دين الصبابة

 

دِينُ الصَّبَابَةِ لِلْأَحِبَّةِ عُرْوَةٌ      لَوْلَا الشَّهَادَةُ مَا اسْتَقَامَ الدِّينُ (67/1)

البيت الأول من القصيدة السابعة والستين من الدرر الفريدة لديوان شراب الوصل للإمام فخر الدين، ولتدارس هذا البيت نبدأ فنقول والله الموفق والمعين: الدين: ديْن نحن مدينين به، الصبابة: الشَّوْق وقيل: رقته وحرارته فالدين كله مراتب فى الحب لله تتفاوت درجاته بين الخلق، وفى ذلك المعنى يخبر السيد فخر الدين عن كتاب العارف بالله سيدى عبد الكريم الجيلى المتوفى سنة 805 هـ، وهو من أكابر العارفين وأئمة الصوفية، يقول: أن أول هذه المراتب فى الخلق الميل وهو انجذاب القلب إلى المطلوب فإذا زاد سمى رغبة، فإذا زاد سمى طلباً، فإذا زاد سمى ولهاً، فإذا اشتد ودام سمى صبابة، فإذا قوى واسترسل بالقلب فى المعنى المراد سمى هوى، فإذا استولى حكمه على الجسد بحيث أن يفنى المحب عن نفسه سمى شغفاً، فإذا نمى وظهرت علاماته، بحيث أن يفنى المحب عن نفسه وعن فنائه سمى غراماً، فاذا استحكم وطفح وظهر وتمكن تمكناً أفنى المحب عن نفسه وعن حبيبه أيضاً بحيث يبقى الأمر شيئاً واحداً، وهو الحب المطلق سمى عشقاً.

فنجد أن الصبابة هى المرتبة الخامسة فى مراتب الحب، وهى مرتبة ليست بالبسيطة فصاحبها قد قطع فى مراتب الحب قبلها أربع مراتب وهذه المرتبة متوسطة بين أربعة مراتب دونها وأربعة مراتب بعدها، وصاحبها يسمى صَبّ وهو يقول ما يشاهده فهو يحدث ويدعو إلى الله على بصيرة كما تخبرنا الآية الكريمة ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إلى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ يوسف 108، فهؤلاء المشاهدون المحبون الذين يدعون إلى الله على بصيرة كلامهم ونصائحهم وإرشادهم فى الدين تكون لأحباب الله ورسوله عروة يستمسكون بها حتى لا تزل قدمهم ويخيب مسعاهم فى الدنيا فتخيب آخرتهم فإن كلام مثل أؤلئك هو سر الفوز والنجاة فى الآخرة.

وفى هذا المعنى من الآيات آيتين:

الأولى ﴿لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَىِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ البقرة 256، الثانية ﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إلى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللهِ عَاقِبَةُ الْأُمُور﴾ لقمان 22.

أما عن الآية الأولى يقول الشيخ الماوردى ﴿لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَىِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ قوله تعالى ﴿لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ﴾ فيه ثلاثة أقاويل:

أحدها: أن ذلك فى أهل الكتاب، لا يُكْرَهُون على الدين إذا بذلوا الجزية، قاله قتادة.

والثانى: أنها نزلت فى الأنصار خاصة، كانت المرأة منهم تكون مِقْلاَةً لا يعيش لها ولد، فتجعل على نفسها، إن عاش لها ولد أن تهوّده، ترجو به طول العمر، وهذا قبل الإسلام، فلما أجلى رسول الله بنى النضير، كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالت الأنصار: كيف نصنع بأبنائنا؟ فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.

والثالث: أنها منسوخة بفرض القتال، قاله ابن زيد ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ﴾ فيه سبعة أقوال:

أحدها: أنه الشيطان وهو قول عمر بن الخطاب. والثانى: أنه الساحر، وهو قول أبى العالية. والثالث: الكاهن، وهو قول سعيد بن جبير. والرابع: الأصنام. والخامس: مَرَدَة الإنس والجن. والسادس: أنه كل ذى طغيان طغى على الله، فيعبد من دونه، إما بقهر منه لمن عبده، أو بطاعة له، سواء كان المعبود إنساناً أو صنماً، وهذا قول أبى جعفر الطبرى. والسابع: أنها النفس لطغيانها فيما تأمر به من السوء، كما قال تعالى ﴿إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾ يوسف 53.

واختلفوا فى ﴿الطَّاغُوتِ﴾ على وجهين: أحدهما: أنه اسم أعجمى معرّب، يقع على الواحد والجماعة. والثانى: أنه اسم عربى مشتق من الطاغية، قاله ابن بحر.

﴿وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾ فيها أربعة أوجه: أحدها: هى الإيمان الله، وهو قول مجاهد. والثانى: سنة الرسول. والثالث: التوفيق. والرابع: القرآن، قاله السدى.

﴿لاَ انفِصَامَ لَهَا﴾ فيه قولان: أحدهما: لا انقطاع لها، قاله السدى. والثانى: لا انكسار لها، وأصل الفصم: الصدع .أ. هـ.

فكأن السيد فخر الدين يقول اتباع الأحبة لدين هؤلاء: الصبابة عروة وثقى التى هى الإيمان بالله وسنة رسوله أو القرآن أو التوفيق إلى هذا كله، وذلك فى ضوء تفسير الشيخ الماوردى.

أما الآية الثانية ﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إلى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ لقمان 22، فيقول الشيخ ابن عجيبة: يقول الحق جل جلاله ﴿ومن يُسْلِمْ وَجْهَه إلى الله﴾ أى: ينقاد إليه بكليته، وينقطع إليه بجميع شراشره، بأن فوض أمره إليه، وأقبل بكُلِّيَّتِهِ عليه، ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ فى أعماله قال القشيرى: من أَسْلَمَ نَفْسُه، وأخلص فى الله قَصْدَهُ، فقد استمسك بالعروة الوثقى. أ هـ. فالاستسلام قد يكون بغير إخلاص، فلذلك قال ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾، قاله المحشى وقلت: وفيه نظر؛ فإن الحق تعالى إنما عبَّر بالإسلام لا بالاستسلام، وإنما المعنى: أسلم وجهه فى الباطن، وهو محسن بالعمل فى الظاهر، ﴿فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾، أى: تعلق بأوثق ما يتعلق به؛ فالعروة: ما يستمسك به. والوثقى: تأنيث الأوثق. فمثّلَ حال المسلم المتوكل بحال من أراد أن يَتَدَلَّى من شاهق جبل، فاحتاط لنفسه، بأن استمسك بأوثق عروة من حبل متين، مأمونٍ انقطاعُهُ. قال الهروى: أى: تمسك بالعقد الوثيق، وقال الأزهرى: أصله: من عروة الكلأ، وهو: ماله أصل ثابت فى الأرض، من الشيح وغيره من الشجر المستأصل فى الأرض، ضُربَتْ مثلاً لكل ما يُعْتَصَمُ به ويُلْجأُ إليه. أ هـ.

أما التأويل فى الإشارة فيقول: ومن يَنْقَدْ بكليته إلى مولاه، وغاب عن كل ما سواه، وهو من أهل مقام الإحسان، بأن أشرقت عليه شمس العيان، فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها أبداً، ومن أمارات الانقياد: ترك التدبير والاختيار، والرضا والتسليم لكل ما يبرز من عنصر الاقتدار، وترك الشكوى بأحكام الواحد القهار، ﴿وَإِلَى اللهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾؛ فيوصل من يشاء برحمته، ويقطع من يشاء بعدله، ومن يجحد طريق الخصوص من أهل زمانه؛ فلا يحزنك، أيها العارف، فعله، إلينا إيابهم، وعلينا حسابهم، فَسَنُمَتَّعهُمْ بحظوظهم، والوقوف مع عوائدهم، زماناً قليلاً، ثم نضطرهم إلى غم الحجاب وسوء الحساب والعياذ بالله.

وفى ضوء الإشارة نفهم من كلام السيد فخر الدين: فكل واحد يأخذ من هذا العطاء على قدر ما شاء الله أن يعطيه فالعلم رزق لذلك قلت نفهم، فهذا فهمنا وليس مراد الشيخ كله ففهم الشيخ أعلى وأعمق ولكننا نقول ما فهمناه وهو أن دين الصبابة هو ما يدين به الصبابة تجاه ربهم فنحن فى زمان كثرت فيه الطوائف وكل طائفة لها تصور للدين فى ذهنها فهى تدعوا إليه لكن المحبين الصادقين يرشدوننا إلى الدين الحق الذى إن صدقنا به وعملنا به نكون قد استمسكنا بالعروة الوثقى التى لا انفصام لها ومثال هذا المعنى ما أورده ابن عجيبة فى إشارته وهو أن العبد يخلّص نفسه كله إلى الإحسان وهو مقام المشاهده وهو الذى قال عنه الحبيب أن تعبد الله كأنك تراه فان لم تكن أى فنيت عن نفسك، فسوف تراه أى ترى تجليات اسم الله الجامع للأسماء كلها فإن الله قد حذرنا من ذاته وحدودنا الاسم الله وليس وراء الاسم الله مرمى لرامى كما قال الإمام الشافعى ، ولهذه المشاهد قال السيد فخر الدين فى الشطر الثانى: لَوْلَا الشَّهَادَةُ مَا اسْتَقَامَ الدِّينُ، وهذ منطق سليم فالذى يخبر عن شىء يراه أصدق ممن يخبر عن شىء علمه، فهم يخبرون عن حاله يعيشونها ويرونها، اللهم أنفعنا بهم وبأحوالهم وعلومهم فتكون لنا عروة وثقى نستمسك بها.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.

محمد مقبول