المصطفى منا

 

يَا أَهْلَ بَدرِ يَا صَحَابَةَ أَحْمَدٍ     مَنْ لِلْقُلُوبِ شَرَابُهَا وَالزَّادُ (46/1)

الْمُصْطَفِى مِنَّا أَئِمَّةَ صَحْبِهِ         وَبِكَفِّهِ التَّقْرِيبُ وَالْإِبْعَادُ (46/2)

نستكمل ما قلناه بالعدد السابق عن أهل بدر فإنهم أهل القمر فى كماله حينما يسمى بدراً وهم صحابة أحمد وقلنا أن هذا الاسم الشريف يشير إلى الحقائق فهم فى صحبة حقيقة الحقائق من أطلعه الله على غيب ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، الذى هو شراب لقلوبنا من العلوم والحب وزاد لآخرتنا من التقوى، المصطفِى منا نحن المسلمون أئمة الصحابة أو المصطفِى منا نحن أهل البيت أئمة صحابته الذين رأوه حتى فى الرؤى لأن رؤياه حق فإن الشيطان لا يتمثل به، بل وهناك من يراه فى اليقظة، فبفضل هؤلاء الأئمة ومنهجهم السلوكى تكون رؤيا الحبيب والقرب منه وباصطفائه لهم وكفه بأس التجلى عن الشاربين يكون التقريب السرمدى وفى ذلك

يقول الإمام فخر الدين :

فَلِلتَّجَلِى شَرَابٌ غَيْرُ مُحْتَمَلٍ     وَكَفُّ بَأْسِ التَّجَلِّى تِلْكَ صَنْعَتُنَا (35/15)

لأن لهذا التجلى شراب ترتوى منه الأرواح بعلوم الحقائق العالية فإذا صُب مرة واحدة على المريد لأغرقه ولكن بفضل الحبيب المصطفى وبفضل خلفائه وورثته فى كل عصر الذين هم كالمُحوِّل الكهربائى الذى يُحوِّل الضغط العالى إلى ضغط يتحمله المذياع مثلاً وكذلك الماكينات الصغيرة التى لاتتحمل الضغط العإلى وإلا احترقت فكذلك يكون الحبيب المصطفى بالنسبة للخلفاء والمشايخ ويكون المشايخ بالنسبة للمريدين، وانظر القرآن عندما كان يتنزل على الحببيب كيف كان حاله؟ وماكان أحد مؤهل غيره لهذه المهمة. وانظر إلى اعتراض سيدنا موسى على الحقائق التى علمها الله تعإلى لسيدنا الخضر قبل أن يعرف أنها كانت من أمر الله وهذا بنص القرآن وانظر أيضاً إلى أن هذا العلم اختص الله به عباداً أهّلهم بالرحمة ثم أعطاهم العلم ثم يأتى سيدنا موسى الكليم والذى هو من أولى العزم ويقول لسيدنا الخضر:  ﴿هل أتّبعك على أن تعلمنى مما علمت رشداً﴾ وذلك بنص القرآن أيضاً لعل هذا أبلغ دليل من القرآن أن لهذه العلوم أهلها وأن الاعتراض عليها يكون اعتراض على ما أقره الله تعإلى فى كتابه العزيز.

وأما كفه ومنعه الشراب عن المنكر الذى أنكر علوم الحقيقة والتأويل فبسبب عدم قبول الهداية من ناحيتة هو وهذا هو الابعاد ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ القصص 56، فإنك ياحبيبى لا تهدى من تحبه ولكن الله يهدى من يحبك أنت.

ثم يقول :

كَمْ دَوْلَةٌ زَالَتْ وَلَكِنَّا بِهِ       سُدْنَا وَسَادَتْ دَوْلَةٌ وَعِبَادُ (46/3)

﴿وَتِلْكَ ٱلأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ﴾ آل عمران 140، ولكن دولة الحق من العباد الأولياء المتحققين الذين لا خوف عليهم ولاهم يحزنون هى السائدة بفضل اتباعهم للحبيب المصطفى وتنويره لهم.

ثم يقول :

الْوَعْدُ حَقٌّ وَالْمَلائِكُ عِنْدَهُ      وَهُوَ الْمَلِيكُ وَكلُّهُمْ أَجْنَادُ (46/4)

يقول : أن الله قد وعدكم يا أهل بدر بالنصر ووعده هو الحق. والملائك عنده -أى أن الملائكة عنده جاهزة لتنفيذ أوامره تبارك وتعإلى- فهو المليك -أى ربهم ومالكهم- وكلهم أجناد -أى أنصار وأعوان- وهو الغنى عن العالمين.

وهذا الوعد يتمثل فى الآية الكريمة رقم 7 من سور الأنفال ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ ٱللهُ إِحْدَى ٱلطَّآئِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ ٱلشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ ٱللهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ ٱلْكَافِرِينَ﴾، أنتم تريدون العير والغنيمة بدون جهاد وهو الحرب ويسمى شوكة لحدة السلاح وعند أهل التأويل جهاد النفس وهو الجهاد الأكبر كما أخبرنا المعصوم صلوات ربى وسلامه عليه، والوعد من الله بالنصرة على أعدائنا وهم الدنيا والهوى والنفس والشيطان، وأنه سبحانه سوف يساعدنا ويعاوننا بنصرة الملائكة كما نصر أهل بدر رضوان الله عليهم أجمعين وذلك سائر فى كل العصور.

ثم يقول :

لَا يَسْتَطِيعُ الْقَوْلُ فِيكُمْ أَنْ يَفِى    إِنَّ البِحَارَ لِذِكْرِكُمْ لَمِدَادُ (46/5)

فالقول لايستطيع أن يفيهم حقهم مما كانوا عليه من مكارم الأخلاق وطاعة الرسول الكريم ، فقد تخلقوا بأخلاق الله تعالى فصاروا صبغة الله ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً﴾ البقرة 138، حتى أصبحوا يسمعون بسمعه ويبصرون ببصره فاتصفوا بصفاته ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ ٱلْفِرْدَوْسِ نُزُلاً • خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً • قُل لَّوْ كَانَ ٱلْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّى لَنَفِدَ ٱلْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّى وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً﴾ الكهف 107-109، يقول سيدى ابن عجيبة فى الإشارة: إن الذين آمنوا إيمان الخصوص، وعملوا عمل الخصوص -وهو العمل الذى يقرب إلى الحضرة- كانت لهم جنة المعارف نُزلاً، خالدين فيها لا يبغون عنها حولاً؛ لأنَّ من تمكن من المعرفة لا يُعزل عنها، بفضل الله وكرمه، ثم يترقون فى معاريج التوحيد، وأسرار التفريد، أبدًا سرمدًا، لا نهاية؛ لأن ترقيتهم بكلمة القدرة الأزلية، وهى كلمة التكوين، التى لا تنفد؛ ﴿قُل لَّوْ كَانَ ٱلْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّى ...﴾ الآية. هذا مع كون وصف البشرية لا يزول عنهم أهـ. فمن اتصف بصفاته حتى أصبح سمعه وبصره ولسانه صار كلمة من كلماته التى لاتنفد فقد وصلوا إلى البقاء بالله بعد أن أفنوا أنفسهم فيه سبحانه فالقول فى ذكرهم لن يفى لأنهم أصبحوا ولهم حظ وافر من صفات الله تعالى قد تخلقوا بها بعد تجليه عليهم.

وَالنَّارُ إِنْ تَسْمَع حَدِيثًا عَنْكُمُ    فَهِىَ الْخَمِيدَةُ وَاللَّهِيبُ رَمَادُ (46/6)

رُوِى عن الحبيب (الفتنة نائمة لعن الله من ايقظها) لكننا نسمع من يقول أن الحديث ضعيف فنقول له هل أنت تحب الفتنة التى يقول القرآن عنها فى الآية 191 سورة البقرة ﴿وَٱلْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلْقَتْلِ﴾ نقول طالما أن الحديث قاله أحد العلماء وأقره البعض منهم فانظر ياأخى إلى مضمون الحديث فإن كان يحثك على عمل فضيلة أو عمل نافع فلما لا تعمل به وبمناسبة الحديث عن أهل بدر اقرأ إن شئت فى الآيتين 39، 40 سورة الانفال ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ • وَإِن تَوَلَّوْاْ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ﴾ فمن يئِد الفتنة إذا لم يئدها هؤلاء الصحابة العظام؟ فقد روى عن التبرك بأسماء أهل الكهف مما قاله الحافظ المؤرخ ابن طولون فى التبرك بأسماء أهل الكهف فى كتابه "ذخائر القصر" فى ترجمة محمد بن إبراهيم بن عمر بن إبراهيم بن مفلح الرامينى الأصل الصالحى الدمشقى الحنبلى ما نصه: وأنشدته ما وجدته بخط العلامة شهاب الدين بن حجّى الدمشقى ما أخبرنا به عنه أبو الفتح محمد بن محمد المزى قال: أخبرنا قاضى القضاة جمال أبو اليمن محمد بن أبى بكر المراغى المدنى بمنزله بها يوم الأحد الثامن والعشرين من صفر سنة ثمانمائة وخمسة عشر فى أسماء الكهف وأجاز لى روايته وجميع ما يجوز له روايته:

فأول الأسماء إن كتبته                        بخرقة ثم إذا نَبَذته
وسط الحريق أخمدت نيرانه       فى الوقت قد قالوا أتى برهانه

وللاستزاده فى موضوع التبرك إقرأ مقالة خدعوا "التبرك".

معذرة فقد اكتفيت ببيت واحد من القصيدة للاختصار فهذا شأن أهل الكهف فما بالنا بمن فروا بدينهم مع أعظم نبى ورسول عليه الصلاة وازكى السلام؟ فإن كانت فتنة فى الدين ثم ذكرنا سيرتهم العطرة وسَيْرهم مع الرسول الكريم ونقلنا عنهم الأحاديث التى لاتعتمد إلا بأسماء الرواه المشهود لهم بالأمانة والصدق، فعند سماع أسمائهم مع الحديث صدقنا فامتثلنا لأوامر الحديث فأخمدنا الفتنة فى مهدها، فكم من نار خمدت بفضل ذكر أسمائهم؟

نفعنا الله بهم فى الدنيا والآخرة وحشرنا معهم آمين.

وإلى العدد القادم بمشيئة الله لنستكمل الحديث عن درر سيدى الإمام فخر الدين، وصلى الله على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين.

محمد مقبول