من حلمه

 

كان رسول الله جامعاً لسائر الأخلاق العلية والآداب الشرعية من الدين والعلم والحِلم والبصيرة والشكر والعدل والزهد والتواضع والعفو والعفة والجود والشجاعة والحياء والمروءة والصمت والتُؤدة والوقار والرحمة وحسن الأدب والمعاشرة. وجِماع هذه الخصال هو حُسن الخُلُق، وهذه الخصال قد تكون دنيوية أيضاً إذا لم يُرَد بها وجه الله تعالى والدار الآخرة، ولكنها مع ذلك محاسن وفضائل يشرف الواحد من الناس بوجود واحدة أو اثنتين منهما عنده، ويعظم قدره وتُضرَب به الأمثال.

ومن هذه الخصال ماهو فى الغريزة وأصل الطبيعة لبعض الناس، وبعضهم لا تكون فيه فيكتسبها؛ ولكن لابد له مع ذلك أن يكون فيه من أصولها جزء.

وكان خُلُق نبينا على الانتهاء فى كمال هذه الأخلاق والاعتدال فى غايتها حتى أثنى الله تعالى عليه بذلك وقال ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ القلم 4، وقالت السيدة عائشة (كان خُلُقهُ القرآن: يرضى لرضاه ويسخط لسخطه)، وقال (بُعِثْتُ لأُتَمِّمِ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ)، وقال أنس : كان رسولُ الله أحسنَ الناس خُلُقاً. وكان فيما ذكره المحققون مجبولاً على هذه الأخلاق الشريفة فى أصل خلقته وفطرته، ولم تحصل له باكتساب ولا برياضة إلا بجود إلهى وخصوصية ربانية؛ فهكذا سائر الأنبياء سلام الله عليهم، وقد حكى أهل التفسير أن السيدة آمنة بنت وهب أُمُّ حضرة الحبيب المصطفى أخبرت أنه عليه الصلاة والسلام وُلِد حين ولد باسطاً يديه إلى الأرض رافعاً رأسه إلى السماء.

ولم تجتمع كل هذه الخصال فى أحدٍ وبلغت فيه غاياتها القصوى إلى مالا يأخذه حَصرٌ ولا يُعَبِّر عنه مقال مثلما كانت فى رسول الله ، وهذا أمر لا يُنَال بكَسبٍ ولا حيلة؛ إلا بتخصيص الله له بفضيلة النبوة والرسالة والمحبة والاصطفاء التام على العالمين.

ونورد هنا بعضاً من صفات خُلُقه العظيم مما ذكره مشاهير العلماء الثقات ... ومما أدَّب عليه الله تعالى نبيه ؛ وأدبه سبحانة فى شأن نبيه أمر نافذ، فهو سبحانه لا يأمره ليتعلم بل يأمره لنتعلم نحن أخلاقه التى أدبه بها ربه سبحانه، ومن ذلك قوله سبحانه ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ الأعراف 199، ورُوِى أن النبى لما نزلت هذه الآية سأل جبريل عن تأويلها فقال: حتى أسأل العَالِم. فعرج، ثم رجع فأتاه فقال "يامحمد إن الله يأمرك أن تصل من قطعك وتعطى من حرمك وتعفو عمن ظلمك". وهذه هى أخلاق الحلم.

وفى ذلك يقول الإمام ابن عجيبة:

يقول الحقّ : لنبيه : ﴿خُذ العفوَ﴾ أى: اليسر من أخلاق الناس ولا تبحث عنها. وخذ من الناس فى أخلاقهم وأموالهم ومعاشرتهم ما سهل وتيسر مما لا يشق عليهم؛ لئلا ينفروا. فهو كقول الشاعر: خُذِ العَفْوَ مِنِّى تَسْتَدِيمى مَوَدَّتِى ... وخذ فى الصدقات ما سهل على الناس من أموالهم وهو الوسط، ولا تأخذ كرائم أموالهم مما يشق عليهم، وتمسك بالعفو عمن ظلمك ولا تُعاقبه.

﴿وأْمر بالعُرْفِ﴾ أى: المعروف، وهو أفعال الخير، أو العرف الجارى بين الناس. واحتج المالكية بذلك على الحكم بالعرف الذى يجرى بين الناس. ﴿وأعرض عن الجاهلين﴾ أى: لا تكافىء السفهاء على قولهم أو فعلهم، واحلم عليهم.

وعن جعفر الصادق (أمر الله نبيه فيها بمكارم الأخلاق)، وهى على هذا ثابتة الحكم، وهو الصحيح حيث قيل: كانت مداراة للكفار، ثم نسخت بالقتال. ولا تعارض بينهما حيث أنها تدعو إلى الحلم ولكنه كان يشمل الكفار ثم أمرهم الله بقتالهم.

ومن تفسير بن عباس: ﴿خُذِ العفو﴾ يقال خذ العفو اعف عمن ظلمك وأعط من حرمك وصل من قطعك ﴿وَأْمُرْ بالعرف﴾ بالمعروف والإحسان ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين﴾ عن أبى جهل وأصحابه المستهزئين ثم نسخ الإعراض. بمعنى انهم أمرو بقتالهم حتى لا تكون فتنة.

ومن تفسير الطبرى: عن ابن الزبير قال: ما أنزل الله هذه الآية إلا فى أخلاق الناس ﴿خذ العفو وأمر بالعرف﴾. وعنه أيضا ﴿خذ العفو﴾ قال: من أخلاق الناس، والله لآخذنَّه منهم ما صحبتم. فيكون قوله ﴿خذ العفو﴾، أمرًا بأخذه ما لم يجب غيرُ العفو -مثلما وجب غيره مع الكفار وقتها- فإذا وجب غيره أخذ الواجب وغير الواجب إذا أمكن ذلك. فلا يحكم على الآية بأنها منسوخة.

ومن تفسير النيسابورى:

أرشد إلى مكارم الأخلاق، والعفو: الفضل وكل ما أتى من غير كلفة. واعلم أن الحقوق التى تستوفى من الناس إما أن يجوز إدخال المساهلة فيها وهو المراد بقوله ﴿خذ العفو﴾ ويدخل فى التخلق مع الناس بالخلق الحسن وترك الغلظة والفظاظة، ومن هذا الباب أن يدعو الخلق إلى الدين الحق بالرفق واللطف كما قال فى حق نبيه ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ آل عمران: 159. وإما أن لا يجوز دخول المسامحة فيها وذلك قوله ﴿وأمر بالعرف﴾ وهو والمعروف. والعارفة كل أمر عرف أنه لا بد من الإتيان به ويكون وجوده خيراً من عدمه، فلو اقتصر فى هذا القسم على الأخذ بالعفو ولم يبذل فى ذلك وسعه كان راضياً بتغيير الدين وإبطال الحق. ثم أمر بالمعروف ورغب فيه ونهى عن المنكر ونفر عنه فربما أقدم بعض الجاهلين على السفاهة والإيذاء فلهذا قال ﴿وأعرض عن الجاهلين﴾ قال عكرمة: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله (يا جبرائيل ما هذا؟) فقال: لا أدرى حتى أسأل ثم رجع فقال: يا محمد إن ربك أمرك أن تصل من قطعك وتعطى من حرمك وتعفو عمن ظلمك. وقال أهل العلم: تفسير جبرائيل مطابق للفظ الآية فإنك إذا وصلت من قطعك فقد عفوت عنه، وإذا أعطيت من حرمك فقد أمرت بالمعروف، وإذا عفوت عمن ظلمك فقد أعرضت عن الجاهل.

يروى عن جعفر الصادق : ليس فى القرآن العزيز آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية ولبعض المفسرين فى تفسير الآية طريق آخر قالوا ﴿خذ العفو﴾ أى ما أتوك به عفواً فخذه ولا تسأل ما وراء ذلك فنسخت بآية الزكاة ﴿وأمر بالعرف﴾ أى بإظهار الدين الحق وهذا غير منسوخ ﴿وأعرض عن الجاهلين﴾ أى المشركين وهذا منسوخة بآية القتال. والحق أن تخصيص أخذ العفو بالمال تقييماً للمطلق من غير دليل، ولو سلم فإيجاب الزكاة بالمقادير المخصوصة لا ينافى ذلك لأن آخذ الزكاة مأمور بأن لا يأخذ كرائم أموال الناس وأن لا يشدد الآمر على المزكى. انتهى كلام النيسابورى.

وإن كان ذلك أمر الله لنبيه تبيانا لحسن خلقه وحلمه لنا؛ فكيف بين لنا المطصفى ذلك بأخلاقه بيانا عمليا؟

لا خفاء لما يؤثر من حلمه واحتماله وأن كل حليم قد عُرِفَت منه زلة وحُفِظت عنه هفوة، وهو لا يزيد مع كثرة الأذى إلا صبراً، وعلى إسراف الجاهل إلا حِلماً.

وروى الإمام مالك عن السيدة عائشة (ما انتقم رسول الله لنفسه إلا أن تنتهك حُرمة الله تعالى فينتقم لله بها).

وروى أن النبى لما كُسِرت رُباعيته وشُجَّ وجهه يوم أحد شَقَّ ذلك على أصحابه وقالوا: لو دعوت عليهم، فقال (إِنِّى لَمْ أُبْعَثْ لَعَّاناً وَلَكِنْ بُعِثْتُ دَاعِياً وَرَحْمَةَ، اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِى فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلُمونَ). وتصدى له غورث بن الحارث ليفتك به، ورسول الله منتبذ تحت شجرة وحده وهو قائل فى وقت القيلولة والناس قائلون فى غزاة، فلم ينتبه رسول الله إلا والرجل قائم والسيف مُصلتاً فى يده، فقال الرجل: من يمنعك منى؟ فقال (اللهُ)، فسقط السيف من يده فأخذه النبى وقال (مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّى؟) فقال: كُن خير آخِذ. فتركه النبى وعفا عنه، فجاء الرجل إلى قومه فقال: جئتكم من عند خير الناس.

ومن عظيم ماورد عنه فى العفو: عفوه عن اليهودية التى سمَّته فى الشاة بعد اعترافها، وأنه لم يُؤَاخِذ لبيد بن الأعصم إذ سحره - وقد أُعْلَم به وأُوحِىَ إليه بشرح أمره - ولا عَتَب عليه فضلاً عن معاقبته. وكذلك لم يُؤَاخِذ عبد الله بن أُبىِّ وأشباهه من المنافقين بعظيم مانُقِل عنهم فى جهته قولاً وفعلاً بل قال لمن أشار عليه بقتل بعضهم (لاَ؛ كَىْ لاَ يُتَحَدَّث أَنَّ مُحَمَّداً يَقتُلُ أَصحَابَهُ). وقالت عائشة (مارأيتُ رسولَ الله منتصراً من مَظلَمة ظُلِمَها قط مالم تكن حرمة من محارم الله تعالى، وماضرب بيده شيئاً قط إلا أن يجاهد فى سبيل الله، وماضرب خادماً ولا امرأة). وجئ إليه برجل فقيل له: هذا أراد أن يقتلك، فقال له النبى (لَنْ تُرَاع، وَلَوْ أَرَدْتُ ذَلِكَ لَمْ تُسَلَّطْ عَلَىَّ) ...!! وقال أنس : هبط ثمانون رجلاً من التنعيم عند صلاة الصبح ليقتلوا الرسول ، فأُخِذُوا؛ فأعتقهم رسول الله ، فأنزل الله تعالى ﴿وَهُوَ الَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ الفتح 24، ولما قال له أحد الأعراب الغِلاظ أثناء قسمة الغنائم: إعدل فإن هذه قسمة ما أُرِيدَ بها وجه الله تعالى ... لم يزد فى جوابه أن قال (وَيْحَكَ!! فَمَنْ يَعْدِلْ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ؟!) ونهَى من أراد من أصحابه قتله. فكان رسول الله أبعد الناس غضباً وأسرعهم رضاً.

فاللهم علمنا أخلاقه ولقنا طباعه واهدنا بهديه واحملنا على سبيله إلى حضرتك حملا محفوفا بنصرتك وصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين وألحقنا بهم أجمعين. وإلى لقاء فى العدد القادم إن شاء الله.

د. ابراهيم الدسوقى

 
 

ومن أراد الاستزادة فليطلع على موقع النبى

أسرة التحرير