كنا قد نشرنا فى صفحات المناقشة جزء من هذا الموضوع، وها نحن فى هذا الباب الجديد نعيد نشره بطريقة متكاملة، لكى تعم الفائدة، وحتى لا يكون فيه إطالة، ولكى يكون فيه فرصة للتدارس والتعليق، فنحن ننشره على حلقات:

 

 

النفس الراضية

قال فيه مولانا :

والراضيات إذا العزائم ثبطت          رضيت بسير ثم باستبقاء

والملاحظ ان الشيخ جمع الراضية والمرضية فى بيت واحد، كما أشار سبحانه وتعالى بقوله ﴿ارجعى إلى ربك راضية مرضية﴾ فليس هناك فصل بين المقامين. ومن صفات هذه النفس حسن الخلق وترك كل ماسوى الله واللطف بالخلق والصفح عن ذنوبهم وحبهم والميل اليهم لاخراجهم من ظلمات طبائعهم وقال الشيخ ان هذه النفس ترضى بالقليل وترضى بالكثير تجمع بين حب الخلق والخالق وترضى بالشئ العظيم والشئ الدنىء ليس عندها رفض فهى راضية على كل حال من أجل ذلك ناقصة فيخشى على صاحبها أيضا ومن الغريب فى هذا المقام أنه يصعب التعرف على صاحب هذه النفس من حيث ظاهره ولكن من حيث باطنه فهو محل للأسرار. وقالوا سميت راضية أيضا لان الحق قد رضى عنها أى أعطاه ما تحتاجه من العلوم من حضرة الحى القيوم ويحدث لهذه النفس فناء آخر غير الفناء الذى مر بنا فهناك كان ذهول عن الحواس أما هذا الفناء فهو فناء عن محو الصفات البشرية والتهيئ للبقاء فانه أصبح قريب من استبدال الصفات النفسية بالصفات الالهية ولم يبق إلا اليسير وهذه النفس الراضية ليس لها وارد لان الوارد لايكون إلا مع وجود الاوصاف البشرية وقد زالت فى هذا المقام فهو فانى لانه مستغرق فى شهود الجمال ولا تحجبه هذه الحالة عن التحدث فى العلوم والنصح للخلق ودعوته لا ترد إلا ان لسانه لاينطق بها حياء وأدبا مع ربه وصار حب الخلق له قهرى ويقول الشيخ :

يرى عليه إذا رؤى وكأنه          لاشئ فيه مكانة ومكانا

من أجل ذلك يصعب التعرف عليه فاحذرمن فتنة الخلق لك وتقدم فما بقى إلا القليل وقف على باب شيخك حتى يفتح لك للدخول إلى المقام السادس والذى يسمى بالنفس المرضية.

 

النفس المرضية

وصفاتها هى نفس صفات الراضية فلا فصل بينهما ولكن الترحل فيها ترحل معنوى فقد رضى الله عنك وأعطاك ماتستحق من العلوم ومن شأن الكرام الوفاء بما وعدوا فهم الذين يضعون كل شئ فى موضعه ولذلك تجد الكامل منهم ينفق الكثير إذا صادف محله وأهله حتى يظن الجاهل أنه أسرف ويبخل بالقليل إذا لم يصادف محله وأهله حتى يقول الجاهل هذا بخل واحذر من مكر الحق فلا يأمن مكر الله إلا كل جاهل، ولا خائف من مكر الله إلا كل عارف، فان هذا المقام حقيقة على اللسان ثقيل عند الامتحان.

واعلم انك أصبحت مُهيئا لأن تدخل حضرة من عرف نفسه فقد عرف ربه فتعرف ربك بالعز والبقاء السرمدى فتكون مرآة عبوديتك مقابلة لمرآة الربوبية وهذا معنى قوله سبحانه وتعالى فى الحديث: [لم تسعني سمائي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن الشاكر اللين الوادع] فسبحانه وتعالى عن الشبيه والمثيل ويطلعك الحق أيضا على سر قوله ﴿ليس كمثله شئ وهو السميع البصير﴾.

 

النفس الكاملة

يقول الشيخ فيها:

ثم التى قبلت على علاتها            فى نحرها يبدو أجل فداء

من بعدها يحيى المريد بفطرة          ذاك الفطام وذا أتم عطاء

اعلم ان صاحب هذا المقام عزيز كمل فيه كل شئ إذا رؤى ذكر المولى لرؤيته وكيف لايكون ذلك وهو ولى لله بل كان وليا وهو فى المقام الرابع إلا ان المقام الرابع مقام الأولياء العوام والخامس مقام الخواص والسادس خواص الخواص فلابد أن تعلم أن صاحب هذا المقام كثير الأوجاع ليس فى قلبه كراهية لمخلوق ولكن يظهر الكراهية لمن يستحق الكراهية ويظهر المحبة لمستحقى المحبة لا تأخذه فى الله لومة لائم يرضى فى عين الغضب ويغضب فى عين الرضى لان مراده انطوى فى مراد الله فقد تبدلت الصفات النفسية بالصفات الالهية [كنت سمعه وبصره ... الخ] فيكون عبدا ربانى، واعلم أن ذلك سير إلى الله ثم بعد ذلك سير فى الله ثم بعد ذلك العودة من الله مأذونا بالارشاد.

فيا مريدى لك البشرى إذا سلكت        بك السبيل بفضل الله فاستقم

وإلى العدد القادم ...

مجموعة المرشد الوجيز