الصيام

 

يهل علينا بعد أيام قليلة شهر من أعظم الشهور وهو شهر أمة الحبيب المصطفى ، فقد أخرج الإمام السيوطى فى الجامع الكبير وابن عساكر فى معجمه أن رسول الله قال (رجب شهر الله وشعبان شهرى ورمضان شهر أمتى) وهو شهر رمضان الذى أنزل المولى تبارك وتعالى فيه القرآن وقد قال الحق سبحانه فى محكم التنزيل ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ البقرة 185، فكما فضل الحق من الأيام يوم الجمعة فضل من الشهور رمضان واختصه بنزول القرآن فيه، وأخبرنا الصادق الأمين أيضاً أن من فضائل هذا الشهر الكريم أن أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار، ونجد أيضا أن الحق سبحانه فضله بالصيام والقيام وأمرنا بصوم نهاره بقوله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ البقرة 183، والصوم هو أحد أركان الإسلام الخمس، فيجب علينا أن نقف عند هذا الأمر ونتدبره جيداً، وفى فضل صيام شهر رمضان نجد الكثير والكثير، وقد أخرج البخارى ومسلم وابن ماجه والترمذى وأبو داود والنسائى عن سيدنا رسول الله أنه قال (من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه) وفى رواية أخرى (من قام شهر رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه) فيا له من فضل، فصوم هذا الشهر إيمانا واحتسابا يؤدى إلى مغفرة ذنوب ما مضى من العمر، وأخرج أسحاق بن راهويه فى مسنده أن رسول الله قال (ثلاثة لاترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر وإمام عادل ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام ويفتح لها أبواب السماوات فيقول الرب : وعزتى لأنصرنك ولو بعد حين) وأخرج البزار فى مسنده أن رسول الله قال (ثلاث حق على الله أن لايرد لهم دعوة: الصائم حتى يفطر والمظلوم حتى ينتصر والمسافر حتى يرجع) فإذا كانت دعوة الصائم لاترد فما بالنا لو كان الصيام فى شهر رمضان.

وأخرج الترمذى فى سننه عن سيدنا معاذ بن جبل أنه قال: كنت مع النبى فى سفر فأصبحت يوما قريبا منه ونحن نسير فقلت: يا رسول الله أخبرنى بعمل يدخلنى الجنة ويباعدنى عن النار؟ قال (لقد سألتنى عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه تعبد الله ولا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة وتؤتى الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت)، ثم قال (ألا أدلك على أبواب الخير: الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار وصلاة الرجل من جوف الليل قال ثم تلا ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ﴾ حتى بلغ ﴿يَعْمَلُونَ﴾ ثم قال (ألا أخبرك برأس الأمر كله وعموده وذروة سنامه؟) قلت: بلى يا رسول الله. قال (رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد)، ثم قال (ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟) قلت: بلى يا نبى الله. فأخذ بلسانه قال (كف عليك هذا). فقلت: يا نبى الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال (ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس فى النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم).

وفى الصيام قالوا أنه على ضربين: صوم ظاهر: وهو الإمساك عن المفطرات مصحوباً بالنية، وصوم باطن: وهو صَوْنُ القلب عن الآفات، ثم صون الروح عن المساكنات، ثم صون السِّرِّ عن الملاحظات، فكما نجد للصوم أمراً ظاهراً نجد له أيضاً أمراً باطناً، فلا ينبغى علينا أن نقف عند ظاهره وفقط ليكتمل عندنا ما أراده الحق من حكمة الصوم، فصوم العابدين شرطه - حتى يَكْمُلَ - صونُ اللسان عن الغيبة، وصون الطَرْف عن النظر بالريبة كما فى الخبر (مَنْ صام فَلْيَصُمْ سمعه وبصره) وأما صوم العارفين فهو حفظ السر عن شهود كل غيره.

فإذا امتثل العابد لأمر الحق سبحانه بالصوم وأمسك عن المفطرات من شهوتى البطن والفرج فنجد أن نهاية صومه هو دخول الليل عليه بغروب الشمس، وكان هذا المراد بظاهر الصيام، ولكن نجد العارف لا يكتفى بهذا الحد من الصيام فحسب بل يرتقى إلى ما هو أثمن وأغلى، فمع امتثاله بظاهر الصيام نجد امتثال آخر بالإمساك عن الأغيار فنجد نهاية صومه الأخير هو شهود الحق، وفى الأمرين ظاهر الصيام للعابد وباطنه للعارف يتحقق حديث المصطفى بقوله (صوموا وأفطروا لرؤيته) فالهاء فى قوله (لرؤيته) تعود عند أهل التحقيق إلى الحق سبحانه، فالعلماءُ يقولون معناه عندهم صوموا إذا رايتم هلال رمضان وأفطروا لرؤية هلال شوال، وأما الخواص فصومهم لله لأن شهودهم الله وفطرهم بالله وإقبالهم على الله والغالب عليهم الله.

وتفنن العارفين من أهل التحقيق فى تأويل الآية ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ فقالوا: كُتب عليكم الصيام عن الحظوظ والشهوات، كما كتب على مَن سلك الطريق قبلكم من العارفين الثقات، فى أيام المجاهدة والرياضات، حتى تنزلوا بساحة حضرة المشاهدات، لعلكم تتقون شهود الكائنات، ويكشف لكم عن أسرار الذات، فمن كان فيما سلف من أيام عمره مريضاً بحب الهوى، أو على سفر فى طلب الدنيا، فليبادِرْ إلى تلافِى ما ضاع فى أيام أُخر، وعلى الأقوياء الذين يُطيقون هذا الصيام، إطعام الضعفاء من قُوت اليقين ومعرفة رب العالمين، فمَنْ تطوع خيراً بإرشاد العباد إلى ما يُقوِّى يقينهم، ويرفع فهو خير له، وأَنْ تَدُوموا أيها الأقوياء على صومكم عن شهود السَّوَى، وعن مخالطة الحس بعد التمكين، فهو خير لكم وأسلم، إن كنتم تعلمون ما فى مخالطة الحس من تفريق القلب وتوهين الهمم، إذ فى وقت هذا الصيام يتحقق وحى الفهم والإلهام، وتترادف الأنوار وسواطعُ العرفان، فمن شهد هذا فَلْيَدُمْ على صيامه، ومن لم يَقْدِر عليه فَلْيَبْكِ على نفسه فى تضييع أيامه.

وصنفوا أيضا الصيام وقالوا أنه على ثلاث درجات: صوم العوام ، وصوم الخواص، وصوم خواص الخواص:

فصوم العوام:

فهو كما ذكرنا إمساك المرء عن شهوتى البطن والفرج بزمن حدده الشارع لنا وهو من الفجر إلى الغروب، ولكن مع هذا لم يمسك جوارحه عن الوقوع فى الزلات وأيضا مع غفلة القلب وعدم الذكر، فنجد صاحب هذا الصوم لم يجنِ من صومه سوى الجوع، ذلك لأنه لم ير للحق فى هذا الأمر ألا ظاهره بالإمساك عن الشهوتين وفقط، ولم ينظر إلى مقصود الشارع ونجد الحبيب المصطفى يقول (مَنْ لم يَدَعْ قولَ الزُور والعملَ به فليس لله حاجةٌ فى أنْ يدع طعامَه وشرابَه).

وصوم الخواص:

فهو إمساك الجوارح كلَّها عن الفضول، وهو كل ما يشغل العبد عن الوصول، وحاصلُه: حفظ الجوارح الظاهرة والباطنة عن الاشتغال بما لا يَعْنِى.

وأما صوم خواص الخواص:

فهو حفظ القلب عن الالتفات لغير الرب، وحفظ السر عن الوقوف مع الغير، وحاصله: الإمساك عن شهود السِّوى، وعكوفُ القلب فى حضرة المولَى، وصاحب هذا صائم أبداً سرمداً.

ويتبين لنا من الصنفين الأخيرين للصيام وهما صيام الخواص وصيام خواص الخواص العلاقة ما بين الصيام والقواطع عن الله أى الأشياء التى تقطع المرء عن السير فى طريق الله والوصول إليه، فإمساك الجوارح كلها وحفظها ظاهراً وباطناً عن الإنشغال بما لا يعنى المرء هذا الأمر فيه تهذيب للنفس وكبح جماحها فى فرض سيطرتها على الجوارح وقيادتها حيث تشاء، الأمر الذى يجعل المرء فى استطاعته السير فى طريق الله دون أن تلويه نفسه عن المسار الصحيح، والحديث عن الصوم وفضائله لاينتهى ونلتقى معاً فى العدد القادم إن شاء الله لنتعرف على الصيام أكثر فأكثر.

سامر الليل

 

 

 

 أَحب عباد الله

 

أحب دائماً أن أكتب من كلام سيدنا على بن أبى طالب لأنه باب مدينه علم سيدنا رسول الله لقول سيدنا رسول الله (أنا مدينه العلم وعلى بابها)، وهو من تربى فى منزل رسول الله وزوج ابنته فاطمة الزهراء وأرضاها ووالد ريحانتى سيدنا رسول الله وسيدا شباب أهل الجنه الحسن والحسين أجمعين.

وأنقل إليكم الآن خطبة من خطبه وصف فيها أحب عباد الله إلى الله ثم وصف الضد ليوضح المعنى، فتعالى معى نسمع ماقاله وأرضاه:

عباد الله إن من أحب عباد الله إليه عبداً أعانه الله على نفسه فاستشعر الحزن وتجلبب الخوف، الحزن للعجز عن الوفاء بالواجب وهو من أعمال القلوب، أما الخوف فيظهر أثره فى البعد عما يغضب الله والمسارعة للعمل فيما يرضيه، فظهر مصباح الهدى فى قلبه، وأعد القرى ليومه النازل به، أكثر من العمل الصالح للقاء ربه، فقرب على نفسه البعيد وهون الشديد، جعل الموت نصب عينيه فهان عليه الصبر، نظر فأبصر، وذكر فاستكثر، ذكر الله فاكثر العمل فى رضاه، وأرتوى من عذب فرات سهلت له موارده فشرب نهلاً وسلك سبيلاً جدداً أى مشى فى طرق سهل السير فيها، قد خلع سرابيل الشهوات وتخلى من الهموم إلا هماً واحداً انفرد به، الهم الواحد هو أرضاء الله ورسوله، فخرج من صفه العمى ومشاركة أهل الهوى، وصار من مفاتيح أبواب الهدى ومغاليق أبوب الردى -ابواب الشر- قد أبصر طريقه، وسلك سبيله، وعرف مناره، وقطع غمارة - بمعنى أنه عبر بحار المهالك إلى سواحل النجاة - استمسك من العرى بأوثقها، ومن الحبال بأمتنها، فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس، قد نصب نفسه لله سبحانه فى أرفه الأمور من إصدار كل وارد عليه، وتصيير كل فرع إلى أصله، لأن من كان همه التزام حدود الله فى أوامره ونواهيه نفذت بصيرته إلى حقائق سر الله فى ذلك، فصار فى درجات العرفان بحيث لا يرد عليه أمر إلا أصدره على وجهه، ولا يعرض له فرع إلا رده إلى اصله، فبهذا صار مصباح ظلمات، كشاف غشاوات، مفتاح مبهمات، دفاع معضلات، ودليل فلوات، يهدى الضالين لنور الحق، ويوضح ماكان غير واضح، ويهون الشدائد من الأمور، ويدل من ضل فى الوديان، يقول فيفهم، ويسكت فيسلم، قد أخلص لله فاستخلص، فهو من معادن دينه، وأوتاد أرضه، قد ألزم نفسه العدل فكان أول عدله نفى الهوى عن نفسه، يصف الحق ويعمل به، لا يدع للخير غاية إلا أمها، ولا مظنة إلا قصدها، ماتأكد أو ظن أن فيه خير فعله، قد أمكن الكتاب من زمامه فهو قائده وإمامه، جعل كتاب الله أمامه يهديه لكل ماهو خير، يحل حيث حل ثقله وينزل حيث كان منزله، يفعل مايأمره به الكتاب، وينتهى عما نهى عنه، وصنف آخر من عباد الله قد تسمى عالماً وليس به، فاقتبس جهائل من جهال، وأضاليل من ضلال، ونصب للناس شركاً من حبائل غرور، وقول زور، قد حمل الكتاب على آرائه، وعطف الحق على أهوائه، فسر كتاب الله على هواه فضل وأضل، يؤمن من العظائم ويهون كبير الجرائم، أمن العقوبه فتجراء على فعل المعاصى، يقول: أقف عند الشبهات وفيها وقع، وأعتزل البدع وبينها أضجع، فالصورة صورة إنسان، والقلب قلب حيوان، لا يعرف باب الهدى فيتبعه، ولا باب العمى فيصد عنه، فذلك ميت الأحياء فأين تذهبون؟ وأنى تؤفكون؟ تصرفون والأعلام قائمة، والآيات واضحة، والمنار منصوبة، فأين يتاه بكم المعنى، الحلال بين، والحرام بين، فلا تختار طريق الضلال والحيرة، بل كيف تعمهون وبينكم عترة نبيكم وهم أزمة الحق وأعلام الدين وألسنه الصدق، فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن وردوهم ورد الهيم العطاش – والهيم هى الإبل التى لا تشبع من الماء - والمعنى كيف تتبعون من ضل ولديكم ذريه رسول الله وآل بيته، وهم من مدحهم القرآن فعظموهم وأسرعوا إلى بحار علومهم كما تسرع الإبل العطشى إلى الماء.

أيها الناس خذوها عن خاتم النبين إنه يموت من مات منا وليس بميت، ويبلى من بلى منا وليس ببال فلا تقولوا بما لا تعرفون، خذوا هذه الحقيقة عنه وهى أنه يموت الميت من أهل البيت وهو فى الحقيقة غير ميت لبقاء روحه ساطعة النور فى عالم الظهور، فإن أكثر الحق فيما تنكرون، الجاهل يستغمض الحقيقة فينكرها وأكثر الحقائق دقائق، واعذروا مالا حجه لكم عليه، وأنا هو، ألم أعمل فيكم بالثقل الأكبر واترك فيكم الثقل الأصغر - الثقل بمعنى النفيس من كل شئ، وفى الحديث عن النبى قال (تركت فيكم الثقلين كتاب الله وعترتى) أى النفيسين، وأمير المؤمنين سيدنا على قد عمل بالثقل الأكبر، وهو القرآن، وترك فينا الثقل الأصغر، وهما ولداه ويُقال: عترته قدوة للناس - وركزت فيكم راية الايمان، ووقفتكم على حدود الحلال والحرام، وألبستكم العافية من عدلى، وفرشتكم المعروف من قولى وفعلى، وأريتكم كرائم الاخلاق من نفسى، فلا تستعملوا الرأى فيما لا يدرك قعره البصر، ولا يتغلغل إليه الفكر - أى لا تكلفوا أنفسكم مالا تطيقون - حتى يظن الظان أن الدنيا معقولة على بنى أميه تمنحهم درها - يظن الظان أن الدنيا مقصورة على بنى أمية مسخرة لهم كأنهم شدوها بعقال كالناقة تمنحهم درها أى لبنها - وتوردهم صفوها، ولا يرفع عن هذه الأمة سوطها ولا سيفها، وكذب الظان ذلك، بل هى مجه من لذيذ العيش يتطعمونها برهة ثم يلفظونها جملة، أى هى قطره عسل تكون كما تكون فى فم النحلة، يذوقونها زمناً ثم يقذفونها.

انتهت خطبه سيدنا على اللهم اجعلنا ممن ترضى عنهم وألزمنا حبك وحب نبيك وأهل بيته الطاهرين المطهرين، ويسر لنا اتباعهم والأخذ عنهم بحق نور وجهك الكريم اللهم آمين.

التلميذ

 

 

من أراد الاستزادة فى هذا الموضوع فليتتبع صفحات الصوفية فى موقع الطريقة البرهانية.

أسرة التحرير