كتب السلف

لما كنا نحتاج باستمرار إلى كتب السابقين الغير محرفة، ولما كثر التحريف بفعل قلة غير مسئولة تقوم بإصدار الكتب المحرفة وطرحها فى الأسواق أو عرضها فى الشبكة العالمية للمعلومات، وسواء كان ذلك يتم بحسن نية أو بغيرها، فقد ظهرت الحاجة إلى البحث عن المصادر الصحيحة فى هذه الشبكة لكتب الصالحين وعلوم السابقين، ونحن نرشح لكم المواقع الصديقة التى تتحرى الدقة فيما تعرضه من كتب حتى تجدوا ما تحتاجونه من كتب وعلوم السابقين التى حاول البعض أن يدثروها ويغطوا عليها، ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المغرضون، وسنقوم باستعراض بعض الكتب التى أستشهد بها الإمام فخر الدين فى مؤلفاته ودروسه من هذه المواقع، وللمزيد عن تلك المواقع زوروا صفحة المكتبة من الموقع الرئيسى.

 

قرأت لك:

من أسماء الله:

اللطيف

 

هو الذى خلق الأرزاق والمرتزقة وأوصلها إليهم وخلق لهم أسباب التمتع بها، والرزق رزقان ظاهر وهى الأقوات والأطعمة وذلك للظواهر وهى الأبدان وباطن وهى المعارف والمكاشفات وذلك للقلوب والأسرار وهذا أشرف الرزقين فإن ثمرته حياة الأبد وثمرة الرزق الظاهر قوة الجسد إلى مدة قريبة الأمد والله هو المتولى لخلق الرزقين والمتفضل بالإيصال إلى كلا الفريقين ولكنه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر.

من أسماء الله الحسنى اسمه تبارك وتعالى (اللطيف) وذُكر هذا الإسم فى كتاب الله العزيز مرتان نصاً (اللطيف):

الأولى: فى سورة الأنعام الآية 103 وهو قوله تعالى ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾. والثانية: فى سورة الملك الآية 14 ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾.

قال ابن الأثير اللَّطِيف هو الذى اجتمع له الرِّفق فى الفعل والعلمُ بدقائق المصالح وإيصالها إلى من قدّرها له من خلقه. وفى معنى قوله تعالى ﴿وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ قال ساداتنا أهل اللعم والتفسير بكتاب الله الكثير والكثير، منها قول الإمام الفخر الرازى فى تفسيره المسمى بـ(التفسير الكبير أو مفاتيح الغيب): اللطافة ضد الكثافة، والمراد منه الرقة، وذلك فى حق الله ممتنع، فوجب المصير فيه إلى التأويل، وهو من وجوه:

الوجه الأول: المراد لطف صنعه فى تركيب أبدان الحيوانات من الأجزاء الدقيقة، والأغشية الرقيقة والمنافذ الضيقة التى لا يعلمها أحد إلا الله تعالى. والوجه الثانى: أنه سبحانه لطيف فى الإنعام والرأفة والرحمة. والوجه الثالث: أنه لطيف بعباده، حيث يثنى عليهم عند الطاعة، ويأمرهم بالتوبة عند المعصية، ولا يقطع عنهم سواد رحمته سواء كانوا مطيعين أو كانوا عصاة. والوجه الرابع: أنه لطيف بهم حيث لا يأمرهم فوق طاقتهم، وينعم عليهم بما هو فوق استحقاقهم، ولما كان الخبير من الخبر وهو العلم، فيكون المعنى أنه لطيف بعباده مع كونه عالماً بما هم عليه من ارتكاب المعاصى والإقدام على القبائح.

وذكر اسمه تبارك وتعالى فى الكتاب العزيز بدون التعريف (لطيف) فى أربع مواضع وهى: فى سورة يوسف الآية 100 ﴿إِنَّ رَبِّى لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ والآية 63 من سورة الحج ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ والآية 16 من سورة لقمان ﴿يَا بُنَىَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِى صَخْرَةٍ أَوْ فِى السَّمَاوَاتِ أَوْ فِى الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ والآية 19 من سورة الشورى ﴿اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِى الْعَزِيزُ﴾ وفى هذه الآية الأخيرة قال أهل العلم بالتأويل الكثير والكثير ومما قالوه نذكر: ﴿لَطِيفٌ﴾ أى عالم بدقائق الأمور وغوامضها، واللطيف هو المُلْطِف المحسن، وكلاهما فى وصفه صحيح، واللطف فى الحقيقة قدرة الطاعة، وما يكون سبب إحسانه للعبد اليومَ هو لُطْفٌ منه به.

ويقال: خَاطَبَ العابدين بقوله: ﴿لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ﴾ أى يعلم غوامضَ أحوالهم، من دقيق الرياء والتصنُّع لئلا يُعْجَبُوا بأحوالهم وأعمالهم، وخاطَبَ العُصاةَ بقوله: ﴿لَطِيفٌ﴾ لئلا ييأسوا من إحسانه. ويقال : خاطَبَ الأغنياءَ بقوله: ﴿لَطِيفٌ﴾ ليعلموا أنه يعلم دقائقَ معاملاتهم فى جمع المال من غير وجهه بنوع تأويل، وخاطَبَ الفقراءَ بقوله: ﴿لَطِيفٌ﴾ أى أنه مُحْسِنٌ يرزق من يشاء.

ويقال: سماعُ قوله: ﴿اللهُ﴾ يوجِبَ الهيبةَ والفزع، وسماعُ قوله: ﴿لَطِيفٌ﴾ يوجِبُ السكونَ والطمأنينة، فسماعُ قوله: ﴿اللهُ﴾ أوجب لهم تهويلاً، وسماع قوله: ﴿لَطِيفٌ﴾ أوجب لهم تأميلاً.

ويقال: اللطيفُ مَنْ يعطى قَدْرَ الكفاية وفوق ما يحتاج العبدُ إليه. ويقال: مَنْ لُطفِه بالعبد عِلْمُه بأنه لطيف، ولولا لُطفُه لَمَا عَرَفَ أنه لطيف. ويقال: مِنْ لُطْفِه أنه أعطاه فوق الكفاية، وكَلَّفَه دون الطاقة. ويقال: مِنْ لُطفِه بالعبد إبهام عاقبته عليه، لأنه لو علم سعادتَه لاتَّكَلَ عليه، وأَقَلَّ عملَه ولو عَلِمَ شقاوتَه لأيِسَ ولَتَرَكَ عَمَله، فأراده أن يستكثرَ فى الوقت من الطاعة. ويقال: من لطفه بالعبد إخفاءُ أَجِلِه عنه، لئلا يستوحش إن كان قد دنا أَجَلُه.

ويقال: من لطفه بالعبد أنه يُنْسِيَه ما عمله فى الدنيا من الزلّة، لئلا يتنغَّص عليه العَيْشُ فى الجنة. فسبحان الله على كل هذا اللطف بالعباد ومع ذلك ترى الناس لاهين عن طريق الحق منصرفين إلى ملذاتهم وشهواتهم تاركين طاعته، غير مبصرين لفضله عليهم وإحسانه إليهم حتى فى الآخرة يحسن إليهم بنسيانهم معاصيهم التى ارتكبوها فى الدنيا كى لا تكون مثل الغصة فى الحلق الى أبد.

وقال الإمام الغزالى فى المقصد الأسنى: إنما يستحق هذا الاسم من يعلم دقائق المصالح وغوامضها وما دق منها وما لطف ثم يسلك فى إيصالها إلى المستصلح سبيل الرفق دون العنف فإذا اجتمع الرفق فى الفعل واللطف فى الإدراك تم معنى اللطف ولا يتصور كمال ذلك فى العلم والفعل إلا لله سبحانه وتعالى فأما إحاطته بالدقائق والخفايا فلا يمكن تفصيل ذلك بل الخفى مكشوف فى علمه كالجلى من غير فرق وأما رفقه فى الأفعال ولطفه فيها فلا يدخل أيضا تحت الحصر إذ لا يعرف اللطف فى الفعل إلا من عرف تفاصيل أفعاله وعرف دقائق الرفق فيها وبقدر اتساع المعرفة فيها تتسع المعرفة لمعنى اسم اللطيف وشرح ذلك يستدعى تطويلا ثم لا يتصور أن يفى بعشر عشيرة مجلدات كثيرة وإنما يمكن التنبيه على بعض جمله.

فمن لطفه خلقه الجنين فى بطن أمه فى ظلمات ثلاث وحفظه فيها وتغذيته بواسطة السرة إلى أن ينفصل فيستقل بالتناول بالفم ثم إلهامه إياه عند الانفصال التقام الثدى وامتصاصه ولو فى ظلام الليل من غير تعليم ومشاهدة بل يتفقأ البيضة عن الفرخ وقد ألهمه التقاط الحب فى الحال ثم تأخير خلق السن عن أول الخلقة إلى وقت الحاجة للاستغناء فى الاغتذاء باللبن عن السن ثم إنباته السن بعد ذلك عند الحاجة إلى طحن الطعام ثم تقسيم الأسنان إلى عريضة للطحن وإلى أنياب للكسر وإلى ثنايا حادة الأطراف للقطع ثم استعمال اللسان الذى الغرض الأظهر منه النطق فى رد الطعام إلى المطحن كالمجرفة ولو ذكر لطفه فى تيسير لقمة يتناولها العبد من غير كلفة يتجشمها وقد تعاون على إصلاحها خلق لا يحصى عددهم من مصلح الأرض وزارعها وساقيها وحاصدها ومنقيها وطاحنها وعاجنها وخابزها إلى غير ذلك لكان لا يستوفى شرحه.

وعلى الجملة فهو من حيث دبر الأمور حكم ومن حيث أوجدها جواد ومن حيث رتبها مصور ومن حيث وضع كل شيء موضعه عدل ومن حيث لم يترك فيها دقائق وجوه الرفق لطيف ولن يعرف حقيقة هذه الأسماء من لم يعرف حقيقة هذه الأفعال.

ومن لطفه أنه يسر لهم الوصول إلى سعادة الأبد بسعى خفيف فى مدة قصيرة وهى العمر فإنه لا نسبة لها.

حظ العبد من هذا الوصف الرفق بعباد الله والتلطف بهم فى الدعوة إلى الله تعالى والهداية إلى سعادة الآخرة من غير إزراء وعنف ومن غير تعصب وخصام وأحسن وجوه اللطف فيه الجذب إلى قبول الحق بالشمائل والسيرة المرضية والأعمال الصالحة فإنها أوقع وألطف من الألفاظ المزينة.

أسرة التحرير

 

 

 

 

أماجد العلماء

الحمد لله الذى اختص العلماء بوراثه الانبياء والتخلق باخلاقهم وجعلهم القدوة للكافة، فقد ضل كثير من الناس وابتعدوا عن هدى الحبيب عندما تركوا الاخذ عن اكابر علماء هذه الامة وادمنوا الاخذ من الأصاغر ففارقوا ما كان عليه سلفهم الصالح وما استقرت عليه أمة المسلمين عقودا وقرونا.

قال (لازال الناس بخير ما اخذوا العلم عن أكابرهم، فاذا اخذوا العلم عن أصاغرهم هلكوا)، وقال (إن هذا الدين علم، فانظروا عمن تاخذون)، وقال (إذا قبض العلماء اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسُئلوا فافتوا بغير علم فضلوا واضلوا، ولا حول ولا قوه الا بالله).

ويقول الإمام فخر الدين محمد عثمان عبده البرهانى :

ولإن سُئلتم ما الكتاب فانه     مما رواه أماجد الأعلام

 والمجمع عليه عند السادة العلماء ان الواحد منهم لا ينتقص كلام سيدنا رسول الله  ولا يحكم بوضعه ولا يضعفه ولايقدح فيه الا اذا كان فى يده سند من آيات كتاب الله او سنة نبيه عليه افضل الصلاة وأزكى السلام, ومنذ بداية القرن الأول الهجرى والثانى والثالث والرابع وحتى يومنا هذا تولى ساداتنا من اماجد العلماء رضوان الله عليهم الحفاظ على تراث ديننا الحنيف كما احب واراد فكانت الاحاديث الصحيحة والتفاسير الصادقة واحداث التاريخ من بداية الرسالة المحمدية مع تسلسلها التاريخى إلى يومنا هذا محفوظة ومسندة بكل أمانة وصدق، ومن هؤلاء السادة العلماء الأجلاء ومع سيرته الطيبة كان

 

الإمام الليث بن سعد

 

هو الإمام الحافظ شيخ الديار المصرية وعالمها ورئيسها أبو الحارث الليث بن سعد عبد الرحمن الفهمى الأصبهانى الأصل المصرى، ولد سنة أربع وتسعين فى خلافة الوليد بن عبد الملك (94 - 175 ه)، وكان ثقة كثير الحديث صحيحه وكان إمام أهل مصر فى عصره، حديثا وفقها، واستقل بالفتوى فى زمانه بمصر وكان سريا من الرجال نبيلا سخيا له ضيافة، وهو لعلمه عقول، ولماله بذول، كان يعلم الأحكام مليا ويبذل الأموال سخيا وقيل إن التصوف السخاء والوفاء. وأصله من خراسان، ومولده فى قلقشندة، ووفاته فى القاهرة. وكان من الكرماء الاجواد. وكانت أخباره كثيرة، وله تصانيف.

حج سنة ثلاث عشرة وله تسعة عشر عامًا فلحق الكبار وكان كبير الديار المصرية وعالمها الأنبل حتى أن نائب مصر وقاضيها من تحت أوامره وإذا رابه من أحد منهم أمر كاتب فيه الخليفة فيعزله وقد طلب منه المنصور أن يعمل نيابة الملك فامتنع، وكان الشافعى يتأسف على فواته وكان يقول: هو أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به. وقال أيضا: كان أتبع للأثر من مالك. وقال يحيى بن بكير: هو أفقه من مالك لكن الحظوظ لمالك وقال ابن وهب: لولا الليث ومالك لضللنا. والمعنى أن الإمام الليث والإمام مالك كانا فى رتب الحديث فى زمانهما أظهر الأئمة.

من حدث عنهم وحدثوا عنه:

حدث عن عطاء بن أبى رباح ونافع العمرى وابن أبى مليكة ونافع مولى ابن عمر وسعيد المقبرى والزهرى وأبى الزبير المكى ومشرح بن هاعان وأبى قبيل المعافرى ويزيد بن أبى حبيب وجعفر بن ربيعة وخلق كثير. وينزل إلى أن يروى عن تلامذته. وقيل إنه أدرك نيفا وخمسين رجلا من التابعين وأدرك من تابعى التابعين ومن دونهم مائة وخمسين نفسا. وحدث عنه محمد بن عجلان وهو شيخه وابن وهب وسعيد بن أبى مريم وكاتبه عبد الله بن صالح ويحيى بن بكير ويحيى بن يحيى النيسابورى ويحيى بن يحيى القرطبى وقتيبة بن سعيد ومحمد بن رمح وعيسى بن حماد وأبو الجهم الباهلى ومن الأعلام هشيم بن بشير وعلى بن غراب وحيان بن على العنزى وعبدالله بن المبارك ومن المصريين ابن لهيعة وهشام بن سعد وعبدالله بن وهب وخلائق. ولقد روى الليث عن رسول الله أحاديث كثيرة صحيحة فى الإصحاحات الستة وغيرها.

قال محمد بن رميح: كان دخل الليث فى السنة ثمانين ألف دينار فما أوجب الله عليه زكاة قط، بل كان يحول عليه الحول وعليه دين. قلت كان أحد الأجواد بعث إلى مالك بألف دينار وأهدى إلى مالك مرة أحمال عصفر. وأعطى ابن لهيعة لما احترق منزله ألف دينار. ووصل منصور بن عمار الواعظ بألف دينار. وحج فأهدى إليه مالك بن أنس رطبا على طبق فرد إليه على الطبق ألف دينار ووصل منصور بن عمار القاضى بألف دينار وقال لا تسمع بهذا ابنى فتهون عليه. فبلغ ذلك شعيب بن الليث فوصله بألف دينار إلا دينارا وقال: إنما نقصتك هذا الدينار لئلا أساوى الشيخ فى عطيته.

قال يحيى بن بكير: قال الليث: قال لى أبو جعفر: تلى لى مصر؟ قلت: يا أمير المؤمنين إنى أضعف عن ذلك لأنى من الموالى، قال: ما بك ضعف معى ولكن ضعفت نيتك.

قال يحيى بن بكير لما قدم الليث العراق قال المهدى لوزيره يعقوب: الزم هذا الشيخ فإنه قد ثبت عندى أنه لم يبق أحد أعلم بما حمل منه. وروى عبد الملك بن يحيى بن بكير عن أبيه قال: ما رأيت أحدا أكمل من الليث، كان فقيه البدن عربى اللسان يحسن القرآن والنحو ويحفظ الشعر والحديث حسن المذاكرة وما زال خصالا جميلة حتى عد عشرا، لم أرَ مثله.

أبو الطاهر بن السرح عن ابن وهب قال: لولا مالك والليث هلكت، كنت أظن أن كل ما جاء عن النبى يفعل به. قال حرملة سمعت ابن وهب يقول: كان الليث يصل مالكا كل سنة بمائة دينار. وكتب مالك إليه أن على دينا فبعثه إليه بخمسمائة دينار. وقال الأثرم قال أحمد: ما فى هؤلاء المصريين أثبت من الليث لا عمرو بن الحارث ولا أحد.

قال سليمان بن حرب قومنا حمار شعبة وسرجه ولجامه بثمانية عشر درهما إلى العشرين فقال له محمد بن معاوية النيسابورى خرج الليث يوما فقومنا ثيابه ودابته وخاتمه بثمانية عشر ألف درهم إلى عشرين ألفا. مناقب الليث عديدة وهو إمام حجة كثيرة التصانيف، بين أبى العباس بن الشحنة وبينه ستة أنفس وهذا غاية العلو.

علمه وفتاواه:

تكلم الليث ابن سعد فى مسألة فقال له رجل: يا أبا الحارث فى كتابك غير هذا قال فى كتابى أوفى كتبنا ما إذا مر بنا هذبناه بعقولنا وألسنتنا.

وأبا صالح يقول كنا على باب مالك بن أنس فامتنع علينا فقلنا: ليس يشبه صاحبنا. قال فسمع مالك كلامنا فأدخلنا عليه فقال لنا: من صاحبكم. قلنا: الليث بن سعد. فقال: تشبهونى برجل كتبنا إليه فى قليل عصفر نصبغ به ثياب صبياننا فأنفذ إلينا ما صبغنا به ثيابنا وثياب صبياننا وثياب جيراننا وبعنا الفضلة بألف دينار.

وأبا رجاء قتيبة بن سعيد يقول: قفلنا مع الليث بن سعد من الاسكندرية وكان معه ثلاث سفائن سفينة فيها مطبخه وسفينة فيها عياله وسفينة فيها أضيافه.

وسليمان بن منصور بن عمار قال سمعت أبى يقول كنت عند الليث بن سعد يوما جالسا فأتته امرأة ومعها قدح فقالت: يا أبا الحارث إن زوجى يشتكى وقد نعت له العسل. فقال: اذهبى إلى أبى قسيمة فقولى له يعطيك مطرا من عسل. فذهبت فلم ألبث أن جاء أبو قسيمة فساره بشيء لا أدرى ما قال له، فرفع رأسه إليه فقال: اذهب فاعطها مطرا انها سألت بقدرها وأعطيناها بقدرنا. والمطر الفرق والفرق عشرون ومائة رطل. وهذا أكثر بكثير مما طلبته المرأة.

ومنصور بن عمار يقول كان الليث بن سعد إذا تكلم بمصر أحد، قفاه فتكلمت فى مسجد الجامع يوما فاذا رجلان قد دخلا من باب المسجد فوقفا على الحلقة فقالا: من المتكلم؟ فأشاروا الى، فقالا: أجب أبا الحارث الليث. فقمت وأنا أقول: واسوأتاه ألقى هكذا. فلما دخلت على الليث سلمت فقال لى: أنت المتكلم فى المسجد؟ قلت: نعم رحمك الله. فقال لى: اجلس ورد على الكلام الذى تكلمت به. فأخذت فى ذلك المجلس بعينه فرق الشيخ وبكى، وسرى عنى وأخذت فى صفة الجنة والنار، فبكى الشيخ حتى رحمته، ثم قال لى: بيده اسكت. فقال لى: ما اسمك؟ قلت: منصور. قال: ابن من؟ قلت: ابن عمار. قال: أنت أبو السرى؟ قلت: نعم. قال: الحمد لله الذى لم يمتنى حتى رأيتك. ثم قال: يا جارية! فجاءت فوقفت بين يديه فقال لها: جيئينى بكيس كذا وكذا. فجاءت بكيس فيه ألف دينار فقال: يا أبا السرى خذ هذا إليك وصن هذا الكلام أن تقف به على أبواب السلاطين ولا تمدحن أحدا من المخلوقين بعد مدحتك لرب العالمين ولك فى كل سنة مثلها. قلت: رحمك الله إن الله قد أنعم إلى وأحسن. قال: لاترد على شيئا أصلك به. فقبضتها وخرجت قال: لا تبطىء على. فلما كان فى الجمعة الثانية أتيته فقال لى: اذكر شيئا. فأخذت فى مجلس لى فتكلمت فبكى الشيخ وكثر بكاؤه فلما أردت أن أقوم قال: انظر ما فى ثنى الوسادة. فاذا خمسمائة دينار فقلت: رحمك الله عهدى بصلتك بالأمس. قال: لا ترد على شيئا أصلك به متى أراك؟ قلت: الجمعة الداخلة. قال: كأنك فتت عضوا من أعضائى. فلما كانت الجمعة الداخلة أتيته مودعا، فقال لى: خذ فى شيء أذكرك به. فتكلمت فبكى الشيخ وكثر بكاؤه ثم قال لى: يا منصور انظر ما فى ثنى الوسادة. فاذا ثلثمائة دينار قال أعدها للحج. ثم قال: يا جارية هاتى ثياب إحرام منصور. فجاءت بإزار فيه أربعون ثوبا قلت: رحمك الله أكتفى بثوبين. فقال لى: أنت رجل كريم فيصحبك قوم فاعطهم. وقال للجارية التى تحمل الثياب معه: وهذه الجارية لك. وقال أبو حاتم سليم بن منصور: سمعت أبى يقول: دخلت على الليث بن سعد يوما وعلى رأسه خادم يغمزه، فخرج ثم ضرب الليث بيده إلى مصلاه فاستخرج من تحته كيسا فيه ألف دينار، ثم رمى بها الى ثم قال: يا أبا السرى لا تعلم بها ابنى فتهون عليه.

وعبدالله بن صالح قال: صحبت الليث عشرين سنة لا يتغذى ولا يتعشى وحده إلا مع الناس وكان لا يأكل اللحم إلا أن يمرض.

وكان الليث بن سعد من أهل أصبهان من فارس، وابن زغبة يقول: سمعت الليث بن سعد يقول: نحن من أهل أصبهان فاستوصوا بهم خيرا.

وأسد بن موسى يقول كان عبد الله بن على يطلب بنى أمية فيقتلهم فلما دخلت مصر دخلتها فى هيئة رثة فدخلت على الليث بن سعد فلما فرغت من مجلسه خرجت فتبعنى خادم له فى دهليزه فقال: اجلس حتى أخرج إليك. فجلست فلما خرج إلى وأنا وحدى دفع إلى صرة فيها مائة دينار، فقال: يقول لك مولاى أصلح بهذه النفقة بعض أمرك، ولم من شعثك. وكان فى حوزتى هميان فيه ألف دينار فأخرجت الهميان فقلت: أنا عنها فى غنى استأذن لى على الشيخ. فاستأذن لى فدخلت فأخبرته بنسبى واعتذرت إليه من ردها وأخبرته بما مضى فقال: هذه صلة وليست بصدقة. فقلت: أكره أن أعود نفسى عادة وأنا فى غنى. فقال: ادفعها الى بعض أصحاب الحديث ممن تراه مستحقا لها. فلم يزل بى حتى أخذتها ففرقتها على جماعة.

وعبد الله بن صالح يقول: سمعت الليث بن سعد يقول: لما قدمت على هارون الرشيد قال لى: يا ليث ما صلاح بلدكم. قلت: يا أمير المؤمنين صلاح بلدنا بإجراء النيل وإصلاح أميرها ومن رأس العين يأتى الكدر فإذا صفا رأس العين صفت السواقى. فقال: صدقت يا أبا الحارث.

وقال خادم الرشيد: جرى بين هارون الرشيد وبين ابنة عمه زبيدة مناظرة وملاحاة فى شيء من الأشياء فقال هارون لها فى عرض كلامه أنت طالق إن لم أكن من أهل الجنة ثم ندم واغتما جميعا بهذه اليمين ونزلت بهما مصيبة لموضع ابنة عمه منه فجمع الفقهاء وسألهم عن هذه اليمين فلم يجد منها مخرجا ثم كتب إلى سائر البلدان من عمله أن يحمل إليه الفقهاء من بلدانهم فلما اجتمعوا جلس لهم وأدخلوا عليه وكنت واقفا بين يديه لأمر إن حدث يأمرنى بما شاء فيه فسألهم عن يمينه وكنت المعبر عنه وهل له منها مخلص فأجابه الفقهاء بأجوبة مختلفة وكان إذا ذاك فيهم الليث بن سعد فيمن أشخص من مصر وهو جالس فى آخر المجلس لم يتكلم بشيء وهارون يراعى الفقهاء واحدا واحدا، فقال بقى ذلك الشيخ فى آخر المجلس لم يتكلم بشيء فقلت له: إن أمير المؤمنين يقول لك مالك لا تتكلم كما تكلم أصحابك. فقال: قد سمع أمير المؤمنين قول الفقهاء وفيه مقنع. فقال: قل إن أمير المؤمنين يقول لو أردنا ذلك سمعنا من فقهائنا ولم نشخصكم من بلدانكم ولما أحضرت هذا المجلس. فقال: يخلى أمير المؤمنين مجلسه إن أراد أن يسمع كلامى فى ذلك. فانصرف من كان بمجلس أمير المؤمنين من الفقهاء والناس ثم قال: تكلم. فقال: يدنينى أمير المؤمنين. فقال: ليس بالحضرة إلا هذا الغلام وليس عليك منه عين. فقال: يا أمير المؤمنين أتكلم على الأمان وعلى طرح التعمل والهيبة والطاعة لى من أمير المؤمنين فى جميع ما آمر به. قال: لك ذلك. قال: يدعو أمير المؤمنين بمصحف جامع. فأمر به فأحضر. فقال: يأخذه أمير المؤمنين فيتصفحه حتى يصل إلى سورة الرحمن. فأخذه وتصفحه حتى وصل إلى سورة الرحمن فقال: يقرأ أمير المؤمنين فقرأ فلما بلغ ولمن خاف مقام ربه جنتان. قال: قف يا أمير المؤمنين ههنا. فوقف فقال: يقول أمير المؤمنين والله فاشتد على الرشيد وعلىَّ ذلك، فقال له هارون: ما هذا؟ قال: يا أمير المؤمنين على هذا وقع الشرط. فنكس أمير المؤمنين رأسه وكانت زبيدة فى بيت مسبل عليه ستر قريب من المجلس تسمع الخطاب، ثم رفع هارون رأسه إليه فقال: والله قال: الذى لا إله إلا هو الرحمن الرحيم إلى أن بلغ آخر اليمين، ثم قال: إنك يا أمير المؤمنين تخاف مقام الله. قال هارون: إنى أخاف مقام الله. فقال: يا أمير المؤمنين فهى جنتان وليست بجنة واحدة، كما ذكر الله تعالى فى كتابه. فسمعت التصفيق والفرح من خلف الستر. وقال هارون: أحسنت والله بارك الله فيك. ثم أمر بالجوائز والخلع لليث بن سعد، ثم قال هارون: يا شيخ اختر ما شئت وسل ما شئت تجب فيه. فقال: يا أمير المؤمنين وهذا الخادم الواقف على رأسك. فقال: وهذا الخادم. فقال: يا أمير المؤمنين والضياع التى لك بمصر ولابنة عمك أكون عليها وتسلم إلى لأنظر فى أمورها. قال: بل نقطعك إقطاعا. فقال: يا أمير المؤمنين ما أريد من هذا شيئا بل تكون فى يدى لأمير المؤمنين فلا يجرى على حيف العمال وأعز بذلك. فقال: لك ذلك. وأمر أن يكتب له ويسجل بما قال، وخرج من بين يدى أمير المؤمنين بجميع الجوائز والخلع والخادم، وأمرت زبيدة له بضعف ما أمر به الرشيد، فحمل إليه واستأذن فى الرجوع إلى مصر فحمل مكرما.

وفاته:

توفى الإمام الليث بن سعد يوم الجمعة لأربع عشرة ليلة بقيت من شعبان سنة خمس وستين ومائة فى خلافة المهدى وله إحدى وثمانون سنة رحمه الله تعالى.

ع صلاح