كان .. ما .. كان

سيدنا موسى 4

 

انتهينا فى المرة السابقة عند قول سيدنا شعيب ﴿إِنِّى أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَىَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِى ثَمَانِى حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ﴾ القصص 27، ورد عليه سيدنا موسى ﴿سَتَجِدُنِى إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ القصص 27، فقال ﴿ذَلِكَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ﴾ القصص 28، قال ابن مسعود أفرس الناس ثلاثة: صاحب يوسف حين قال لامرأته: أكرمى مثواه، وصاحبة موسى حين قالت ﴿يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِى الْأَمِينُ القصص 26، وأبو بكر حين استخلف عمر بن الخطاب.

وبعد أن أتم سيدنا موسى الأجل اشتاق إلى أهله فقصد زيارتهم ببلاد مصر فسافر من مدين إلى مصر وقال أهل العلم أن سيدنا موسى كان فى سبع مصائب وهى:

o     امرأته حامل وقاربت على الوضع.

o     الجو كان شديد البرودة.

o     المطر يهطل.

o     الخشب لان من البرودة.

o     الزناد لا يشتعل.

o     ظلام الليل يحتويهم.

o     ولا يوجد معهم إنسى.

وفى عز السبع مصايب سيدنا موسى يبصر ناراً حيث قال سبحانه ﴿آَنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ القصص 29، وهو الجبل الغربى فهرول تجاه هذه النار وقال لأهله ﴿امْكُثُوا إِنِّى آَنَسْتُ نَارًا القصص 28، وقد قيل: أنه هو فقط الذى رأى هذه النار، وقال لأهله ﴿لَعَلِّى آَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ القصص 28، ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِىَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِى الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ القصص 30.

وفى سورة النمل قوله ﴿إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّى آَنَسْتُ نَارًا سَآَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آَتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ النمل 7، وقد أتاهم منها بخبر، وأى خبر ووجد عندها هدى، وأى هدى واقتبس منها نوراً، وأى نور قال الله تعالى ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِىَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِى الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّى أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ القصص 30.

وفى سورة طه ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِىَ يَا مُوسَى إِنِّى أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِى أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِى وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِىى إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى طه 11: 16.

قال غير واحد من المفسرين من السلف والخلف لما قصد موسى إلى تلك النار التى رآها فانتهى إليها وجدها تأجج فى شجرة خضراء من العوسج، وكل مالتلك النار فى اضطرام وكل مالخضرة تلك الشجرة فى ازدياد فوقف متعجباً وكانت تلك الشجرة فى لحف جبل غربى منه عن يمينه، كما قال تعالى ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِىِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ القصص 44، وكان موسى فى واد اسمه طوى فكان موسى مستقبل القبلة وتلك الشجرة عن يمينه من ناحية الغرب، فناداه ربه بالواد المقدس طوى، فأمره أولاً بخلع نعليه تعظيماً وتكريماً وتوقيراً لتلك البقعة المباركة ولا سيما فى تلك الليلة المباركة.

ثم سأله سبحانه وهو أعلم ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى طه 17، ﴿قَالَ هِىَ عَصَاىَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِى وَلِىَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى طه 18، ﴿قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِى حَيَّةٌ طه 19، 20، عظيمة لها ضخامة هائلة وأنياب تصك وهى مع ذلك فى سرعة حركة الجان وهو ضرب من الحيات يقال: الجان والجنان وهو لطيف ولكن سريع الاضطراب، وهذا خارق عظيم وبرهان قاطع على أن الذى يكلمه يقول للشىء كن فيكون وأنه الفعال بالاختيار.

ثم أمره رب العزة أن يبسط يده ويأخذها من ذنبها فلما استمكن منها ارتدت عصا ذات شعبتين فى يده.

ثم أمره سبحانه وتعالى بإدخال يده فى جيبه ثم أمره بنزعها فإذا هى تتلألأ كالقمر بياضاً من غير سوء أى من غير برص ولا بهق ولهذا قال ﴿اسْلُكْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ القصص 32، أى هاتان الآيتان: وهما العصا واليد وهما البرهانان المشار إليهما فى قوله ﴿فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ومع ذلك سبع آيات أخرى فذلك تسع آيات بينات وهى المذكورة فى آخر سورة سبحان (الإسراء) حيث يقول تعالى ﴿وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ الإسراء 110.

ويقول الحق سبحانه وتعالى مخبراً عن عبده ورسوله وكليمه سيدنا موسى فى جوابه لربه حين أمره بالذهاب إلى عدوه الذى خرج من ديار مصر فراراً من سطوته وظلمه حين كان من أمره ما كان فى قتل ذلك القبطى، ولهذا قال ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّى قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ﴾ القصص 33، وطلب سيدنا هارون فقال ﴿وَأَخِى هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّى لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِىَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِى إِنِّى أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ﴾ القصص 34، أى اجعله معى معيناً ورداءً ووزيراً يساعدنى ويعيننى على أداء رسالتك إليهم، فإنه أفصح منى لساناً، وأبلغ بياناً، قال الله تعالى مجيبا له إلى سؤاله ﴿قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ﴾ القصص 35، أى فلا ينالون منكما مكروهاً بسبب قيامكما بآياتنا، وقيل: ببركة آياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون.

وقال فى سورة طه ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وَيَسِّرْ لِى أَمْرِى وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِى يَفْقَهُوا قَوْلِى طه 24، 28، قيل: إنه أصيب فى لسانه بسبب تلك الجمرة التى وضعها على لسانه التى كان فرعون أراد اختبار عقله حين أخذ بلحيته وهو صغير فهم بقتله، فخافت عليه السيدة آسية وقالت إنه طفل، فاختبره بوضع تمرة وجمرة بين يديه، فهم بأخذ التمرة، فصرف المَلَك يده إلى الجمرة، فأخذها فوضعها على لسانه، فأصابت لسانه بسببها، فسأل زوال بعضها بمقدار مايفهمون قوله ولم يسأل زوالها بالكلية، وقال الإمام الحسن البصرى: الرسل إنما يسألون بحسب الحاجة ولهذا بقيت فى لسانه بقية.

وقد أجابه الحق سبحانه فقال ﴿قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى طه 36، أى قد أجبناك إلى جميع ماسألت وأعطيناك الذى طلبت، وهذا من وجاهته عند ربه حين شفع أن يوحى الله إلى أخيه فأوحى إليه، وهذا جاه عظيم، قال الله تعالى ﴿وَكَانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهًا الأحزاب 69، وقال تعالى ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا مريم 53، وقد سمعت أم المؤمنين السيدة عائشة رجلاً يقول لأناس وهم سائرون فى طريق الحج: أى أخ أمن على أخيه؟ فسكت القوم، فقالت السيدة عائشة لمن حول هودجها: هو موسى بن عمران حين شفع فى أخيه هارون، فأوحى إليه قال الله تعالى ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا.

وقال وهب بن مُنَبِّه: قال الله لموسى: انطلق برسالتى فإنك بعينى وسمعى، وإن معك أيدى ونَصْرى، وإنى قد ألبستك جُنَّةً من سلطانى لتستكمل بها القوة فى أمرى، فأنت جند عظيم من جندى، بعثتك إلى خلق ضعيف من خلقى، بطر نعمتى، وأمن مكرى، وغرته الدنيا عنى، حتى جحد حقى، وأنكر ربوبيتى، وزعم أنه لا يعرفنى، فإنى أقسم بعزتى لولا القدر الذى وضعت بينى وبين خلقى، لبطشت به بطشة جبار، يغضب لغضبه السموات والأرض، والجبال والبحار، فإن أمرت السماء حصبته، وإن أمرت الأرض ابتلعته، وإن أمرت الجبال دمرته، وإن أمرت البحار غرقته، ولكنه هان على، وسقط من عينى، ووسعه حلمى، واستغنيت بما عندى، وحقى إنى أنا الغنى لا غنى غيرى، فبلغه رسالتى، وادعه إلى عبادتى وتوحيدى وإخلاصى، وذكره أيامى وحذره نقمتى وبأسى، وأخبره أنه لا يقوم شىء لغضبى، وقل له فيما بين ذلك قولاً ليناً، لعله يتذكر أو يخشى، وأخَبّره أنى إلى العفو والمغفرة أسرع منى إلى الغضب والعقوبة، ولا يروعنك ماألبسته من لباس الدنيا، فإن ناصيته بيدى، ليس ينطق ولا يطرف ولا يتنفس إلا بإذنى، وقل له: أجب ربك فإنه واسع المغفرة، وقد أمهلك أربعمائة سنة، فى كلها أنت مبارزه بالمحاربة، تسبه وتتمثل به وتصدّ عباده عن سبيله وهو يمطر عليك السماء، وينبت لك الأرض، فلم تسقم، ولم تهرم، ولم تفتقر، ولم تغلب، ولو شاء الله أن يعَجِّل لك العقوبة لفعل، ولكنه ذو أناة وحلم عظيم، وجاهده بنفسك وأخيك، وأنتما تحتسبان بجهاده، فإنى لو شئت أن آتيه بجنود لا قبل له بها لفعلت، ولكن ليعلم هذا العبد الضعيف الذى قد أعجبته نفسه وجموعه أن الفئة القليلة ولا قليل منى تغلب الفئة الكثيرة بإذنى، ولا تعجبنكما زينته، ولا مامَتّع به، ولا تمدا إلى ذلك أعينكما، فإنها زهرة الحياة الدنيا، وزينة المترفين، ولو شئت أن أزينكما من الدنيا بزينة، ليعلم فرعون حين ينظر إليها أن مقدرته تعجز عن مثل ما أوتيتما، فعلت، ولكنى أرغب بكما عن ذلك، وأزويه عنكما، وكذلك أفعل بأوليائى، وقديماً ماجرت عادتى فى ذلك، فإنى لأذودُهم عن نعيمها ورخائها، كما يذود الراعى الشفيق إبله عن مبارك الغرة، وماذاك لهوانهم علىّ، ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتى سالماً موفراً لم تكْلَمْه الدنيا.

واعلم أنه لا يتزين لى العباد بزينة هى أبلغ مما عندى من الزهد فى الدنيا، فإنها زينة المتقين، عليهم منها لباس يُعْرَفون به من السكينة والخشوع، سيماهم فى وجوههم من أثر السجود، أولئك أوليائى حقاً حقاً، فإذا لقيتهم فاخفض لهم جناحك، وذلل قلبك ولسانك، واعلم أنه من أهان لى ولياً أو أخافه، فقد بارزنى بالمحاربة، وبادأنى وعرض لى نفسه ودعانى إليها، وأنا أسرع شىء إلى نصرة أوليائى، أفيظن الذى يحاربنى أن يقوم لى، أم يظن الذى يعادينى أن يُعجزنى، أم يظن الذى يبارزنى أن يسبقنى أو يفوتنى، وكيف وأنا الثائر لهم فى الدنيا والآخرة، لا أَكِلُ نصرتهم إلى غيرى، رواه ابن أبى حاتم وذكره ابن كثير فى تفسير الآيات.

والتقى سيدنا موسى بسيدنا هارون وقد استعدا للذهاب إلى فرعون ... وإلى هنا نقف ونأخذ قسطاً من الراحة قبل المواجهة الكبرى فى يوم عيد من أكبر أعيادهم.

أحمد نور الدين عباس