الحج5

كمال الدين فى الأركان حج       لبيت الله فى البلد الحرام

استكمالا لتدارس هذا النظم الفريد فى ضوء كتاب الله عز وجل، وكان موضوعنا فى الأربعة أعداد السابقة لهذا العدد فى هذه المجلة العظيمة التى تنشر الوعى الدينى الصحيح والمفاهيم الحقيقية التى يجب أن يتحلى بها شبابنا وأمتنا الإسلامية التى ترغب فى معرفة المعانى العالية والحقيقية لهذا الدين الحنيف، نستكمل حديثنا فنقول وبالله التوفيق والاستعانة:

عرفنا أن الأجساد لها غذاء معروف لدى عامة البشر وتعرفنا أيضا أن الأرواح والقلوب لها غذاء، وغذاؤها هو الذكر والعلم بالمعانى العالية اللدنية لكتاب الله عز وجل، فهما نور وقوت مسمن لهم، ولا حياة لهذه الأرواح والقلوب بدونهما، وفى ذلك يقول العليم الحكيم ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِى بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِى الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا الأنعام 122، لذلك أرشدنا سبحانه ألا نأخذ علوم ديننا من نفس ميتة بالغفلة عن ذكر الله والجهل بحقيقة العلوم فى دينه عز وجل، فقال تبارك وتعالى ﴿وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا الكهف 28، فإذا كان قلبه غافلا عن ذكر الله ولم يقل المولى سبحانه لسانه غافلا، ثم اتبع ما يراه هواه من معان ولم يتبع النصوص وسير الأئمة المتحققين فانفرط أمره، فكيف بمن انفرط أمره أن يجمع شمل وأمر الآخرين؟!!

ثم قال سبحانه فى سورة المائدة ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ المائدة 3، والقرآن كتاب الله الذى لا تنفد معانيه مخاطباً كل ذى رتبة فى العلم ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ يوسف 76، فالميتة عند من لا يهتم إلا بتربية جسده يفسرها بالبهائم فقط ولا يقر لها معنى آخر، وأما أصحاب الهمم العالية فيفهمون أنها البهائم وذلك لطهارة الجسد ﴿كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ البقرة 57، 172، الأعراف 160، طه 81، ثم يفهمون معنى آخر ألا وهو أصحاب النفوس والأرواح والقلوب الغافلة، فهى كالبهائم لا هم لها فى الحياة إلا الأكل والشرب، فنهانا سبحانه أن نغذى قلوبنا من هؤلاء الغافلين لأن ما عندهم إلا الظلمة ونحن نريد أنوار الحق جل وعلا، ثم عطف سبحانه على الميتة ﴿الدم﴾ وقد كانوا فى الجاهلية يصبونه فى الأمعاء ويشوونها والبعض يشربه فحرمه الله علينا، وحكمة ذلك حفاظا على أجسادنا، لأن الدم إذا لم يصفى من الذبيحة احتبس فى العروق وتعفن وكانت له أضرار كثيرة وقد قال بهذا النيسابورى وغير واحد من الأئمة مثل الخازن وغيره، والدم هو سائل ناقل للمواد الغذائية والأكسجين، ويأخذ ناتج الاحتراق من حموض سامة كحمض البول ومن مواد سامة وثانى أكسيد الكربون .. فما من سائل فى جسم الإنسان هو بؤرة للجراثيم كالدم.

نعود فنقول هذا الدم حرم الله علينا أن نغذى جسدنا عليه، فما مدلوله وتأويله بالنسبة لغذاء القلوب والأرواح؟

ويقول الإمام الكبير ابن عربى فى كتابه ’التفسير الصوفى‘ ما معناه أن الدم هنا إشارة للهوى.

فكما أن الدم هو القوة الحاملة لحياة الإنسان والحيوان، كذلك الهوى هو القوة الحاملة لحياة الأنفس التى أمرنا المولى تبارك وتعالى بقتلها وجهادها وهو الجهاد الأكبر، فنجده فى تأويل ﴿وَالْمُنْخَنِقَةُ يقول أن الأفعال النفسية تحسن بقمعها وقهرها وخروج الهوى منها الذى هو قوتها وحياتها.أ.هـ

لأن المنخنقة هى التى احتبس دمها فيها، فإذا لم يتصف الإنسان من هذا الهوى المذموم بنص كتاب الله، لا يؤخذ من صاحب هذا الهوى رأى فى الدين، لأن الدين لو كان بالرأى لكان أولى مسح باطن الخف من ظاهره، لأنه دائما ما يقول برأيه ولا يعتمد على النصوص.

ويستطرد الإمام ابن عربى فى القول فيقول: أن هوى النفس إذا مزج بالأعمال أفسدها كلها.أ.هــ

وبعد ذلك يقول المولى تبارك وتعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ المائدة 2، يقول الإمام النخجوانى صاحب كتاب ’الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية‘ فى تأويل القرآن: أى لا تبيحوا لأنفسكم شعائر الله أى الحرمات التى قد حرمها الله تعالى فى أوقات الحج تعظيما لأمره وبيته، وقد ذكرنا بالأعداد السابقة أن حج الأرواح والقلوب ليس له وقت مخصوص، بل كل الأوقات والأماكن لها فيها حج، وأن بيته هنا هو قلب العارف الواجب على الحاج الطواف حوله والأخذ من أنواره والتخلق بخلقه وليس لنا شبهة إنكار فى أن الكعبة بيته أيضا، فهى بيت تطوف به الأجساد والأبدان وحرام على من أنكر هذا، بل أقررنا بالشرع، فهل أنتم مقرون بالحق والحقيقة؟!! نرجو من الله عز وجل أن يوفق الجميع لهذا.

ثم قال سبحانه ﴿وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ أى لا تحل ما حرمه الله فى هذه الأوقات لكن بالنسبة لحج القلوب والأرواح فهذا هو الجهاد الأكبر، فكل الأزمنة شهر حرام لمن بدء فى الجهاد وحبس النفس وقمعها وزجرها عن ما حرم الله ويقول الإمام ابن عربى ﴿وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ: أى وقت الإحرام بالحج الحقيقى وقت السلوك والوصول، ثم قال بالعطف الذى ليس فيه تراخى ﴿وَلاَ الْهَدْىَ وفيها يقول الإمام ابن عربى: ولا الأنفس المستعدة المعدة للقربان عند الوصول إلى فناء الحضرة.أ.هـ

أقول أى الوصول إلى كعبة الحقيقة، ومعنى ذلك أننا كما أمرنا ألا نتعدى على الهدى المهدى إلى الله تقربا حتى يصل الهدى محله للذبح، فأيضا نحن مأمورون أن لا نتعدى ولا نتعرض بالأذى ولا التعطيل لكل من أهدى نفسه لتذبح عند بيت الله الحقيقى من المؤمنين السالكين سبيل الوصول إلى الفناء فى الله بذبح أنفسهم هواها عند بيته المعظم وهو قلب العارف الذى يأتى على رأس كل مائة عام يجدد للأمة أمر دينها، أو كما قال رسول الله ثم قال ﴿وَلاَ الْقَلاَئِدَ ففى الظاهر كل بهيمة من الأنعام معلمة بقلادة فى رقبتها أنها هدى مهدى إلى الله تعالى، فأيضا كل من علم بشارة أنه سالك ففى الظاهر كل بهيمة من الأنعام معلمة بقلادة فى رقبتها أنها هدى مهدى إلى الله تعالى، فأيضا كل من علم بشارة أنه سالك إلى الله من أصحاب الشارات مثل أهل الطرق السائرين إلى الله أو أهل الشريعة المتشرعين المعروفين بعلاماتهم أو زيهم وجب علينا أن لا نتعدى عليهم ولا نتعرض لهم ولا نعارضهم، ثم جمع فقال ﴿وَلاَ آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ سواء متشرعين أو متحققين حرام علينا معارضتهم وتعطيلهم عن سيرهم إلى بيت الله الحرام سواء ذاهبين إلى الكعبة أو فى طريق الله مع شيخ، كل هذه المعانى أدعى إلى ألفة المسلمين وتوادهم وسلامتهم ونشر الفضيلة بينهم والتآخى لشكر النعمة ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًاآل عمران 103.

وفاتنا أن نذكر أيضا تحريم الخنزير، وذلك لتغذيته على الخبائث وقوة الحرص عنده والشره، فكل من كانت صفاته هكذا لا نأخذ منه ديننا.

وأيضا ﴿المتردية﴾ وهى البهيمة التى سقطت من علو فماتت، كذلك كل من سقط ونزل عن العلوم العالية ولم يقبلها ونزل إلى أسفل العلوم لا نأخذ منه علوم ديننا القويم.

وإذا كنا قد ترددنا من معنى قاله عالم إلى معنى قاله آخر لعالم آخر فى الآية الواحدة لأنه كم نال أهل الله منحة واهب، فسبحانه جعلنا لا نستغنى عن واحد من أوليائنا أصحاب الإشارات فى كتاب الله فجعل الهبات فى المعانى فى الآية الواحدة متنوعة بين الأئمة الكرام ولا حجر على فضل الله يرزق من يشاء بغير حساب.

وبعد أن فهمنا هذه الإشارات فى كتاب الله فى هذه السورة  ’سورة المائدة‘ نأتى لختام موضوعنا وحجنا الحقيقى فربما يسأل سائل لماذا تفصيل أنواع الموت فى هذه الآيات وأسبابه؟

نقول لكى نعرف الأحياء بيننا وهم أموات فلا نأخذ منهم علومنا التى وهبها الله لنا فى كتابه العزيز، بل نأخذها من الصالحين المزكاة أرواحهم القريبين من الله، فهؤلاء الذين نتوجه إليهم بالسؤال ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى فَإِنِّى قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ البقرة 186، هؤلاء هم المنسبين إلى ﴿عِبَادِى، القريبين منه عز وجل ﴿فَإِنِّى قَرِيبٌ، المجابين الدعوة ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ منهم، هؤلاء هم الذين عرفوا وعَرَّفونا معنى الحج الحقيقى وليس الصورى الذى يرجع منه البعض أسوأ مما كان.

بعد ذلك يقول سبحانه وتعالى ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ المائدة 3، أى إذا عرفت إشاراتى هذه وممن تأخذون دينكم فقد يأس الكفار من الهوى والدنيا والشيطان والنفس من دينكم، فإذا وصلت إلى هذا فقد كمل دينكم ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإْسْلاَمَ دِينًا أى التسليم قد رضيته لكم دينا، نزلت فى حجة الوداع، منحنا الله هذا الحج العالى القدر وثبتنا مع مشايخنا.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.

محمد مقبول