للمريد الصادق (الحلقة 5 والأخيرة)

استكمال ما جاء بالعدد السابق:

 

كنا قد انتهينا فى العدد السابق عند وصف الغيبة فيما روى عن رسول اللّه أنه قال: (من قال فى أخيه مافيه فقد اغتابه) ... وفى حديث أبان عن أنس عن رسول اللّه أشد من ذلك أنه قال: (الغيبة ما إن قلت فى أخيك لم تزكه به) فهذا نهاية القول من الشدة وغاية التشديد فى الغيبة والغيبة اسم لغوى معناه شرعى مشتق من غيب الإنسان وفسرها رسول اللّه أنها أن يقول العبد فى أخيه ما فيه وعظمها بقوله هى أشد من الزنا، فمتى قال العبد لأخيه فى غيبته ما يعلمه يقيناً فيه مما لا يقوله بمحضره أو مما ينقصه به أو لا يزكيه فيه فقد اغتابه، فلو لم يكن فى الصمت إلا السلامة من الغيبة لكان ذلك غنيمة موفورة، كيف وقد روى عن رسول اللّه : (كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا ثلاثة أمر بمعروف، أو نهى عن منكر، أو ذكر اللّه عزّ وجلّ).

وأما مخالطة الناس فإنها تضعف العزم الذى كان قوياً فى أعمال البر وتحل العقد المبرم الذى استوطنه العبد فى الخلوة لقلة المتعاونين على البر والتقوى وكثرة المتعاونين على الإثم والعدوان، وفى مخالطة الناس قوّة الطلب والحرص على عاجل الدنيا لما يعاين من إقبال أهلها عليه وفيه الفتور عن الخدمة بالنظر إلى أهل الغفلة والملل للطاعة بمجالسة أهل البطالة ونقصان حلاوة المعاملة وذهاب نور العلم وسرعة خروج الوجد بالفهم لاستماع كلام أهل الجهالة والنظر إلى الموتى من أبناء الدنيا كما روى عن عيسى عيه السلام: ’لا تجالسوا الموتى فتموت قلوبكم‘، قيل: ومن الموتى؟ قال: ’المحبون للدنيا الراغبون فيها‘، وقد كان الحسن يقول فى قوله عزّ وجلّ: ﴿وَمَا يَسْتَوِى الأحْيَاءُ وَلاَ الأمْوَاْتُ﴾ فاطر 22، قال: ’الفقراء والأغنياء كان الفقراء حيوا بذكر اللّه عزّ وجلّ والأغنياء ماتوا على الدنيا‘، وأعظم ما فى مخالطة الناس ومجالسة أهل البطالة وذوى غفلتهم ضعف اليقين برؤيتهم، وأضر ما ابتلى به العبد وأعمله فى هلاكه وأشده لحجبه وإبعاده ضعف يقينه بما وعد به بالغيب وتوعد عليه فى الشهادة وهذا أخوف ما خافه رسول اللّه على أمته فيما روينا عنه أنه قال: (أخوف ماأخاف على أمتى ضعف اليقين)، وذلك أن ضعف اليقين هو أصل الرغبة فى الدنيا والحرص على التكاثر منها والتضرع إلى أبنائها والطمع فيهم، كما قال ابن مسعود: إن الرجل ليخرج من بيته ومعه دينه فيرجع إلى بيته وما معه من دينه شيئ يلقى هذا فيقول: إنك لذيت وذيت ويلقى هذا فيقول أنت كيت وكيت ولعله لا يخلى منهم بشيئ ويرجع إلى بيته وقد أسخط اللّه عزّ وجلّ، وقد قال بعض التابعين: إن العبد ليقعد فى الخلوة على خصال من الخير فيخرج إلى الناس فيحللون ما عقده عقدة عقدة حتى يرجع وقد انحلت العقد كلها، وقوّة اليقين أصل كل عمل صالح لأن فى قوّة يقينه سرعة منقلبه وطول مثواه فى دار إقامته إيثار التقلل من الفانى وتقديمه للباقى وضعف حرصه وقلة طلبه وفقد طمعه وفراغه من الاشتغال بعاجله وإقباله وشغله بما ندب إليه من مستقره، وفى جميع ذلك إخلاصه فى أعماله وحقيقة زهده فى تصرف أحواله وفى قصر أمله وتحسين عمله، ألم تسمع إلى وصف من أخبر اللّه عزّ وجلّ عنه بالتكاثر الذى ألهاه حتى زار برزخه ومثواه كيف تهدده حتى يعلم يقيناً وتوعده إذا رأى آخرته عياناً فقال سبحانه: ﴿ألْهَاكُمُ التَّكاثُرُ﴾ التكاثر 1، أى شغلكم الجمع للمكاثرة حتى حللتم القبور، ثم قال: ﴿كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليَقِينِ﴾ التكاثر 5 أى لشغلكم العمل الصالح للآخرة عن اللعب واللهو الذى هو مقتضى الشك إذ هو ضد اليقين فاشتغلتم بالآخرة عن التكاثر من الدنيا كما شغلكم التكاثر باللهو واللعب لعدم علم اليقين، كما قال: ﴿أبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إنّا مُوقِنونَ﴾ السجدة 12، بعد أن قال: ﴿بَلْ هُمْ فِى شَكٍ يَلْعَبُون﴾ الدخان 9، ثم ثوعدهم على ذلك مرتين وتهددهم بالسؤال عن النعيم الذى شغلهم وهو التكاثر فى فضول العاجل وقيل: هو الجمع والمنع، فاعلم أن الذى قطع العباد عن التوبة وعرج بالتائبين عن الاستقامة ثلاثة أشياء: الكسب، والإنفاق، والجمع، وهذه الأسباب متعلقة بالخلق وموجودة بوجودهم ومفقودة بالانفراد عنهم فمن زهد فى هذه الثلاثة فقد زهد فى الخلق ومن رغب فى الخلق فقد رغب فى هذه الثلاث، وقال الثورى: من خالط الناس داراهم ومن داراهم راياهم ومن راياهم وقع فيما وقعوا فهلك كما هلكوا، وقد قال بعض هذه الطائفة من الصالحين: قلت لبعض الأبدال المنقطعين عن الخلق: كيف الطريق إلى التحقيق؟ وقال مرة قلت له: دلنى على عمل أعمله أجد فيه قلبى مع اللّه تعالى فى كل وقت مع الدوام فقال: لاتنظر إلى الخلق فإن النظر إليهم ظلمة قلت: لا بدّ لى من ذلك، قال فلا تسمع كلامهم فإن كلامهم قسوة قلت لا بدّ لى من ذلك، قال فلا تعاملهم فإن معاملتهم وحشة، قلت: أنا بين أظهرهم لا بدّ من معاملتهم، قال: فلا تسكن إليهم فإن السكون إليهم هلكة، قلت: هذه العلة فقال: ياهذا أتنظر إلى الغافلين وتسمع كلام الجاهلين وتعامل البطالين وتريد أن تجد قلبك مع اللّه عزّ وجلّ على الدوام هذا ما لايكون.

وقد جاء فى فضل العزلة والانفراد وفى فضل الصمت، وفى جميع ماذكرناه من الجوع والسهر ومن مكابدة الليل ما يكثر جمعه فيما نبهنا عليه وأشرنا إليه بلاغ وغنية لمن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن ولمن أريد بالمعاملة والمتاجرة ولا حول ولا قوّة إلا باللّه.

مريد يتمنى الصدق

 

 

 

 

درجات التوبة

قال تعالى: ﴿وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون﴾.

قال أنس بن مالك: سمعت رسول الله يقول: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له وإذا أحب الله عبداً لم يضره ذنب ثم تلى ﴿إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين﴾).

وقيل: يا رسول الله ما علامة التوبة؟ قال: (الندم).

والتوبة أول منزل من منازل السالكين, وأول مقام من مقامات الطالبين، وحقيقة التوبة فى اللغة الرجوع، يقال: تاب أى رجع, فالتوبة: الرجوع عما كان فى الشرع إلى ما هو محمود فيه.

وقال النبى : (الندم التوبة)، وقد ورد عن أهل السنة لكى تصح التوبة لا بد لها من ثلاثة شروط: الندم على ما عمل من مخالفات, ترك الزلة فى الحال، وعلى أن لا يعود إلى مثل عمل من المعاصى.

وقال أبو على الدقاق: التوبة على ثلاثة أقسام أولها التوبة, وأوسطها الإنابة, وآخرها الأوبة, فجعل التوبة بداية والأوبة نهاية والإنابة أوسطها.

والإنابة صفة الأولياء والمقربين والأوبة صفة الأنبياء والمرسلين, قال تعالى: ﴿نعم العبد إنه أواب﴾ وقال الجنيد التوبة على ثلاثة معانى: أولها الندم وثانيها العزم على ترك المعاودة إلى ما نهى الله عنه, وثالثها السعى إلى أداء المظالم.

وسئل ذو النون المصرى عن التوبة فقال: التوبة للعوام من الذنوب, وتوبة الخواص من الغفلة, وقال أيضاً الاستغفار من غير الإقلاع هو توبة الكاذبين.

وقال عبد الله التميمى: شتان مابين تائب بتوبة من الزلات, وتائب بتوبة من الغفلات, وتائب بتوبة من رؤية الحسنات، وسئل سهل بن عبد الله عن التوبة فقال: أن لا تنسى ذنبك.

وقال الشيخ محمد عثمان عبده البرهانى: أن التوبة هى الرجوع عن الذنب, والذنب ينقسم إلى ثلاثة مراتب:

إما بدنى يتعلق بالجوارح فى مرتبة الإسلام هو أن يسرق، يزنى, أو أن لا يصلى ولا يصوم .. والتوبة منه العودة إلى تنفيذ الأوامر واجتناب النواهى.

أما مرتبة الإيمان فالتوبة فيها قلبية يستزيد فيها المؤمن بعمل النوافل فضلا عن الفرائض, فإذا غفل عن الذكر كان ذنباً, وتكون التوبة منه العودة إلى الذكر وباقى النوافل وفيه يقول : (لو لم تذنبوا وتتوبوا لأذهبكم الله وأتى بأناس يذنبون فيتوبون فيتوب عليهم).

وبعد ذلك تكون مرتبة الإحسان وفيها يكون الله فى سمع العبد وبصره, ويكون العبد دائما فى مشاهدة مع الحـق لا يحق له أن يغفل عنه بالاشتغال مع الخلق فإن غفل عن المشاهدة كان ذنباً عليه التوبة منه بالرجوع إلى المشاهدة ..!!

ولى عنـدها ذنب برؤية غيرها

 

فهل لى إلى ليلى المليحة شافع

من خواطر خاطر

 

من أراد الاستزادة فى هذا الموضوع فليتتبع صفحات الصوفية فى موقع الطريقة البرهانية.

أسرة التحرير