كتب السلف

لما كنا نحتاج باستمرار إلى كتب السابقين الغير محرفة، ولما كثر التحريف بفعل قلة غير مسئولة تقوم بإصدار الكتب المحرفة وطرحها فى الأسواق أو عرضها فى الشبكة العالمية للمعلومات، وسواء كان ذلك يتم بحسن نية أو بغيرها، فقد ظهرت الحاجة إلى البحث عن المصادر الصحيحة فى هذه الشبكة لكتب الصالحين وعلوم السابقين، ونحن نرشح لكم المواقع الصديقة التى تتحرى الدقة فيما تعرضه من كتب حتى تجدوا ما تحتاجونه من كتب وعلوم السابقين التى حاول البعض أن يدثروها ويغطوا عليها، ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المغرضون، وسنقوم باستعراض بعض الكتب التى أستشهد بها الإمام فخر الدين فى مؤلفاته ودروسه من هذه المواقع، وللمزيد عن تلك المواقع زوروا صفحة المكتبة من الموقع الرئيسى.

 
 

أماجد العلماء

الحمد لله الذى اختص العلماء بوراثه الانبياء والتخلق باخلاقهم وجعلهم القدوة للكافة، فقد ضل كثير من الناس وابتعدوا عن هدى الحبيب عندما تركوا الاخذ عن اكابر علماء هذه الامة وادمنوا الاخذ من الأصاغر ففارقوا ما كان عليه سلفهم الصالح وما استقرت عليه أمة المسلمين عقودا وقرونا.

قال (لازال الناس بخير ما اخذوا العلم عن أكابرهم، فاذا اخذوا العلم عن أصاغرهم هلكوا)، وقال (إن هذا الدين علم، فانظروا عمن تاخذون)، وقال (إذا قبض العلماء اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسُئلوا فافتوا بغير علم فضلوا واضلوا، ولا حول ولا قوه الا بالله).

ويقول الإمام فخر الدين محمد عثمان عبده البرهانى :

ولإن سُئلتم ما الكتاب فانه     مما رواه أماجد الأعلام

 والمجمع عليه عند السادة العلماء ان الواحد منهم لا ينتقص كلام سيدنا رسول الله  ولا يحكم بوضعه ولا يضعفه ولايقدح فيه الا اذا كان فى يده سند من آيات كتاب الله او سنة نبيه عليه افضل الصلاة وأزكى السلام, ومنذ بداية القرن الأول الهجرى والثانى والثالث والرابع وحتى يومنا هذا تولى ساداتنا من اماجد العلماء رضوان الله عليهم الحفاظ على تراث ديننا الحنيف كما احب واراد فكانت الاحاديث الصحيحة والتفاسير الصادقة واحداث التاريخ من بداية الرسالة المحمدية مع تسلسلها التاريخى إلى يومنا هذا محفوظة ومسندة بكل أمانة وصدق، ومن هؤلاء السادة العلماء الأجلاء ومع سيرته الطيبة كان

 

الإمام سفيان الثورى

 

سفيان بن سعيد بن مَسرْوق بن حبيب بن رافع بن عبد الله بن موهبة بن أبى بن عبد الله بن منقذ بن نصر بن الحارث بن ثعلبة بن ملكان بن ثور بن عبد مناة بن أُدّ بن طابخة بن إلياس بن مُضر بن نزار، شيخ الإسلام أبو عبد الله الثورى الفقيه الكوفى، سيّد أهل زمانه علماً وعملاً، وهو من ثور مُضَر وَلَيْسَ هو من ثور همدان عَلَى الصحيح؛ كذا نسبه ابن سعد والهيثم بن عدّى وغيرهما.

مولده سنة 97هـ، ووفاته سنة 161هـ، وَكَانَ أبوه سعيد من ثقات المحدّثين، وطلب سفيان العلم وكان يتوقّد ذكاءً، وصار إماماً أثيراً منظوراً إليه وهو شابّ، سمع من عمرو بن مرّة وسلمة بن كهيل وحبيب بن أبى ثابت وعمر بن دينار وابن إسحق ومنصور وحصين وأبيه سعيد بن مسروق والأسود بن قيس وجبلة بن سحيم وزبيد بن الحارث وزياد بن علاقة وسعد بن إبراهيم وأيّوب وصالح مولى التوأمة وخلق لا يحصون، يقال: إنّه أخذ عن ستمائة شيخ وعرض القرآن أربع مرّات عَلَى حمزة بن الزيات، وروى عنه ابن عجلان وأبو حنيفة وابن جريج وابن إسحاق ومسعر وهم من شيوخه وشعبة والحمادان ومالك وابن المبارك ويحيى وعبد الرحمن وابن وهب وأمم لا يحصون، قال الشيخ شمس الدين: بل روى عنه نحو من ألف نفس، قالت لَهُ والدته: يابنى أطلب العلم وأنا أعولك بمغزلى! قال ابن عُيينة: كَانَ العلم ممثَّلاً بَيْنَ يدى سفيان، وقال شعبة وابن معين وجماعة: سفيان أمير المؤمنين فِى الحديث، وقال ابن المبارك: لا أعلمُ عَلَى وجه الأرض أعلمَ منه، وكان سعيد بن مسروق الثورى الكوفى، والد الإمام سفيان، أدرك زمن الصحابة، وثّقه أبو حاتم، توفى سنة ستّ وعشرين، وقيل سنة ثمان وعشرين ومائة، وهو والد مبارك وعمر أيضاً، روى عن عمرو بن مرة وسماك بن حرب، وخلق كثير، قال ابن المبارك: كتبت عن ألف ومئة، ما فيهم أفضل من سفيان الثورى، وقال أحمد بن حنبل: لا يتقدم سفيان فى قلبى أحد.

وقال سفيان: خلاف مَا بيننا وبين المرجئة ثلاث؛ يقولون: الإيمان قول بلا عمل، ويقولون الإيمان لا يزيد ولا ينقص، ويقولون: لا نِفاق، وقال: من كره أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله تعالى فهو عندنا مرجئ! وقال: إذا كنت فى الشام فاذكر مناقب على وإذا كنت بالكوفة فاذكر مناقب أبى بكر وعمر، وقال: الجهميّة كفّار! وقال: لا تنتفع بما كتبت حتّى يكون إخفاء بسم الله الرحمن الرحيم فِى الصلاة أفضل عندك من الجهر! وقال: الملائكة حُرّاس السماء وأصحاب الحديث حُرّاس الأرض. وقال أحمد بن حنبل: كَانَ سفيان إذا قيل لَهُ: أنّه رُئى فِى المنام، قال: أنا أعْرَفُ بنفسى من أصحاب المنامات. وآخر ثقة روى عنه على بن الجعد، وروى لَهُ الجماعة، وذكر المسعودى فِى مروج الذهب، قال القعقاع ابن حكيم: كنت عند المهدى وأُتى بسفيان الثورى، فلمّا دخل سلّم تسليم العامّة وَلَمْ يسلّم بالخلافة، والربيع قائم عَلَى رأسه متّكئاً عَلَى سيفه يرقب أمره، فأقبل عَلَيْهِ المهدى بوجه طلق وقال لَهُ: يَاسفيان تفرّ منّا هاهنا وهاهنا وتظنّ لو أردناك بسوء لَمْ نقدر عليك؟ فقد قدرنا عَلَيْكَ الآن أفما تخشى أن نحكم فيك بهوانا؟ فقال سفيان: إن تحكم فىّ يحكم فيك ملك قادر يفرق بَيْنَ الحقّ والباطل! فقال الربيع: يا أمير المؤمنين! ألهذا الجاهل أن يستقبلك بمثل هذا؟ إيذن لى أن أضرب عنقهُ! فقال لَهُ المهدى: اسكت ويلك! وهل يريد هَذَا وأمثالهُ أن نقتلهم فنشقى بسعادتهم؟ اكتبوا عهده عَلَى قضاء الكوفة عَلَى أن لا يُعترض عَلَيْهِ! فكتب عهده ودفع إليه فأخذه وخرج فرمى بِهِ فِى دجلة وهرب فطُلب فِى كلّ بلد فلم يوجد، ولمّا امتنع من قضاء الكوفة وتولاّه شريك النخعى قال الشاعر من الطويل:

تَحَرَّزَ سُفْيانٌ وَفَرَّ بِدِينِهِ         وَأَمْسَى شريكٌ مُرصِداً للدَّراهِمِ

قال محمد بن أبى بشر: كنت فى مجلس ابن حنبل فطعن قوم على مالك وآخرون على الثورى فانصرفت وفى قلبى من الغم ما لا أصفه، فقمت فرأيت رجلاً من أحسن من رأيت وأطيبه رائحة وأنقاه ثوباً عن يمينه رجل وعن يساره آخر وكلاهما فى هيئة جميلة غير أنه أعلاهم حالاً، فقال (هل تعرفنى)؟ فقلت: لم أرك من قبل فأعرفك، لا أخالك إلا مشهوراً لما أرى من هيئتك وحسن وجهك، فقال (أنا نبيك محمد). فقلت: صلى الله عليك بأبى أنت وأمى، فمن هذا؟ فقال (إمام دارى، مالك بن أنس)، وأشار عن الذى عن يمينه، (وهذا إمام أهل العراق، سفيان الثورى)، وأشار عن الذى عن يساره، (فاشهد بالصدق لهما وأحببهما فإنى أحبهما والله ما تكلما برأى إلا أصابا فيه سنتى، ونصحا فيما اجتهدا فيه أنفسهما بجميع أمتى، وإنهما تأخرا عن القرن الأول لغير مختلفين عن منازلهما بلزوم السنة، وضبط الأثر أقد حفظت)؟ فقلت: نعم، فغدوت على ابن حنبل فأخبرته، فقال: وددت أنى رأيت ما رأيت، وليس لى قوت يومى، هذا والله رأيى فيهما، اقتداء السلف وأهل العصر من العلماء.

فتعالى معى أيها القارئ الكريم وانظر ما لهذه الرؤيا من أثر فى النفس، ومعنى يدق على الأفهام وعيه، وهو كيف كان يتعامل الخلف الصالح مع السلف الصالح فى خير القرون، وما نحن فيه الآن من نكران السلف وهم سلف خير القرون، وإن رأيت أحداً يلتزم بسلف أو يقتضى به رأيته ينكر على سلف آخر ويقول مالى إلا هذا وفقط، وهم فى زمانهم كانوا رحماء فيما بينهم ولا يحقرون بعضهم، بل كانوا يجلون بعضهم بجميل الذكر والعاقبة الحميدة، فمالنا فى هذا العصر تشددنا فى القول، وأقللنا من الفعل، وكثر الخلاف فيما بيننا، مع أن هؤلاء القوم أسدوا لنا خالص النصيحة، ولم يتركونا فى مثل هذه المحن بلا نص نركن إليه لينجينا من فتن كقطع الليل المظلم، فنراهم تركوا لنا فى أمهات الكتب تراثاً يُذكر فيه من أقوالهم وأفعالهم ما ينير لنا الطريق من ظلمات الجهل ويحلنا من التعصب والتذمت الذى باتت الأمة وأصبحت فيه، ولئن قلت لأحد منهم ما هذا التذمت أو التشدد لا ينسبه لنفسه وإنما يرمى به إلى أحد من السلف، فيقول لك: ابن حنبل هو الذى قال هذا والإمام أحمد ابن حنبل منه براء، وإنما لقلة العلم واتباع الهوى أثر أى أثر فى هذا التعصب البغيض.

وقال سعيد بن منصور رأيت مالكاً يطوف وخلفه سفيان الثورى، كلما فعل مالك شيئاً فعله يقتدى به. قال ابن أبى أويس كان الناس كلهم يصدون عن رأى مالك، وكان للأمير عنه رجال يسأله، وكذلك القاضى والمحتسب، وسأل رجل ابن عيينة عن الضحية بالليل، فقال له: سفيان لا بأس بذلك، فقال له ابن وهب: فإن مالكاً قال: لا يضحى بالليل، فقرأ فى أيام معلومات، فنادى سفيان بالرجل وقال: أن هذا أخبرنى عن مالك أنه لا يضحى بليل، وقال حميد: أهل المدينة بعد زيد بن ثابت تقلدوا قول مالك، وقال عتيق بن يعقوب: ما اجتمع أحد بالمدينة إلا أجمع عليه، كان سفيان الثورى إذا سُئل عن شاذ الحديث، قال دعوه، فإن الحجازى نهانى عنه، يعنى مالكاً، سمعت الثورى يقول: إذا كمل صدق الصادق لم يملك ما فى يديه. وسمع من سفيان الثورى ومالك بن أنس وروى عنه مالك، حكاية عن سفيان الثورى أن الطلح المنضود هو الموز، فعن أحمد عن عبد الرزاق قال: قدم علينا سفيان الثورى صنعاء وطبخت له قدر سكباج فأكل ثم أتيته بزبيب الطائف فأكل، ثم قال: يا عبد الرزاق اعلف الحمار وكده ثم قام يصلى حتى الصباح، وحدثنا سفيان الثورى عن أبى سنان عن سعيد بن جبير فى قوله تعالى ﴿وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ﴾ القلم 43، قال: الصلاة فى الجماعة، قال: وسُئل الدارقطنى عنه فقال: ثقة، قال سفيان الثورى: بت عند الحجاج بن فرافضة ثلاث عشرة ليلة فلم أره أكل ولا شرب ولا نام.

قال سفيان الثورى: كان أويس يقول: اللهم إنى أعتذر إليك من كل كبدٍ جائعةٍ وجسدٍ عارٍ وليس لى إلا ما على ظهرى وفى بطنى.

عاد حماد بن سلمة سفيان الثَّورى فقال: يا أبا سلمة، أترى الله يغفر لمثلى، فقال حماد: والله لو خيِّرت بين محاسبة الله ومحاسبة أبوى لاخترت محاسبة الله تعالى، لأنه أرحم لى من أبوىّ، سمعت سفيان الثورى يقول: مذاكرة الحديث من طيبات الرزق.

روى سفيان الثورى عن الأشعت بن أبى الشعثاء عن الأسود بن هلال عن ثعلبة بن زهدم الحنظلى أنه قال: قدمنا على النبى فى نفر من بنى تميم، فانتهينا إليه وهو يقول (يد المعطى العليا، ابدأ بمن تعول: أمك وأباك وأختك وأخاك، ثم أدناك أدناك).

وأخبرنا سفيان الثورى عن سعد بن طريف عن عمير بن مأمون، قال: سمعت الحسن بن على يقول: سمعت رسول الله يقول (من صلى صلاة الغداة فجلس فى مصلاه حتى تطلع الشمس كان له حجاب من النار) أو قال (ستر من النار).

حدثنا سفيان الثورى، عن الكلبى، عن أبى صالح، عن ابن عباس فى هذه الآية ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ﴾ الأعراف 43، قال: نزلت فى عشرة: أبى بكر، وعمر، وعثمان، وعلى، وطلحة، والزبير، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف، وسعيد بن زيد، وعبد الله بن مسعود.

روى سفيان الثورى، عن عاصم بن كليب، عن أبيه: أنه خرج مع جنازة شهدها رسول الله قال: وأنا غلام أفهم وأعقل فقال رسول الله (إن الله يحب من العامل إذا عمل شيئاً أن يحسن).

عن سفيان الثورى عن سليمان الأحول، عن طاوس قال: قال محمد بن مسلمة: أعطانى رسول الله سيفاً، وقال (قاتل به المشركين، فإذا اختلف المسلمون بينهم فاكسره على صخرة، ثم كن حلساً من أحلاس بيتك).

وروى سفيان الثورى عن أبى بكر عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله (من جمع الله له أربع خصال جمع الله له خير الدنيا والآخرة) قيل: ما هى يا رسول الله؟ قال (قلباً شاكراً ولساناً ذاكراً وداراً قصداً وزوجة صالحة) عن سفيان الثورى، عن عمرو بن قيس الملائى، عن عطية العوفى، عن أبى سعيد الخدرى أن رسول الله قال (إحذروا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله، وتلى ﴿إِنَّ فِيى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾ الحجر 75).

وعن سفيان الثورى عن أبى إسحاق عن الحارث عن على أنه كان إذا نظر إلى الهلال قال: اللهم إنى أسألك خير هذا الشهر وفتحه ونصره وبركته ورزقه ونوره وظهوره وهداه، وأعوذ بك من شره وشر ما فيه وشر ما بعده، وعن عطاء بن مسلم عن سفيان الثورى عن أبى إسحاق عن أبى مريم، قال: رأيت على علىّ بن أبى طالب برداً خلقاً، فقلت: يا أمير المؤمنين، إن لى إليك حاجة، قال: وما هى؟ قلت: تطرح هذا البرد وتلبس غيره، فقعد وطرح البرد على وجهه، وجعل يبكى، فقلت: لو علمت أن قولى يبلغ هذا منك ما قلته، فقال: إن هذا البرد كسانيه خليلى، قلت: ومن خليلك؟ قال: عمر بن الخطاب ، إن عمر ناصَحَ الله تعالى فنصحه.

وعن الحافظ أبا موسى بن الحافظ قال: كنت عند والدى، وهو يذكر فضائل سفيان الثورى، فقلت فى نفسى: إن والدى مثله، فالتفت إلىّ وقال:أين نحن من أولئك؟ وقال سفيان الثورى: خذوا التفسير عن أربعة: عن سعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة والضحاك.

أبيات سفيان الثورى التى أنشدها فى المنام:                                     

نظرت إلى ربى كفـــــاحاً فقال لى              هنيئاً رضائى عنك ياابن سعيد

فقد كنت قواماً إذا أقبل الدجى               بعبرة مشتاق وقلب عمــــــــــــــيد

فدونك فاختر أى قصـــــــر أردته               وزرنى فإنى منك غير بعــــــــــــيد

قال ابن مهدى: أئمة الناس فى زمانهم أربعة: سفيان الثورى بالكوفة ومالك بالحجاز والأوزاعى بالشام وحماد بن زيد بالبصرة، وقال أيضاً: ما رأيت أعلم من حماد بن زيد ولا من سفيان ولا من مالك.

وقال سفيان الثورى: كان من عادة ابن عمر أنه إذا أعجبه شىء من ماله تصدق به، وكأن رقيقه عرفوا ذلك فربما شمر أحدهم ولزم المسجد والإقبال على الطاعة فإذا رآه ابن عمر على تلك الحالة أعتقه، فقيل له: إنهم يخدعونك، فقال: من خدعنا بالله انخدعنا له.

وكتب إبراهيمُ بنُ أدهم إلى سُفيان الثَّورى: مَنْ عَرَف ما يطلبُ، هان عليه ما يَبْذُل، ومن أَطْلق بَصرَه طال أسفه، ومن أطلق أمَلَه ساء عَمَلُه، ومن أطلق لسانَه قتل نَفْسَه. وروى الحاكم بسنده عنه، إلى جعفر بن محمد الصادق، أن سفيان الثورى، سأله دعاء يدعو به عند البيت الحرام، قال جعفر: إذا بلغت البيت الحرام، فضع يدك على الحائط، ثم قل: ياسابق الغوث، وياسامع الصوت، وياكاسى العظام لحماً بعد الموت، ثم ادعُ بما شئت، قال له سفيان: فعلمنى ما لم أفقه، فقال له: يا أبا عبد الله، إذا جاءك ما تحب فأكثر من الحمد، وإذا جاءك ما تكره فأكثر من: لاحول ولا قوة إلا بالله، وإذا استبطأت الرزق فأكثر من الاستغفار. وقال سفيان الثورى: أعقل الناس رجل أذنب ذنباً فنصب ذلك الذنب بين عينيه وبكى عليه حتى أورده الجنة، وأحمق الناس رجل أعجب بعمله فنصبه بين عينيه حتى أورده النار، وعن سفيان الثورى عن مجالد عن الشعبى عن الأسود عن عائشة قالت: سمعت رسول الله يقول (من انتقل ليتعلم علماً غفر له قبل أن يخطو).

قدم إبراهيم بن أدهم الكوفة فقال لعبد الله ابن بكر: ادخل الكوفة وادخل إلى سفيان الثورى وقل له: إن أخاك إبراهيم يُقرئك السلام ويقول: تعالى إلى فحدثنى بحديث عن رسول الله ، قال: فمضيت إلى سفيان فقلت له: إن أخاك إبراهيم يُقرئك السلام ويقول لك: حدثنى بحديث عن رسول الله فقال لى: حباً وكرامة، فاستدعى بطيلسان مرقع وخفين مرقق وجاء إليه وسلم عليه وجلس فحدثه بحديث عن ابن عيينة عن الزهرى عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله (إذا كان يوم القيامة وجمع الله الأولين والآخرين فى صعيد واحد فيقول للعلماء: أنتم بغيتى من خلقى، ما أودعتكم علمى إلا لخير أردته بكم انطلقوا إلى الجنة) قال: ثم إن سفيان ابتدأ يحدث حديثاً آخر فقال له إبراهيم: حسب ما أظن أن إبراهيم عمل بهذا الحديث حتى مات، فقال سفيان: إن الملوك طلبوا الراحة إلا هم فى تعب سقطوا، وما راحة إلا ما نحن فيه. قال: اجتمع سفيان الثورى وشريك والحسن بن صالح وابن أبى ليلى فبعثوا إلى أبى حنيفة فأتاهم فقالوا له: ما تقول فى رجل قتل أباه ونكح أمه وشرب الخمر فى رأس أبيه؟ قال: مؤمن. فقال له ابن أبى ليلى: لا قبلت لك شهادة أبداً. وقال له سفيان: لا كلمتك أبداً. وقال له شريك: لو كان لى من الأمر شئ لضربت عنقك. قال له الحسن بن صالح: وجهى من وجهك حرام أن أنظر إليه أبداً. فأبصر إلى هذا الراوى إنه لا يفرق بين رجل وبين مؤمن، فأما رجل فإنه نكرة من الرجال فلو كانت كافراً وعبد الله مائة سنة لم يكن مؤمناً، وأما المؤمن لو فعل هذا لم تذهب معرفته، قال سفيان الثورى: صنفان إذا صلحا صلحت الأمة وإذا فسدا فسدت الأمة، الملوك والعلماء، والملك العادل هو الذى يقضى بكتاب الله عز وجل، ويشفق على الرعية شفقة الرجل على أهله.

روى ابن يسار عن أبيه أنه قال: سمعت رسول الله يقول (أيما وال ولى من أمر أمتى شيئاً فلم ينصح لهم ويجتهد كنصيحته وجهده لنفسه كبه الله على وجهه يوم القيامة فى النار).

وقال ابن المبارك: كتبت عن ألف شيخ ومائة شيخ هو أفضلهم. وقال أيوب: ما رأيت كوفياً أفضله عليه، وقال يونس بن عبيد: ما رأيت أفضل منه. وقال عبد الله: ما رأيت أفقه من الثورى. وقال شعبة: ساد الناس بالورع والعلم، وقال: أصحاب المذاهب ثلاثة: ابن عباس فى زمانه والشعبى فى زمانه، والثورى فى زمانه. وقال الإمام أحمد: لا يتقدمه فى قلبى أحد، ثم قال: تدرى من الإمام؟ الإمام سفيان الثورى. وقال عبد الرزاق: سمعت الثورى يقول: ما استودعت قلبى شيئاً قط فخاننى حتى إنى لأمر بالحائك يتغنى فأسد أذنى مخافة أن أحفظ ما يقول، وقال: لأن أترك عشرة الآف دينار يحاسبنى الله عليها أحل إلىّ من أن أحتاج إلى الناس.

وفاته:

وفى شعبان توفى الإمام العالم أبو عبد الله سفيان بن سعيد الثورى الكوفى الفقيه، سيد أهل زمانه علماً وعملاً، وله أربعاً وستون سنة، قال محمد بن سعد: أجمعوا أنه توفى بالبصرة سنة إحدى وستين ومائة، وكان عمره يوم مات أربعاً وستين سنة.

ورُئى سفيان الثورى رحمه الله عليه بعد موته فى المنام فقيل له: ما فعل الله بك، قال: رحمنى، فقيل: ما حال عبد الله بن المبارك، قال: هو ممن يدخل على ربه كل يوم مرتين.

عن أبى عبد الله محمد بن خزيمة الاسكندرانى قال: لما مات أحمد بن حنبل اغتممت غماً شديداً فرأيته فى المنام وهو يتبختر فى مشيته، فقلت له: ياأبا عبد الله أى مشية هذه؟ فقال: مشية الخدام فى دار السلام، فقلت: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لى وتوجنى وألبسنى نعلين من ذهب، وقال لى: ياأحمد هذا بقولك القرآن كلامى، ثم قال لى: يا أحمد أدعنى بتلك الدعوات التى بلغتك عن سفيان الثورى وكنت تدعو بهن فى دار الدنيا، فقلت: يارب كل شئ، بقدرتك على كل شئ أغفر لى كل شئ حتى لا تسألنى عن شئ، فقال لى: ياأحمد هذه الجنة قم فادخلها، فدخلت فإذا أنا بسفيان الثورى وله جناحان أخضران يطير بهما من نخلة إلى نخلة، ومن شجرة إلى شجرة، وهو يقول ﴿الْحَمْدُ للهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ الزمر 74.

هو أمير المؤمنين فى الحديث، فالحمد لله الذى صدق وعده أنه لايخلف الميعاد اللهم بجاه حبيبك النبى وآله وساداتنا ومشياخنا الكرام أختم لنا أجمعين بختم السعادة وأحشرنا معهم أجمعين.

سمير جمال