الاستغفار الحسن وخزائن العلم

 

ليس بيننا من هو لا يمر بضائقة أو ضائقات من أنواع مختلفة، وعندما نقرأ كتاب الله يستوقفنا قوله تعالى عن الاستغفار فى سورة نوح ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا • يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا • وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾ وقد يستغفر المرء منا آلاف المرات ولا يجد تغيير لحاله، ونحن نعلم، بل ولدينا يقين بصدق الحق سبحانه فى كلامه، وأن هذا القرآن حق، وكل قول لله ولرسوله حق، فهل نحن لا نحسن الاستغفار، أم لا ندرى معنى للآية الشريف، أم أين الخطأ؟!! لنصل سويا إلى ما يشفى صدورنا نتعرض لقصة أعرابى شكى حاله لأمير المؤمنين الإمام على بن أبى طالب من ضائقة لحقته وعكرت صفو حياته، فلما لم يجد حيلة همس فى نفسه بأن يطرق باب العترة النبوية الشريفة ويشكو حاله، لعله يجد ضالته أو تنفرج همومه من خلال باب مدينة العلم.

فبدأ الأعرابى حديثه لأمير المؤمنين عن شدة ألمت به، وضيقاً فى الحال، وقلة فى المال، وكثرة فى العيال.

فقال له : عليك بالاستغفار، فإن الله تعالى يقول ﴿اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ ...﴾.

فعاد الأعرابى إليه وقال: يا أمير المؤمنين قد استغفرت كثيراً وما أرى فرجاً مما أنا فيه.

فقال له : لعلك لا تحسن الاستغفار.

فقال الأعرابى: علمنى.

قال : أخلص نيتك، وأطع ربك، وقل: اللهم إنى أستغفرك من كل ذنب، قوى عليه بدنى بعافيتك، أو نالته يدى بفضل نعمتك، أو بسطت إليه يدى بسابغ رزقك، أو اتكلت فيه عند خوفى منه على أناتك، أو وثقت فيه بحلمك، أو عولت فيه على كرم عفوك، اللهم إنى أستغفرك من كل ذنب خنت فيه أمانتى، أو بخست فيه نفسى، أو قدمت فيه لذتى، أو آثرت فيه شهوتى، أو سعيت فيه لغيرى، أو استغويت فيه من تبعنى، أو غُلبت فيه بفضل حيلتى، أو أحلت فيه عليك يا مولاى، فلم تؤاخذنى على فعلى، إذ كنت -سبحانك- كارهاً لمعصيتى، لكن سبق علمك فى باختيارى، واستعمالى مرادى وإيثارى، فحلمت عنى، لم تدخلنى فيه جبراً، ولم تحملنى عليه قهراً، ولم تظلمنى شيئاً، يا أرحم الراحمين، يا صاحبى عند شدتى، يا مؤنسى فى وحدتى، ويا حافظى عند غربتى، يا وليى فى نعمتى، ويا كاشف كربتى، ويا سامع دعوتى، ويا راحم عبرتى، ويا مقيل عثرتى، يا إلهى بالتحقيق، يا ركنى الوثيق، يا رجائى فى الضيق، يا مولاى الشفيق، ويارب البيت العتيق، أخرجنى من حلق المضيق، إلى سعة الطريق، وفرج من عندك قريب وثيق، واكشف عنى كل شدة وضيق، واكفنى ما أطيق وما لا أطيق، اللهم فرج عنى كل هم وكرب، وأخرجنى من كل غم وحزن، يا فارج الهم، ويا كاشف الغم، ويا منزل القطر، ويا مجيب دعوة المضطر، يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمها، صل على خيرتك محمد النبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وفرج عنى ما ضاق به صدرى، وعيل معه صبرى، وقلت فيه حيلتى، وضعفت له قوتى، يا كاشف كل ضر وبلية، ويا عالم كل سر وخفية، يا أرحم الراحمين، وأفوض أمرى إلى الله، إن الله بصير بالعباد، وما توفيقى إلا بالله، عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم.

قال الأعرابى: فاستغفرت بذلك مراراً، فكشف الله عز وجل عنى الغم والضيق، ووسع على فى الرزق، وأزال عنى المحنة.

من هذه القصة نتعلم أشياء عدة:

·       أن نحسن ما نفعله.

·       أن نخلص النية لله فى العمل.

·       أن نطلب العلم من أهله.

وطلب العلم من أهله مصداقا لما حكاه سيدنا كميل بن زياد فقال: أخذ على بن أبى طالب بيدى فأخرجنى إلى الجبانة فلما أصحر تنفس الصعداء ثم قال:

 يا كميل بن زياد إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها، فاحفظ ما أقول لك، الناس ثلاثة: عالم ربانى، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق، يا كميل .. العلم خير من المال، والعلم يحرسك وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو بالإنفاق، وصنيع المال يزول بزواله، يا كميل .. معرفة العلم زين يزان به، يكتسب به الإنسان الطاعة فى حياته، وجميل الأحدوثة بعد وفاته، والعلم حاكم والمال محكوم عليه، مات خُزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقى الدهر أعيانهم مفقودة وأمثالهم فى القلوب موجودة.

ثم مضى فى أوصاف العلماء حتى بكى وقال:

وا شوقاه إلى رؤيتهم فهذه كلها أوصاف علماء الآخرة، وهذه نعوت علم الباطن وعلم القلوب لا علم الألسنة، وكذلك وصفهم معاذ بن جبل فى وصف العلم بالله تعالى.

وقد أورد لنا هذه القصة الفخر الرازى فى تفسير قوله تعالى ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ كما ذكرها صاحب تاريخ دمشق وصاحب حلية الأولياء وصاحب كنز العمال.

أما حديث سيدنا معاذ بن جبل فى وصف العلم فيقول:

تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه من لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة، وهو الأنيس فى الوحدة والصاحب فى الخلوة والدليل على الدين، والمصبر على السراء والضراء، والوزير عند الإخلاء والقريب عند الغرباء ومنار سبيل الجنة، يرفع الله به أقواما فيجعلهم فى الخير قادة سادة هداه، يقتدى بهم أدلة فى الخير، تقتص آثارهم وترمق أفعالهم، وترغب الملائكة فى خلتهم وبأجنحتها تمسحهم، وكل رطب ويابس لهم يستغفر، حتى حيتان البحر وهوامه، وسباع البر وأنعامه، والسماء ونجومها، لأن العالم حية القلوب من العمى، ونور الأبصار فى الظلم، وقوة الأبدان من الضعف، يبلغ به العبد منازل الأبرار والدرجات العلى، والتفكر فيه يعدل بالصيام، ومدارسته بالقيام، به يطاع الله عز وجل، وبه يعبد، وبه يوحد، وبه يمجد، وبه يتورع، وبه توصل الأرحام، وبه يعرف الحلال والحرام، وهو إمام والعمل تابعه، يلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء.

التلميذ

 

 

 

 

من أراد الاستزادة فى هذا الموضوع فليتتبع صفحات الصوفية فى موقع الطريقة البرهانية.

أسرة التحرير