه. فاستجاب الله تعالى لها، وحققها وتقبلها، كما استجاب لنوح فى قومه حيث قال ﴿رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا • إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ﴾ سورة نوح-26 ، 27. ولهذا قال تعالى مخاطبا لموسى حين دعا على فرعون وملئه، وأمن أخوه هارون على دعائه، فنزل ذلك منزلة الداعى أيضا ﴿قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾.

قال المفسرون وغيرهم من أهل الكتاب: استأذن بنو إسرائيل فرعون فى الخروج إلى عيد لهم، فأذن لهم وهو كاره، ولكنهم تجهزوا للخروج وتأهبوا له، وإنما كان فى نفس الارض مكيدة بفرعون وجنوده، ليتخلصوا منهم ويخرجوا عنهم. وأمرهم الله تعالى - فيما ذكره أهل الكتاب - أن يستعيروا حليا منهم، فأعاروهم شيئا كثيرا، فخرجوا بليل فساروا مستمرين ذاهبين من فورهم، طالبين بلاد الشام. فلما علم بذهابهم فرعون حنق عليهم كل الحنق، واشتد غضبه عليهم، وشرع فى استحثاث جيشه وجمع جنوده ليلحقهم ويمحقهم.

قال الله تعالى ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ • فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِى الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ • إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ • وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ • وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ • فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ • وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ • كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِى إِسْرَائِيلَ • فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ • فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ • قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِىَ رَبِّى سَيَهْدِينِ • فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ • وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ • وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ • ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ • إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ • وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيم﴾ سورة الشعراء-68:52.

قال علماء التفسير: لما ركب فرعون فى جنوده طالبا بنى إسرائيل يقفو أثرهم كان فى جيش كثيف عرمرم، حتى قيل كان فى خيوله مائة ألف فحل أدهم، وكانت عدة جنوده تزيد على ألف ألف وستمائة ألف. وقيل إن بنى إسرائيل كانوا نحوا من ستمائة ألف مقاتل غير الذرية، وكان بين خروجهم من مصر صحبة موسى ودخولهم إليها صحبة أبيهم إسرائيل أربعمائة سنة وستا وعشرين سنة شمسية.

والمقصود أن فرعون لحقهم بالجنود، فأدركهم عند شروق الشمس، وتراءى الجمعان، ولم يبق ثم ريب ولا لبس، وعاين كل من الفريقين صاحبه وتحققه ورآه، ولم يبق إلا المقاتلة والمجادلة والمحاماة.

فعندها قال أصحاب موسى وهم خائفون ﴿إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ وذلك لانهم اضطروا فى طريقهم إلى البحر فليس لهم طريق ولا محيد إلا سلوكه وخوضه، وهذا ما لا يستطيعه أحد ولا يقدر عليه، والجبال عن يسرتهم وعن أيمانهم وهى شاهقة منيفة، وفرعون قد غالقهم وواجههم، وعاينوه فى جنوده وجيوشه وعدده وعدده، وهم منه فى غاية الخوف والذعر، لما قاسوا فى سلطانه من الاهانة والمكر.

فشكوا إلى نبى الله ما هم فيه مما قد شاهدوه وعاينوه. فقال لهم الرسول الصادق المصدوق ﴿قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِىَ رَبِّى سَيَهْدِينِ﴾ وكان فى الساقة، فتقدم إلى المقدمة، ونظر إلى البحر وهو يتلاطم بأمواجه، ويتزايد زبد أجاجه، وهو يقول: ها هنا أمرت. ومعه أخوه هرون، ويوشع ابن نون، وهو يومئذ من سادات بنى إسرائيل وعلمائهم وعبادهم الكبار، وقد أوحى الله إليه وجعله نبيا بعد موسى وهرون، كما سنذكره فيما بعد إن شاء الله، ومعهم أيضا مؤمن آل فرعون، وهم وقوف، وبنو إسرائيل بكمالهم عليهم عكوف.

ويقال إن مؤمن آل فرعون جعل يقتحم بفرسه مرارا فى البحر، هل يمكن سلوكه؟ فلا يمكن، ويقول لموسى عليه السلام: يا نبى الله هاهنا أمرت؟ فيقول: نعم.

فلما تفاقم الامر وضاق الحال واشتد الامر، واقترب فرعون وجنوده فى جدهم وحدهم وحديدهم، وغضبهم وحنقهم، وزاغت الابصار وبلغت القلوب الحناجر، عند ذلك أوحى الحليم العظيم القدير، رب العرش الكريم، إلى موسى الكليم ﴿أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ﴾.

فلما ضربه، يقال إنه قال له: انفلق بإذن الله. ويقال: إنه كناه بأبى خالد. قال الله تعالى ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾. ويقال إنه انفلق اثنى عشر طريقا، لكل سبط طريق يسيرون فيه، حتى قيل إنه صار فيه أيضا شبابيك ليرى بعضهم بعضا! وفى هذا نظر، لان الماء جرم شفاف إذا كان من ورائه ضياء حكاه. وهكذا كان ماء البحر قائما مثل الجبال، مكفوفا بالقدرة العظيمة الصادرة من الذى يقول للشئ كن فيكون، وأمر الله تعالى ريح الدبور فلفحت حال البحر فأذهبته، حتى صار يابسا لا يعلق فى سنابك الخيول والدواب.

قال الله تعالى ﴿وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِى الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى * فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ • وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى﴾ سورة طه-79:77. والمقصود أنه لما آل أمر البحر إلى هذه الحال، بإذن الرب العظيم الشديد المحال، أمر موسى أن يجوزه ببنى إسرائيل، فانحدروا فيه مسرعين مستبشرين مبادرين، وقد شاهدوا من الامر العظيم ما يحير الناظرين، ويهدى قلوب المؤمنين. فلما جازوه وجاوزوه وخرج آخرهم منه، وانفصلوا عنه، كان ذلك عند قدوم أول جيش فرعون إليه، ووفودهم عليه.

فأراد موسى أن يضرب البحر بعصاه ليرجع كما كان عليه، لئلا يكون لفرعون وجنوده وصول إليه، ولا سبيل عليه، فأمره القدير أن يترك البحر على هذه الحال، كما قال وهو الصادق فى المقال ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ • أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللهِ إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ • وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّى آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ • وَإِنِّى عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ • وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِى فَاعْتَزِلُونِ • فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ • فَأَسْرِ بِعِبَادِى لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ • وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ • كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ • وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ • وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ • كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ • فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ • وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِى إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ • مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ • وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ • وَآَتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآَيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ﴾ سورة الدخان-33:17.

فقوله تعالى ﴿وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا﴾ أى ساكنا على هيئته، لا تغيره عن هذه الصفة. فلما تركه على هيئته وحالته وانتهى فرعون، فرأى ما رأى وعاين ما عاين، هاله هذا المنظر العظيم، وتحقق ما كان يتحققه قبل ذلك من أن هذا من فعل رب العرش الكريم، فأحجم ولم يتقدم، وندم فى نفسه على خروجه فى طلبهم والحالة هذه حيث لا ينفعه الندم، لكنه أظهر لجنوده تجلدا وعاملهم معاملة العدا، وحملته النفس الكافرة والسجية الفاجرة على أن قال لمن استخفهم فأطاعوه، وعلى باطله تابعوه: انظروا كيف انحسر البحر لى لادرك عبيدى الآبقين من يدى، الخارجين على طاعتى وبلدى؟ وجعل يورى فى نفسه أن يذهب خلفهم، ويرجو أن ينجو وهيهات، ويقدم تارة ويحجم تارات! فذكروا أن جبريل عليه السلام تبدى فى صورة فارس راكب على رمكة حائل فمر بين يدى فحل فرعون لعنه الله، فحمحم إليها وأقبل عليها، وأسرع جبريل بين يديه فاقتحم البحر، واستبق الجواد وقد أجاد، فبادر مسرعا، هذا وفرعون لا يملك من نفسه ضرا ولا نفعا، فلما رأته الجنود قد سلك البحر اقتحموا وراءه مسرعين، فحصلوا فى البحر أجمعين أكتعين أبصعين، حتى هم أولهم بالخروج منه، فعند ذلك أمر الله تعالى كليمه فيما أوحاه إليه أن يضرب بعصاه البحر. فضربه فارتطم عليهم البحر كما كان، فلم ينج منهم إنسان.

قال الله تعالى ﴿وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ • ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ • إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ • وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيم﴾ أى فى إنجائه أولياءه فلم يغرق منهم أحد، وإغراقه أعداءه فلم يخلص منهم أحد، آية عظيمة، وبرهان قاطع على قدرته تعالى العظيمة وصدق رسوله فيما جاء به عن ربه من الشريعة الكريمة، والمناهج المستقيمة.

وفيما أورد ابن كثير فى البداية والنهاية أن فرعون عندما رأى سيدنا موسى انقلب له البحر طريقا أدرك أنه رسول رب العالمين فوقف مكانه ولم يرد الدخول فى هذا الطريق فجاء سيدنا جبريل فى صورة فارس ممطيا جواده وحمحم جواده حول فرس فرعون ثم اتجه خلف سيدنا موسى وجرى فرس فرعون خلفه ودخل معه جنوده عن آخرهم وهنا ضرب سيدنا موسى الأرض فانقلبت بحرا وأخذ فرعون فى الغرق وهنا ﴿قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِى آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ سورة يونس-90. ويقول سيدنا جبريل لسيدنا رسول الله : ما بغضت أحدا بغضى لفرعون حين قال: أنا ربكم الأعلى فجعلت أدس فى فيه الطين حين قال ما قال وذلك حتى لا تدركه الرحمة الإلهية وتسبق رحمته غضبه.

وهنا لطيفة: تأمل ضرب سيدنا موسى للبحر فأصبح طريق سار عليه القوم بخيولهم ثم ضربه ثانيا فارتد بحر غرق فيه فرعون وجنوده.فافهم

ويغرق آل فرعون أجمعون إلا فرعون ليكون عبرة لمن يعتبر وذلك قوله سبحانه ﴿ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً سورة يونس-92. ويقول سيدنا عبد الله بن العباس: شك بعض بنى إسرائيل فى موت فرعون حتى قال بعضهم: إنه لا يموت، فأمر الله البحر فرفعه على مرتفع، وقيل على وجه الماء وعليه درعه التى يعرفونها من ملابسه ليتحققوا بذلك هلاكه ويعلموا قدرة الله عليه، وكان هذا الفعل يوم عاشوراء.

ولما انفصل سيدنا موسى من بلاد مصر وواجه بلاد بيت المقدس وجد فيها قوما من الجبارين فأمرهم سيدنا موسى بالدخول عليهم ومقاتلتهم وإجلائهم عن بيت المقدس، فأبوا لأنهم خافوا من هؤلاء الجبارين وقد عاينوا هلاك فرعون وهو أجبر من هؤلاء وأشد بأسا وأكثر جمعا وأعظم جندا، فسلط الله عليهم الخوف، وألقاهم فى التيه فى مدة من السنين بلغت من العدد أربعون، والتيه التوهان فى الأرض يسيروا إلى غير مقصد ليلا ونهارا وصباحا ومساء ويقال إنه لم يخرج أحد من التيه ممن دخله بل ماتوا كلهم فى مدة الأربعين سنة ولم يبق سوى يوشع وكالب.

ولم يكتف بنو إسرائيل بذلك بل عبدوا العجل الذى صنعه موسى السامرى لهم من الحلى ثم قذف عليه حفنة تراب من أثر فرس سيدنا جبريل لتعود الحياة إلى هذا الصنم، وحين رجع إليهم سيدنا موسى أخذ بلحية سيدنا هارون فقال له ﴿قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلَا بِرَأْسِى إِنِّى خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِى إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِى سورة طه-94. ثم عادوا وطلبوا رؤية الحق فأخذتهم الصاعقة.

وهنا لطيفة غابت عن بعض الأذهان وهى أن سيدنا هارون ترك بنو إسرائيل يعبدون العجل حتى لا يكون سبب فرقة بنى إسرائيل وبنص الكتاب الكريم ﴿خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِى إِسْرَائِيلَ فهل يفهم المسلمين معنى فرقة الدين أم لا؟!!

نرجع لقصتنا ...

وقبل أن ندخل على سيدنا موسى لنعرف ما حدث بينه وبين سيدنا الخضر نعرج بكم عند عناد بنى إسرائيل مع سيدنا موسى فى قصة البقرة، وهى أنه كان فى بنى إسرائيل رجل كثير المال وكان شيخا كبيرا وله بنوا أخ وكانوا يتمنون موته ليرثوه فعمد أحدهم فقتله فى الليل وطرحه فى مجمع الطرق ويقال على باب رجل منهم، فلما أصبح الناس اختصموا فيه وجاء ابن أخيه فجعل يصرخ ويتظلم، فقالوا ما لكم تختصمون ولا تأتون نبى الله، فجاء ابن أخيه فشكى أمر عمه إلى رسول الله موسى فقال سيدنا موسى أنشد الله رجلا عنده علم من أمر هذا القتيل إلا أعلمنا به، فلم يكن عند أحد منهم علم، وسألوه أن يسأل فى هذه القضية ربه عز وجل، فسأل ربه فى ذلك فأمره الله أن يأمرهم بذبح بقرة فقال إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا، أى نحن نسألك عن أمر هذا القتيل وأنت تقول هذا، قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين أى أعوذ بالله أن أقول عنه غير ما أوحى إلى وهذا هو الذى أجابنى حين سألته عما سألتمونى عنه.

قال سيدنا عبد الله بن عباس لو أنهم عمدوا إلى أى بقرة فذبحوها لحصل المقصود منها ولكنهم شددوا فشدد عليهم.

وأخذوا يسألون عن صفتها ولونها وسنها، ويقال إنهم لم يجدوا هذه البقرة بهذه الصفة إلا عند رجل منهم كان بارا بأبيه فطلبوها منه فأبى عليهم فارغبوه فى ثمنها حتى أعطوه بوزنها ذهبا فأبى عليهم حتى أعطوه بوزنها عشر مرات فباعها منهم فأمرهم سيدنا موسى بذبحها فذبحوها ثم أمرهم أن يضربوا القتيل ببعضها قيل بلحم فخذها وقيل بالعظم الذى يلى الغضروف، فلما ضربوه ببعضها قام فسأله نبى الله من قتلك؟ قال قتلنى ابن أخى ثم عاد ميتا كما كان.

أحمد نور الدين عباس