فى كل حين لنا أمل

 

فِى كُلِّ حِينٍ لَنَا فِى الْمُصْطَفَى أَمَلٌ    حَتَّى إِذَا حَانَتِ الْإِسْرَا يُسَرِّينَا (28/1)

من ديوان شراب الوصل للإمام فخر الدين يخبرنا أن من الصالحين من له نصيب فى إسراء الحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، فنذهب إلى الآية 1 من سورة الإسراء لنتعرف على هذا الخبر فنتعرف أولاً على التفاسير الشرعية ثم نتعرف على علم الإشارة والتأويل وعلم الحقيقة.

أولاً: التفاسير الشرعية: ومنها تفسير ابن كثير الذى يقول ﴿سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ الإسراء 1، يمجد تعالى نفسه، ويعظم شأنه، لقدرته على مالا يقدر عليه أحد سواه، فلا إله غيره ﴿الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾، يعنى محمدًا صلوات الله وسلامه عليه، ﴿لَيْلا﴾، أى فى جنح الليل ﴿مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾، وهو مسجد مكة ﴿إلى الْمَسْجِدِ الأقْصَى﴾، وهو بيت المقدس الذى هو إيلياء معدن الأنبياء من لدن إبراهيم الخليل؛ ولهذا جمعوا له هنالك كلهم، فَأمّهم فى مَحِلّتهم ودارهم، فدل على أنه هو الإمام الأعظم، والرئيس المقدم صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.

وقوله: ﴿الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾، أى: فى الزروع والثمار، ﴿لِنُرِيَهُ﴾، أى: محمدًا، ﴿مِنْ آيَاتِنَا﴾، أى: العظام كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾ النجم 18، وسنذكر من ذلك ماوردت به السنة من الأحاديث عنه صلوات الله عليه وسلامه، وقوله ﴿إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾، أى: السميع لأقوال عباده، مؤمنهم وكافرهم، مصدقهم ومكذبهم، البصير بهم فيعطى كلاً مايستحقه فى الدنيا والآخرة.

ذكر الأحاديث الواردة فى الإسراء: رواية أنس بن مالك: قال الإمام أبو عبد الله البخارى: حدثنى عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا سليمان -هو ابن بلال-عن شريك بن عبد الله قال: سمعت أنس بن مالك يقول ليلة أسرى برسول الله من مسجد الكعبة: إنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم فى المسجد الحرام فقال أولهم: أيهم هو؟ فقال أوسطهم: هو خيرهم، فقال آخرهم: خذوا خيرهم، فكانت تلك الليلة فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه، وتنام عيناه ولا ينام قلبه -وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم- فلم يكلموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم، فتولاه منهم جبريل، فشق جبريل مابين نحره إلى لبته حتى فرغ من صدره وجوفه، فغسله من ماء زمزم، بيده حتى أنقى جوفه، ثم أتى بطست من ذهب فيه تور من ذهب محشوًا إيمانًا وحكمة، فحشا به صدره ولغاديده -يعنى عروق حلقه- ثم أطبقه، ثم عرج به إلى السماء الدنيا، فضرب بابًا من أبوابها، فناداه أهل السماء: من هذا؟ فقال: جبريلٍ، قالوا: ومن معك؟ قال: معى محمد، قالوا: وقد بُعث إليه؟ قال: نعم، قالوا: مرحبًا به وأهلاً به، يستبشر به أهل السماء لا يعلم أهل السماء بما يريد الله به فى الأرض حتى يُعْلِمهم، ووجد فى السماء الدنيا آدم، فقال له جبريل: هذا أبوك آدم فسلِّم عليه، وردّ عليه آدم فقال: مرحبًا وأهلاً بابنى، نِعْمَ الابن أنت، فإذا هو فى السماء الدنيا بنهرين يطردان فقال: (ماهذان النهران ياجبريل؟) قال: هذا النيل والفرات عنصرهما، ثم مضى به فى السماء، فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد، فضرب يده فإذا هو مسك أذْفر فقال (ما هذا يا جبريل؟) قال: هذا الكوثر الذى خبأ لك ربك، ثم عرج إلى السماء الثانية، فقالت الملائكة له مثل ما قالت له الأولى: مَنْ هذا؟ قال: جبريل، قالوا: ومن معك؟ قال: محمد، قالوا: وقد بُعث إليه؟ قال: نعم. قالوا: مرحبًا وأهلاً وسهلاً، ثم عُرج به إلى السماء الثالثة، فقالوا له مثل ما قالت الأولى والثانية، ثم عُرج به إلى السماء الرابعة، فقالوا له مثل ذلك، ثم عُرج به إلى السماء الخامسة، فقالوا له مثل ذلك، ثم عُرج به إلى السماء السادسة، فقالوا له مثل ذلك، ثم عُرج به إلى السماء السابعة، فقالوا له مثل ذلك، كل سماء فيها أنبياء قد سماهم، قد وعيت منهم إدريس فى الثانية وهارون فى الرابعة، وآخر فى الخامسة لم أحفظ اسمه، وإبراهيم فى السادسة، وموسى فى السابعة بتفضيل كلام الله، فقال موسى: رب لم أظن أن يرفع على أحد، ثم عُلا به فوق ذلك، بما لا يعلمه إلا الله حتى جاء سِدْرَة المنتهى، ودنا الجبار رب العزة فتدلى، حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى، فأوحى الله إليه فيما يوحى: خمسين صلاة على أمتك كل يوم وليلة، ثم هبط به حتى بلغ موسى فاحتبسه موسى فقال: يامحمد ماذا عهد إليك ربك؟ قال (عهد إلى خمسين صلاة كل يوم وليلة)، قال: إن أمتك لا تستطيع ذلك فارجع فليخفف عنك ربك وعنهم، فالتفت النبى إلى جبريل كأنه يستشيره فى ذلك، فأشار إليه جبريل: أن نعم، إن شئت فعلا به إلى الجبار تعالى، فقال وهو فى مكانه (يا رب، خفف عنا، فإن أمتى لا تستطيع هذا)، فوضع عنه عشر صلوات، ثم رجع إلى موسى فاحتبسه، فلم يزل يردده موسى إلى ربه حتى صارت إلى خمس صلوات. ثم احتبسه موسى عند الخمس فقال: يامحمد، والله لقد راودت بنى إسرائيل قومى على أدنى من هذا، فضعفوا فتركوه، فأمتك أضعف أجسادًا وقلوبًا وأبدانًا وأبصارًا وأسماعًا، فارجع فليخفف عنك ربك، كل ذلك يلتفت النبى إلى جبريل ليشير عليه، ولا يكره ذلك جبريل، فرفعه عند الخامسة فقال (يارب، إن أمتى ضعفاء أجسادهم وقلوبهم وأسماعهم وأبدانهم فخفف عنا) فقال الجبار: يامحمد، قال (لبيك وسعديك)، قال: إنه لا يبدل القول لدىّ، كما فرضت عليك فى أم الكتاب: كل حسنة بعشر أمثالها، فهى خمسون فى أم الكتاب وهى خمس عليك، فرجع إلى موسى فقال: كيف فعلت؟ فقال (خفف عنا، أعطانا بكل حسنة عشر أمثالها) قال: موسى: قد والله راودت بنى إسرائيل على أدنى من ذلك فتركوه، فارجع إلى ربك فليخفف عنك أيضًا، قال رسول الله (ياموسى قد -والله- استحييت من ربى مما أختلف إليه) قال: فاهبط باسم الله، فاستيقظ وهو فى المسجد الحرام، هكذا ساقه البخارى فى كتاب التوحيد، ورواه فى صفة النبى ، عن إسماعيل بن أبى أُوَيْس عن أخيه أبى بكر عبد الحميد، عن سليمان بن بلال، وهذا من باب الشريعة.

ثانياً: علم الاشارة والتأويل: يقول الامام ابن عجيبة: قال بعض الصوفية: إنما قال تعالى ﴿بِعَبْدِهِ﴾، ولم يقل: بنبيه ولا برسوله؛ ليدل على أن كل من كَمُلت عبوديته كان له نصيب من الإسراء، غير أن الإسراء بالجسد مخصوص به ، وأما الإسراء بالروح فيقع للأولياء؛ على قدر تصفية الروح، وغيبتها عن هذا العالم الحسى، فتعرج أفكارهم وأرواحهم إلى ماوراء العرش، وتخوض فى بحار الجبروت، وأنوار الملكوت، كلٌّ على قدر تخليته وتحليته، وإنما خُص الإسراء بالليل؛ لكونه محل فراغ المناجاة والمواصلات، ولذلك رتب بعثه مقامًا محمودًا على التهجد بالليل فى هذه السورة، قاله المحشى: وقوله تعالى ﴿سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى﴾، قال الورتجبى: أى: تنزه عن إشارة الجهات والأماكن فى الفوقية، ومايتوهم الخلق؛ من أنه إذ أوْصل عبده إلى وراء الوراء، أنه كان فى مكان، أى: لا تتوهموا برفع عبده إلى ملكوت السماوات، أنه رُفع إلى مكان، أو هو فى مكان، فإن الأكوان والمكان أقل من خردلة فى وادى قدرته، أى فى بحر عظمته؛ ألا ترى إلى قوله (الكون فى يمين الرحمن أقل من خردلة) والعندية والفوقية منه، ونزّه نفسه عن أوهام المُشبّهات، حيث توهموا أنه أُسرى به إلى المكان، أى سبحان من تنزه عن هذه التهمة أ.هـ.

وقال القشيرى: أرسله الحق تعالى؛ ليتعلم أهلُ الأرض منه العبادة، ثم رَقَّاه إلى السماء ليتعلّمَ منه الملائكةُ آدابَ العبادة، قال تعالى ﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى﴾ النجم 17، وماالتَفَتَ يمينًا ولا شمالاً، ماطمع فى مقام، ولا فى إكرام، تحرر عن كلِّ طلبٍ وأرَبٍ، تلك الليلة أ.هـ.

قلت: ولذلك أكرمه الله تعالى بالرؤية، التى مُنِعَ منها نبيه موسى، حيث وقع منه الطلب ربما دلهم الأدب على ترك الطلب، وقال الورتجبى: أُسرى به عن رؤية فعله وآياته، إلى رؤية صفاته، ومن رؤية صفاته إلى رؤية ذاته، وأشهدَه مَشاهد جماله، فرأى الحق بالحق، وصار هنالك موصوفًا بوصف الحق، فكان صورتُه روحَه، وروحُه عقلَه، وعقلُه قلبَه، وقلبُه سرَّه، فرأى الحق بجميع وجوده؛ لأن وجوده فانٍ بجميعه، فصار عينًا من عيون الحق، فرأى الحق بجميع العيون، وسمع خطابه بجميع الأسماع، وعرف الحق بجميع القلوب أ.هـ.

وقال، فى قوله تعالى ﴿إلى الْمَسْجِدِ الأقْصَى﴾، سبب بداية المعراج بالذهاب إلى المسجد الأقصى، لأن هناك الآية الكبرى؛ من بركة أنوار تجليه لأرواح الأنبياء وأشباحهم، وهناك بقربه طور سيناء، وطور زيتا، والمصيصة، ومقام إبراهيم وموسى وعيسى، وفى تلك الجبال مواضع كشوف الحق، ولذلك قال ﴿بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾ أ.هـ.

فهذا البيت للإمام فخر الدين يعبر عن إنتظار الشيخ فى كل موعد للإسراء آمالاً أن يسريه الحبيب المصطفى فى مراقى المعراج.

فشمر يا أخى عن ساعدك واجتهد فى سلوكك وتقربك إلى الله تعالى حتى تكون ممن حظوا بنصيبٍ من إسراء الحبيب المصطفى جعلنا الله منهم آمين.

وإلى اللقاء فى العدد القادم بإذن الله تعالى، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

محمد مقبول