ريح رخائى

 

فى رحاب البيت التاسع والسبعين من القصيدة الأولى المُعَنْوَنَة بالتائية من درر الإمام فخر الدين بديوانه شراب الوصل:

وَرِيحُ رُخَائِى تَحْمِلُ الْخَيْرَ لِلْدُّنَا  ...  أصِيبُ بِهَا مَنْ تَرْتَضِيهِ إِصَابَتِى 1/79

اللغة:

الريح الرُّخاء بالضم الريح اللينة السريعة التى لا تزعزع شيئا، قاله الليث بلسان العرب، وقال الجوهرى: وفى التنزيل العزيز ﴿تَجْرِى بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ص36 أى قصد, وقال الأخفش: أى جعلناها رخاء. والخير: الذى هو ضد الشر. والدُّنا: جمع دنيا. وأصيب بها: أى أقصد بها وأريد بها.

وإصابتى: إرادتى, والإصابة الإتيان بالصواب, وأصاب أى جاء بالصواب, وأصاب فى قوله إذا لم يخطئ, وفى حديث أبى وائل كان يُسأل عن التفسير فيقول: أصاب الله الذى أراد: أى أراد الله الذى أراد, وأصله من الصواب, ومن المجاز أصاب الشئ: وجده, وأصابه: أراده.

هذا من ناحية الاستناد إلى المعانى اللغوية من معجم تاج العروس للزبيدى.

الآية التى يُنْسب إليها البيت: ﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِى بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ص 36

جاء بتفسير ابن كثير أن الريح التى تجرى بأمره رخاء حيث أصاب غدوها شهر ورواحها شهر فهذا أسرع وخير من الخيل.

وربما سأل سائل أن الآية التى تسبق هذه الآية تقول:

﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِى وَهَبْ لِى مُلْكًا لَا يَنْبَغِى لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِى إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ص 35 فما معنى؟ ﴿لا يَنْبَغِى لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِى فقد جاء بتفسير ابن كثير ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِى وَهَبْ لِى مُلْكًا لَا يَنْبَغِى لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِى إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ.

قال بعضهم: معناه لا ينبغى لأحد من بعدى أى: لا يصلح لأحد أن يسلبنيه كما كان من قضية الجسد الذى ألقى على كرسيه، لا أنه يحجر على من بعده من الناس، والصحيح أنه سأل من الله تعالى ملكا لا يكون لأحد من بعده من البشر مثله، وهذا هو ظاهر السياق من الآية وبه وردت الأحاديث الصحيحة من طرق عديدة عن رسول الله .

فقد أخرج البخارى عند تفسير هذه الآية حديثا عن أبى هريرة عن النبى قال (إن عفريتا من الجن تَفَلَّت على البارحة -أو كلمة نحوها- ليقطع على الصلاة فأمكننى الله منه وأردت أن أربطه إلى سارية من سوارى المسجد حتى تُصبحوا وتنظروا إليه كلكم، فتذكرت قول أخى سليمان ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِى وَهَبْ لِى مُلْكًا لَا يَنْبَغِى لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِى.

نفهم من سياق الحديث أن الحبيب المصطفى قد أمكنه الله من العفريت وهمّ أن يربطه فى سوارى المسجد, فكيف لا ينبغى لأحد وكيف مكن الله الحبيب المصطفى من ذلك؟

وجاء بتفسير الماوردى: ﴿لَا يَنْبَغِى لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِى أى فى حياتى، وذلك لأنه قد فقد منه الخاتم قبل ذلك.

وجاء فى تفسير البيضاوى: ﴿لَا يَنْبَغِى لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِى لا يتسهل له ولا يكون, ليكون معجزة لى مناسبة لحالى أو لا ينبغى لأحد أن يسلبه منى بعد هذه السلبة.

وجاء بتفسيرالقشيرى: أى مُلْكاً لا يسلبه أحدٌ منى هذا كما سُلِبَ منى فى هذه المرة.

وقيل أراد انفراده به ليكونَ معجزةً له على قومه. وقيل أراد أنه لا ينبغى لأحدٍ من بعدى أن يسأل المُلْكَ، بل يجب أن يَكِلَ أمرَه إلى الله فى اختياره له. وقيل لم يقصد الأنبياء، ولكن قال لا ينبغى من بعدى لأحدٍ من الملوك.

وإنما سأل المُلْكَ لسياسة الناس، وإنصافِ بعضهم من بعض، والقيام بحقِّ الله، ولم يسأله لأَجْلِ مَيْلِه إلى الدنيا .. وهو كقول سيدنا يوسف ﴿اجْعَلْنِى عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ يوسف 55.

ويقال لم يطلب المُلْكَ الظاهرَ وإنما أراد به أن يَمْلِكَ نَفْسَه، فإن المَلِكَ على الحقيقة مَنْ يَمْلِكَ نَفْسَه، ومَنْ مَلَكَ نَفْسَه لم يَتَّبعْ هواه. ويقال أراد به كمالَ حالهِ فى شهود ربِّه حتى لا يَرَى معه غيرَه. ويقال سأل القناعة َالتى لا يبقى معها اختيار. ويقال علم أن سِرّ َنبيِّنا ألا يلاحِظَ الدنيا ولا ملكَها فقال ﴿لا يَنْبَغِى لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِى ص 35  لا لأنه بَخِلَ به على نبيِّنا ولكن لِعِلْمِه أنه لا ينظر إلى ذلك.

وجاء بتفسير الكشاف للزمخشرى:

﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِى وَهَبْ لِى مُلْكًا لَا يَنْبَغِى لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِى إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ص 35 قدم الاستغفار على استيهاب الملك جريا على عادة الأنبياء والصالحين فى تقديمهم أمر دينهم على أمور دنياهم ]لا ينبغى[ لا يتسهل ولا يكون، ومعنى ﴿من بعدى من دونى، فإن قلت: أما يشبه الحسد والحرص على الاستبداد بالنعمة أن يستعطى الله مالا يعطيه غيره؟ قلت: كان سليمان ناشئا فى بيت الملك والنبوة ووارثا لهما فأراد أن يطلب من ربه معجزة، فطلب على حسب إلفه ملكا زائدا على الممالك زيادة خارقة للعادة بالغة حد الإعجاز ليكون ذلك دليلا على نبوته قاهرا للمبعوث إليهم وأن يكون معجزة حتى يخرق العادات فذلك معنى قوله ﴿لَا يَنْبَغِى لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِى وقيل: كان ملكا عظيما فخاف أن يعطى مثله أحد فلا يحافظ على حدود الله فيه كما قالت الملائكة ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ البقرة 30 وقيل: ملكا لا أسلبه ولا يقوم غيرى فيه مقامى كما سلبته مرة.

ويجوز أن يقال: علم الله فيما اختصه به من ذلك الملك العظيم مصالح فى الدين، وعلم أنه لا يضطلع بأعبائه غيره وأوجبت الحكمة استيهابه، فأمره أن يستوهبه إياه فاستوهبه بأمر من الله على الصفة الذى علم الله أنه لا يضبطه عليها إلا هو وحده دون سائر عباده.

أو أراد أن يقول ملكا عظيما فقال ﴿لَا يَنْبَغِى لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِى ولم يقصد بذلك إلا عظم الملك وسعته كما تقول: لفلان ما ليس لأحد من الفضل والمال، وربما كان للناس أمثال ذلك ولكنك تريد تعظيم ما عنده.

وجاء بتفسير ابن عجيبة:

﴿وَهَبْ لِى مُلْكًا لَا يَنْبَغِى لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِى ليكون معجزةً لى، مناسبة لحالى، فإنه لما نشأ فى بيت الملك والنبوة وورثهما معاً، استدعى من ربه معجزة جامعة لحكمهما، أو لا ينبغى لأحد يسلبه منى بعد هذه السلبة، أو لا يصح لأحد من بعدى لعظمته وشدته.

الإشارة:

أما الإشارة فقد قال ابن عجيبة:

ما أعطى اللهُ عبداً مُكنةً إلا بعد محنة، ولا رفع مقاماً إلا بعد ابتلاء، وإما فى البدن والمال، إما فى الدين، إنْ صَحِبه رجوع وانكسار، كأنّ الله تعالى إذا أراد أن يرفع عبداً أهبطه إلى الأرض قهرية العبودية، ثم يرفعه إلى مشاهدة عظمة الربوبية، ثم يملكه الوجود بأسره يتصرف فيه بهمّته كيف شاء، ولذلك قيل فى معصية آدم: نعمت المعصية أورثت الخلافة، وشاهده حديث الحبيب المصطفى (أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلى) ومَن كان الله عنده، ماذا يفوته؟

وقوله تعالى: ﴿وهَبْ لى مُلكاً... قال القشيرى:

لم يطلب المُلكَ الظَاهر وإنما أراد به أن يَمْلِكَ نَفْسَه، فإن المَلِكَ على الحقيقة مَن ملَك نفسَه، فمَن مَلِكَها لم يَتَّبعْ هواه، أى: فيكون حرّاً، فيُملّكه الله التصرُّف فى الوجود.

ثم قال: ويُقال أراد به كمالَ حاله فى شهود ربه، حتى لا يَرى معه غيرَه، ويقال: سأل القناعة َالتى لا يبقى معها اختيار.

فتسخير الريح من جملة المُلك ويقول فيها من ناحية التأويل الشيخ ابن عربى :

﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ ريح الهوى ﴿تَجْرِى بِأَمْرِهِ رُخَاءً لينة طيعة منقادة لا تتزعزع بالاستيلاء والاستعصاء ﴿حَيْثُ قصد وأراد.

ولكل "خليفة زمن" نصيب من هذا العطاء ليصلح به شأن من اصطفاهم لهذا العطاء فى هذا الزمان، حتى أن الآية التى تليها بعد آيتين تقول ﴿هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ص 39 وفى هذه الآية يقول ابن عجيبة:

هو عند الأولياء ليس خاصاً بسيدنا سليمان، فكل مَن تمكَّن مع الله التمكُّن الكبير يُفوض إليه الأمر، ويقال: افعل ما شئت، وشاهده: حديث أهل بدر الذى قال (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ).

وبخصوص هذه الريح التى قال عنها الشيخ ابن عربى أنها ريح الهوى نذكر الآية الكريمة:

﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا الكهف 28

والحديث الحادى والأربعون من الأربعين النووية عن أبى محمد عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به) وكأن الشيخ يقول:

أن ريح هواى اللينة الطائعة المنقادة التابعة لِمَا جاء به الحبيب المصطفى تحمل من المعانى والعلوم الدينية الحقة التى تصلح من شأن كل من أردت أن أصيبه بها فيهتدى وتَصْلح دنياه ودينه وآخرته, وتجعل هواه هينا لينا منقادا تابعا لما جاء به الحبيب المصطفى .

اللهم اجعل هذه الريح من نصيبنا فيكون هوانا تبعا لما جاء به الحبيب المصطفى والى لقاء آخر.

 محمد مقبول

 

كمال الدين

كما تعودنا دوما أن نغترف من بحار القرآن والسنة المطهرة وعلوم أهل الله مع كلام وحكم الإمام فخر الدين فى نظمه الفريد نطرق بعضا من كلماته نسأل الإمدادات ونبتغى الإرفاد من المشرب الصفى العذب بسخاء الكف والجود ننهل من نفحات أيام الحج .. فافهم تغنم.

يقول الإمام فخر الدين :

كَمَالُ الدِّينِ فِى الأَرْكَانِ حَجٌّ.... لِبَيْتِ اللهِ فِى الْبَلَدِ الْحَرَامِ  49/1

على قلب الحبيب المصطفى يوم عرفة فى حجه المبارك يوم الجمعة نزل قوله تعالى ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ المائدة 3 فعن الشعبى قال: نَزَلَتْ عليه وهو واقف بعرفة، والمعنى أكملت لكم أيها المؤمنون فرائضى عليكم وحدودى، وأمرى إياكم ونهيى، وحلالى وحرامى، وتنزيلى من ذلك ما أنزلت منه فى كتابى، وتبيانى ما بيَّنت لكم منه بوحيى على لسان رسولى، فأتممت لكم جميع ذلك، فلا زيادة فيه بعد هذا اليوم.

وقالوا:

وكان ذلك فى يوم عرفة، عام حجَّ النبى حجة الوَدَاع، ولم ينزل على النبى بعد هذه الآية شئ من الفرائض، ولا تحليل شئ ولا تحريمه، وأن النبى لم يعش بعد نزول هذه الآية إلا إحدى وثمانين ليلة.

وفيما أخرج الإمام مسلم أنه لما نزل قوله تعالى ﴿وَأَذِّنْ فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ الحج 27 خطب رسول الله فقال:

أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: كل عام يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله : لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم، ثم قال: ذرونى ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شئ فدعوه.

وعن ابن عباس قال: قال رسول الله (لمكة ما أطيبك من بلد وأحبك إلى، ولولا أن قومى أخرجونى منك ما سكنت غيرك). وجاء عن رسول حين أخرجوه من مكة أنه وقف على الحزورة فقال (إنى لأعلم أنك خير أرض الله، ولولا أن أهلك أخرجونى منك ما خرجت).

ويقال: خير بلدة على وجه الأرض وأحبها إلى الله تعالى، يعنى مكة.

وروى أن الأرض دحيت منها، وأنه أول من طاف بالبيت الملائكة قبل آدم بألفى عام، وأنه لم يكن يهرب نبى من قومه إلا هرب إلى الكعبة فعبد الله تعالى فيها حتى يموت.

وقيل أن حول الكعبة قبور ثلاثمائة نبى، وأن قبور نوح وهود وشعيب وصالح عليهم السلام فيما بين الملتزم والمقام، وأن ما بين الركن الأسود إلى الركن اليمانى قبور سبعين نبيا.

ثم ما أعلم من بلدة ضرب إليها جميع الأنبياء والمرسلين خاصة ما ضرب إلى مكة، وفى شعب الإيمان للبيهقى عن كعب قال: اختار الله البلدان فأحب البلدان إلى الله البلد الحرام واختار الله الزمان فأحب الزمان إلى الله الأشهر الحرم وأحب الأشهر إلى الله ذو الحجة وأحب ذو الحجة إلى الله العشر الأول منه واختار الله الأيام فأحب الأيام إلى الله يوم الجمعة.

وأخرج ابن أبى شيبة عن سعيد بن جبير قال: ما أتى هذا البيت طالب حاجة لدين أو دنيا إلا رجع بحاجته، وأخرج أبو يعلى والدارقطنى والبيهقى عن السيدة عائشة قالت: قال رسول الله (من خرج فى هذا الوجه لحج أو عمرة فمات فيه لم يعرض ولم يحاسب وقيل له ادخل الجنة) وقال رسول الله (خذوا عنى مناسككم لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا) رواه مسلم، وقال رسول الله (الحج عرفة من أدركها قبل أن يطلع الفجر من ليلة جمعٍ فقد تم حجه) رواه النسائى.

وعن جابر بن عبد الله قال: رأيت رسول الله فى حجته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب فسمعته يقول (يا أيها الناس إنى تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتى أهل بيتى) رواه الترمذى.

وقال (اسعوا فإن الله كتب عليكم السعى) رواه الإمام أحمد وفيما روى الديلمى عن ابن مسعود أن النبى   طاف بالبيت ثم وضع يده عليه ودعا قائلا:

اللهم البيت بيتك ونحن عبيدك ونواصينا بيدك وتقلبنا فى قبضتك فإن تعذبنا فبذنوبنا وإن تغفر لنا فبرحمتك فرضت حجك لمن استطاع إليه سبيلا فلك الحمد على ما جعلت لنا من السبيل اللهم ارزقنا ثواب الشاكرين.

ويقول الإمام فخر الدين :

وَالْحَجُّ بَعْدُ إِنِ اسْتَطَعْتَ سَبِيلَهُ  ....  فَافْهَمْ فَفِيهِ تَتِمَّةُ الأَرْكَانِ  60/11

وفيما روى البيهقى عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله (النفقة فى الحج كالنفقة فى سبيل الله سبعمائة ضعف) وفى رواية أخرى عن أنس بن مالك قال: قال النبى (الحج سبيل الله عز وجل تضاعف نفقته سبعمائة ضعف).

وعن الإنفاق فى سبيل الله يشير الإمام فخر الدين بقوله:

فَتَخَيَّرُوا مَا تُنْفِقُونَ مِنَ الَّذِى .... طِبْتُمْ بِهِ نَفْساً فَذَاكَ النَّامِى  15/19

وقال (من حج فلم يرفث -وفى لفظ من حج البيت- وفى آخر من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وفى لفظ خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه)، رواه أحمد والنسائى وابن ماجه والشيخان وقال رسول الله (تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفى الكِيرُ خَبَثَ الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثوابُ دون الجنة) رواه الإمام أحمد والنسائى والترمذى وقال رسول الله (دعوت الله يوم عرفة أن يغفر لأمتى ذنوبها، فأجابنى أن قد غُفرت، إلا ذنوبها بينها وبين خلقى، فأعدت الدعاء يومئذ، فلم أجب بشئ، فلما كان غداة المزدلفة قلت: يا رب إنك قادر أن تعوض هذا المظلوم من ظلامته وتغفر لهذا الظالم! فأجابنى أن قد غفرت)، قال: فضحك رسول الله ، فقلنا: يا رسول الله رأيناك تضحك فى يوم لم تكن تضحك فيه؟ قال (ضحكت من عدو الله إبليس لما سمع بما سمع إذ هو يدعو بالويل والثبور، ويضع التراب على رأسه). رواه البيهقى وابو داود.

وعن أنس بن مالك قال وقف النبى بعرفات وكادت الشمس أن تؤوب، فقال (يا بلال انصت لى الناس)، فقام بلال فقال أنصتوا لرسول الله ، فنصت الناس فقال (معاشر الناس أتانى جبريل آنفا فأقرأنى من ربى السلام وقال إن الله غفر لأهل عرفات وأهل المشعر وضمن عنهم التبعات)، فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله هذا لنا خاص؟ فقال هذا لكم ولمن أتى بعدكم إلى يوم القيامة، فقال عمر : كثر خير الله وطاب.

وحكى أن سيدنا عمر بن الخطاب أشرف على أهل عرفات فقال: لو يعلم الجمع هنا بفناء من نزلوا لاستبشروا بالفضل بعد المغفرة.

وخطب سيدنا عمر بن عبد العزيز بعرفات فقال: إنكم وفد غير واحد وإنكم قد شخصتم من القريب والبعيد وأنضيتم الظهر وأرملتم وليس السابق اليوم من سبق بعيره ولا فرسه ولكن السابق اليوم من غفر الله له، وزاد حماد فى حديثه فقال له رجل: أين أصلى المغرب؟ فقال: حيث أدركتك من واديك هذا.

وفيما أخرج ابن ماجه عن سيدنا عبد الله بن عمر قال: رأيت رسول الله يطوف بالكعبة وهو يقول (ما أطيبك وأطيب ريحك ما أعظمك وأعظم حرمتك والذى نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك ماله ودمه وإن نظن به إلا خيرا).

ما أخرج البيهقى وابن أبى شيبة عن سيدنا عبد الله بن عباس أن النبى نظر إلى الكعبة فقال (ما أعظمك وأعظم حرمتك، والمؤمن أعظم حرمة منك: قد حرم الله دمه وماله وعرضه، وأن يظن به ظن السوء).

وعن أبا عثمان النهدى قال: سمعت عمر بن الخطاب وهو يطوف بالكعبة وهو يقول: اللهم إن كنت كتبتنى فى أهل السعادة فأثبتنى فيها، وإن كنت كتبت على الذنب والغضب فى الشقاء، فامحنى وأثبتنى فى أهل السعادة، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب.

وفيما روى ابن الجوزى فى "سيرة ومناقب أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب " عن أبى سعيد الخدرى قال: حججنا مع عمر أول حجة حجها من إمارته فلما دخل المسجد الحرام دنا من الحجر فقبله واستلمه وقال: أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أنى رأيته قبلك واستلمك ما أقبلك ولا أستلمك فقال له على : بلى يا أمير المؤمنين إنه يضر وينفع، ولو علمت تأويل ذلك من كتاب الله لعلمت أن الذى أقول لك كما أقول، قال الله عز وجل ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا الأعراف 172 فلما أقروا له بأنه الرب عز وجل وأنهم العبيد كتب ميثاقهم ثم ألقمه الحجر، وأنه يبعث له عينان ولسان وشفتان يشهد لمن وافاه بالموافاة، فهو أمين الله فى هذا المكان، فقال عمر لا أبقانى الله بأرض لست بها يا أبا الحسن.

وأخرج الإمام البخارى عن سيدنا عبد الله بن عباس قال النبى (يَرْحَمُ اللهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ - أَوْ قَالَ لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنَ الْمَاءِ - لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْناً مَعِيناً).

وروى الدارقطنى عن ابن عباس قال قال رسول الله (ماء زمزم لما شرب له إن شربته تشتفى به شفاك الله وإن شربته لشبعك أشبعك الله به وإن شربته لقطع ظمئك قطعه وهى هزمة -ضربها برجله- جبريل وسقيا الله إسماعيل).

ومن بركات زمزم أيضا أن النبى وضع فيها بقية شربته فدخل فيها بركته فعن طاوس قال: أن النبى عام حجة الوداع جاء زمزم فقال (ناولونى) فنول دلوا، فشرب منها ثم تمضمض فمج  فى الدلو، ثم أمر بما فى الدلو فأفرغ فى البئر، يعنى زمزم. رواه ابن سعد فى الطبقات.

وعن مقاتل قال: فى المسجد الحرام بين زمزم والركن قبر سبعين نبيا منهم هود وصالح وإسماعيل وقبر آدم، وإبراهيم  وإسحاق  ويعقوب  ويوسف  فى بيت المقدس. وفيما أخرج البزار عن مجاهد عن ابن عمر قال: قال رسول الله (فى مسجد الخيف قبر سبعين نبيا). وفى أخبار مكة للفاكهى عن سيدنا عبد الله بن عباس قال (قبر آدم بمكة أو فى مسجد الخيف وقبر حواء بجدة).

وعن النبى أنه قال (من حج فزار قبرى -وفى رواية- فزارنى بعد وفاتى عند قبرى كان كمن زارنى فى حياتى) رواه الطبرانى والبيهقى والدارقطنى وابن عساكر وأبى يعلى. وقال ﴿من حج البيت ولم يزرنى فقد جفانى رواه ابن عدى.

ويقول الإمام فخر الدين :

وَإِلَى رَسُولِ اللهِ شَدُّ رِحَالِنَا .... نَهْفُو إِلَيْهِ وَفِى الصُّدُورِ حَنِينُ  67/16

ويحكى عن رجل أنه قال: قلت للشبلى : إنى حججت. فقال: كيف فعلت؟

فقلت: اغتسلت وأحرمت وصليت ركعتين ولبيت. فقال لى: عقدت به الحج؟ فقلت: نعم. قال: فسخت بعقدك كل عقد عقدت منذ خلقت مما يضاد هذا العقد، قلت: لا. قال: فما عقدت.

ثم قال نزعت ثيابك؟ قلت: نعم. قال: تجردت عن كل فعل فعلت؟ قلت: لا. قال: ما نزعت.

فقال: تطهرت؟ قلت: نعم. قال: أزلت عنك كل علة؟ فقلت: لا. قال: فما تطهرت.

قال لبيت؟ قلت: نعم. قال: وجدت جواب التلبية مثلا بمثل؟ قلت: لا. قال: ما لبيت.

قال دخلت الحرم؟ قلت: نعم. قال: اعتقدت بدخولك ترك كل محرم؟ قلت: لا. قال: ما دخلت.

قال: أشرفت على مكة؟ قلت: نعم. قال: أشرف عليك حال من الله تعالى؟ قلت: لا. قال: ما أشرفت.

قال: دخلت المسجد الحرام؟ قلت: نعم. قال: دخلت الحضرة؟ قلت: لا. قال: ما دخلت المسجد الحرام.

قال: رأيت الكعبة؟ قلت: نعم. قال: رأيت ما قصدت له؟ قلت: لا. قال ما رأيت الكعبة.

قال رميت وسعيت؟ قلت: نعم. قال: هربت من الدنيا ووجدت أمنا مما هربت؟ قلت: لا. قال: ما فعلت شيئا.

قال: صافحت الحجر؟ قلت: نعم. قال: من صافح الحجر فقد صافح الحق ومن صافح الحق ظهر عليه أثر الأمن، أفظهر عليك ذلك؟ قلت: لا. قال: ما صافحت.

قال: أصليت ركعتين بعد؟ قلت: نعم. قال: أوجدت نفسك بين يدى الله تعالى؟ قلت: لا. قال: ما صليت.

قال: خرجت إلى الصفا؟ قلت: نعم. قال: أكبرت؟ قلت: نعم، فقال: أصفا سرك وصغرت فى عينك الأكوان؟ قلت: لا. قال ما خرجت ولا كبرت.

قال: هرولت فى سعيك؟ قلت: نعم. قال: هربت منه إليه؟ قلت: لا. قال: ما هرولت.

قال: وقفت على المروة؟ قلت: نعم. قال: رأيت نزول السكينة عليك وأنت عليها؟ قلت: لا. قال: ما وقفت على المروة.

قال: خرجت إلى منى؟ قلت: نعم. قال أعطيت ما تمنيت؟ قلت: لا. قال: ما خرجت.

قال: دخلت مسجد الخيف؟ قلت: نعم. قال: تجدد لك خوف؟ قلت: لا. قال: ما دخلت.

قال: مضيت إلى عرفات؟ قلت: نعم. قال: عرفت الحال الذى خلقت له والحال الذى تصير إليه؟ وهل عرفت من ربك ما كنت منكرا له؟ وهل تعرف الحق إليك بشئ؟ قلت: لا. قال: ما مضيت.

قال: نفرت إلى المشعر الحرام؟ قلت: نعم. قال: ذكرت الله تعالى فيه ذكرا أنساك ذكر ما سواه؟ قلت: لا. قال: ما نفرت.

قال: ذبحت؟ قلت: نعم. قال: أفنيت شهواتك وإراداتك فى رضاء الحق؟ قلت: لا. قال: ما ذبحت.

قال: رميت؟ قلت: نعم. قال: رميت جهلك منك بزيادة علم ظهر عليك؟ قلت: لا. قال: ما رميت.

قال: زرت؟ قلت: نعم، قال: كوشفت عن الحقائق؟ قلت: لا. قال: ما زرت.

قال: أحللت؟ قلت: نعم، قال: عزمت على الأكل من الحلال قدر ما تحفظ به نفسك؟ قلت: لا. قال: ما أحللت.

قال: ودعت؟ قلت: نعم، قال: خرجت من نفسك وروحك بالكلية؟ قلت: لا. قال: ما ودعت ولا حججت وعليك العود إن أحببت وإذا حججت فاجتهد أن تكون كما وصفت لك. انتهى

ويقول الإمام فخر الدين :

فَمَا كُلُّ مَنْ يَسْعَى إِلَى اللهِ وَاصِلٌ     إِلَى وَجْهِ مَنْ أَهْوَى صَفَاى وَمَرْوَتِى  1/259

وَلاَ كُلُّ مَنْ لَبَّى وَهَرْوَلَ مُحْرِماً               كَمَا أَنَّ أَرْوَاحَ الأَمَاجِدِ لَبَّتِ  1/260

وَلاَ كُلُّ مَنْ يَرْمِى الْجِمَارَ عَلَى مِنىً           بِقَاتِلِ نَفْسٍ أَوْ مُبَلَّغِ بُغْيَتِى  1/261

إبراهيم جعفر