تعظيم قدر النبى مسألة جعلها البعض مسألة شائكة بغير ضرورة .. وصنفوا أو لفقوا أسئلة تكلفوها لإثبات ما ذهبوا إليه .. فيقول قائل: هل يجوز التعظيم لغير الله؟!! والجواب بكل بساطة: نعم بل هو سنة مؤكدة بالحديث والقرآن. وتعالى نتدارسها بشرط أن تكون عاقلا عالما متجردا منصفا .. فإذا كنت كذلك سألتنا: كيف؟ فنقول لك وبالله التوفيق .. إذا كان هذا التعظيم بأمر من الله تماما كما أمر ملائكته بالسجود لغيره فسجدوا لآدم بل وطرد من خالف الأمر!! ونقول أيضا: على العاقل وطالب العلم النافع أن يفهم لغة العرب وخطابها، فتعظيم الله جل وعلا يكون على سبيل كونه معبودا ولا أحد سواه .. أما تعظيم غيره فعلى سبيل كونه عبدا بكل ما تحمله الكلمة من حقيقة المعنى .. فليس كل أحد يمكن أن يكون عبدا لله على التحقيق لا على المجاز .. ففى الكلمة من المدح ما لا يخفى على اللبيب الأديب الأريب، وهى أعلى كلمة مدح الله بها نبيه فلا يدانيه فيها أحد من الخلق أو العباد، وهى فى سورة الإسراء من أعظم ما وصف به النبى فيقول تعالى ﴿سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ الإسراء 1 .. ثم إن قارئ القرآن بتدبر يقع على آيات لا تخفى على أولى الألباب، فيها من الأمر المباشر ما يجعل الأمر يقتضى وجوب تعظيم النبى المصطفى بغير جدال .. ومن ذلك: آية الفتح: يقول ربنا تعالت حكمته ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا • لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ الفتح: 8، 9 .. قال القرطبى "وَتُعَزِّرُوهُ" أَيْ تُعَظِّمُوهُ وَتُفَخِّمُوهُ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَالْكَلْبِىُّ. والتعزير: التَّعْظِيمُ وَالتَّوْقِيرُ.. وقال ابن كثير ﴿لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ﴾ قال ابن عباس وغير واحد: يعظموه، ﴿وَتُوَقِّرُوهُ﴾ من التوقير وهو الاحترام والإجلال والإعظام، ﴿وَتُسَبِّحُوهُ﴾ أى: يسبحون الله، ﴿بُكْرَةً وَأَصِيلا﴾ أى: أول النهار وآخره.. وهو شبه إجماع لفظى لأهل التفاسير حتى عند من قال إن الضمائر فى الكلمات الثلاثة (تعزروه وتوقروه وتسبحوه) عائدة على (الله) إلا أنه قال: –وهو صاحب التحرير والتنوير- وَضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ الْمَنْصُوبَةُ الثَّلَاثَةُ عَائِدَةٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ لِأَنَّ إِفْرَادَ الضَّمَائِرِ مَعَ كَوْنِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهَا اسْمَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَحَدُهُمَا. وَالْقَرِينَةُ عَلَى تَعْيِينِ الْمُرَادِ ذِكْرُ وَتُسَبِّحُوهُ، وَلِأَنَّ عَطْفَ وَرَسُولِهِ عَلَى لَفْظِ الْجَلَالَةِ اعْتِدَادٌ بِأَنَّ الْإِيمَان بالرسول إِيمَانٌ بِاللهِ فَالْمَقْصُودُ هُوَ الْإِيمَانُ بِاللهِ. وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِى بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ: إِنَّ ضَمِيرَ تُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ عَائِدٌ إِلَى رَسُولِهِ. قلت: ومن أجمل ما قيل فى تخصيص الضمير فى (وتعزروه وتوقروه) للنبى ما قاله الأشمونى صاحب (منار الهدى فى الوقف والابتدا) حين أشار إلى موضع الوقف عند كلمة (وتوقروه) فقال: ووقف أبو حاتم السجستانى على (ونذيراً) وعلى (وتوقروه) فرقاً بين ما هو صفة لله وبين ما هو صفة للنبى ووسمه بـ (التام) وقال: لأن التعزير والتوقير للنبى ، والتسبيح لا يكون إلا لله تعالى والهاء فى (تسبحوه) تعود على الله تعالى، والهاء فى (وتوقروه) تعود على النبى فالكلام واحد متصل بعضه ببعض والكناية مختلفة كما ترى. ومن أراد الاستزادة فليقرأ مقالة "إن الذين يبايعونك". آية ﴿لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ النور: 63. قال ابن كثير: قال الضحاك، عن ابن عباس: كانوا يقولون: يا محمد، يا أبا القاسم، فنهاهم الله ، عن ذلك، إعظامًا لنبيه قال: فقالوا: يا رسول الله، يا نبى الله. وهكذا قال مجاهد، وسعيد بن جُبَير. وقال قتادة: أمر الله أن يهاب نبيه ، وأن يُبَجَّل وأن يعظَّم وأن يُسَوَّد. قلت: وقتادة هذا قال عنه الإمام ابن الجزرى صاحب (غاية النهاية فى طبقات القراء): هو قتادة بن دعامة أبو الخطاب السدوسى البصرى الأعمى المفسر أحد الأئمة فى حروف القرآن وله اختيار رويناه من كتاب الكامل وغيره، روى القراءة عن أبى العالية وأنس بن مالك وسمع من أنس ابن مالك وأبى الطفيل وسعيد بن المسيب وغيرهم، روى عنه الحروف أبان بن يزيد العطار وروى عنه أبو أيوب وشعبة وأبو عوانة وغيرهم وكان يضرب بحفظه المثل، توفى سنة سبع عشرة ومائة، وقال فيه الإمام أحمد بن حنبل: قتادة أعلم بالتفسير وباختلاف العلماء؛ ثم وصفه بالفقه والحفظ وأطنب فى ذكره وقال: قلما نجد من يتقدمه. قرأت عليه مرة صحيفة جابر فحفظها. قلت: فكلامه فى تفسير الآية المذكورة آنفا جدير بأن يكتب بماء الذهب، وينقش فى قلوب أهل الحب والأدب. وهو كذلك كما تبين من القرآن؛ بل إنه سنة مؤكدة عن رسول الله سيما وقد تضافرت أحاديث البشير النذير السراج المنير تدلنا وتدفع بنا دفعا إلى لزوم تعظيمه وتوقيره والأدب معه ، وما ذلك إلا لحكمة علية ولطيفة سنية قصدها الله ورسوله : وهى أن الأدب معه وتوقيره وتعزيره وتعظيمه وتبجيله أمر يحبه الله وتحبه الملائكة الكرام، فلا غرو أن يدلنا عليه لتحصل لنا الفائدة من ذلك ويصير الأمر كله سنة من آكد السنن، وما ظنك بمن اعتاد هذه الخصال وأدمنها وتخلق بها؛ كيف لا يكون من أهل القرب من جناب ذات البارى سبحانه وتعالى. فمن جملة ما روى عن النبى عن جابر بن عبد الله، قال: صعد رسول الله على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (من أنا؟) قلنا: رسول الله، قال: (نعم، ولكن من أنا؟) قلنا: أنت محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف قال: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر). قال الحاكم فى المستدرك هذا حديث صحيح الإسناد. قلت: وكأنى به يخصص هذا الصعود المبارك على منبره ، والذى لم يكن يفعله إلا لأمر جلل يريد أن يوجه إليه نظر الأمة، ليقول بلسانه الطاهر المطهر أنه سيد ولد آدم - لا فخرا أو تفاخرا - وإنما حقا وحقيقة وأمرا واقعا ورتبة يستحقها، بل ومستدركا على من عرَّفه بوصفه واسمه؛ بأنه لم يصب المراد والجواب على سؤال سيدنا رسول الله ، فعلمهم وعلمنا رسول الله أن كونه رسول الله وكونه محمد بن عبد الله لابد أن يكون مقيدا ومشفوعا ومربوطا باعتقاد أنه سيد ولد آدم من غير فخر، فصار أمر تسويده وتعظيمه وتبجيله وتوقيره ضرورة ينبنى عليها رضا المولى سبحانه وتعالى، وصدق الله العظيم إذ يقول ﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾ التحريم: 4، فما ظنك بمن كان الله مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة الكرام، فيا نعم المولى ويا نعم النصير ... وللحديث بقية د. إبراهيم الدسوقى
|
||
ومن أراد الاستزادة فليطلع على موقع النبى أسرة التحرير |
||
|