كنا قد نشرنا فى صفحات المناقشة جزء من هذا الموضوع، وها نحن فى هذا الباب الجديد نعيد نشره بطريقة متكاملة، لكى تعم الفائدة، وحتى لا يكون فيه إطالة، ولكى يكون فيه فرصة للتدارس والتعليق، فنحن ننشره على حلقات:

 

 

الهوى والشيطان والدنيا

على ما تقدم يتضح لنا أن طريق أهل الله مبنى على صدق التوجه وملازمة النفس بالمجاهدة فلا تصطلح معها أبدا واعلم أن من شأن المريد أن يصدق فى محبة الشيخ لأنه دليله فى السلوك ومن خالف دليله تاه وانقطع سيره وهلك لأن حضرة الطريق هى حضرة الله عز وجل فمن لم يتطهر من سائر الذنوب باطنا وظاهرا لا يصح له دخولها فحكمه حكم من دخل فى الصلاة وفى بدنه أو ملبوسه نجاسة أو لم يصب بدنه شئ من الماء فإن صلاته باطلة. فقد تقدم القول بأن القواطع عن المهيمن أربع، النفس، الشيطان، الدنيا، الهوى، هؤلاء الأربعة لا يمكن الفصل بينهم، فهم أربعة من حيث التمييز ولكن عملهم متصل فيما بينهم دون انفصال وإنما وقع التمييز لنعلم مدى خطورة الأمر الذى كلفنا به، فمجاهدة النفس هى بعينها مجاهدة الشيطان والدنيا، فإن لهم مملكة ومملكتهم هى القلب وهو يقع تحت الثدى الأيسر بقدر إصبعين مائلا إلى الجنب على شكل الصنوبر أو البصلة ويقابل هذه المملكة مملكة الروح وهى تحت الثدى الأيمن بإصبعين مائلة إلى الصدر ولقد أوضحنا سابقا أنه إذا تصفّى قلب المريد من الأغيار وتبدلت عنده الصفات النفسية بالصفات الإلهية قد يتوهم أنه قد أنهى سيره فيأخذه شئ من الإطمئنان فيخشى عليه فإذا كانت حالة توجهه تتسم بالصدق والإخلاص فى هذه الحالة يرد عليه من الله قهر من الخوف فيرجع إلى حاله الأول فيستمر فى السير ولذلك يقول سيدى الإمام فخر الدين :

حتى إذا أمنوا تأذن ربهم   كرما يطمئنهم به ليخافا

والأمر الذى نريد توضيحه هو تفنيد بقية القواطع ليعلم أنه ما زالت عنده بقية فلا يقتصر الجهاد على جهاد النفس فقط وإنما هناك الهوى والشيطان والدنيا فلو ركن إلى التخلص من الأنفس فقط لرجع وتوقف سيره ويأخذ قلبه فى الإنسداد شيئا فشيئا كما أخذ فى الإنصباغ بنور الإسم "الله" ولذلك حذرنا الحق سبحانه وتعالى بقوله ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى • قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا • قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾ وتدبر قوله تعالى ﴿وقد كنت بصيرا﴾ ولذلك حثنا الإمام فخر الدين الشيخ محمد عثمان عبده البرهانى على مداومة الجهاد والذكر بقوله:

ولتعمروا الأوقات بالذكر الذى     يشفى الصدور فتصطلى بغرامى

فإذا حدث فناء للمريد فى الذكر بالمداومة عليه يظهر له المذكور، لأن القلب صار بيت الحق فيخرج الذكر من غير تدبر ولا قصد ولا كلفه ولذلك قالوا:

لا زلت أقرب منه حتى صار لى     بصرا وسمعا حيث كنت وساعدى

فإذا رأيت فلا أرى إلا به                وإذا بطشت فلا يزال مساعدى

إن شئت شاء وإن أمرت فأمره            أمرى لقد بلغت كل مقاصدى

فى هذه الحالة يخرج من ضيق ﴿أذكرونى﴾ إلى فضاء ﴿أذكركم﴾ فيزداد بالشرب عطشا وبالقرب من المذكور شوقا وفى هذا المقام تقول سيدتنا رابعة العدوية:

لقد حزت قربا ما إرتقاه مجاهدا             وأسقيت كأسا حل فيه شراب

فكيف توانى الخلق عنك وقد بدا             جمال به قد هامت الألباب

فبعضهم إهتدى وبعضهم إرتدى            وها أنت كأس بل وأنت شراب

وقال الإمام فخر الدين الشيخ محمد عثمان عبده البرهانى:

وكنا ذاكرين وقد ذكرنا      وهذى نعمة أخرى نراها

وقبل أن نتحدث عن بقية القواطع كان لزاما علينا أن نقف أمام قول الحق سبحانه وتعالى ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِى زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِى اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ • فِى بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ. قال الإمام فخر الدين فى هذه الآية: المشكاة كناية عن الصدر والمصباح كناية عن نور الإسم الله، الزجاجة بمعنى الهم الذى يحيط بالقلب فإذا داوم المريد على الذكر يشتعل القلب بنور الإسم وعندما يتكامل النور تضاء الزجاجة فيتحول الهم إلى همة فيصبح كالشمس والقمر ﴿كأنها كوكب درى﴾ من شدة هذا النور ﴿يوقد من شجرة مباركة كناية عن النبى ﴿نور على نور النور الذى مخلوق منه النبى والنور الذى جاء به النبى وهو الدين ﴿فى بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه﴾ وهى القلوب بمعنى الأرواح المترقية إلى الملأ الأعلى ولإيضاح ما تقدم من كلام شيخنا كان ولا بد أن نعلم لماذا أمرنا الحق بذكر اسمه (الله) خاصة دون سائر الأسماء الإلهية، ثم ما هى العلة وراء ضرب المثل فى قوله تعالى ﴿الله نور السموات والأرض﴾. وما حقيقة هذه المملكة، أعنى بها القلب، ومن هو ملكها، ومن هم وزرائه وجنوده، هل هو إبليس اللعين الذى يرأس أربع قبائل وهم وسواس، خناس، إبليس، شيطان. وكل هؤلاء من المنظرين وكيف يتم قهرهم؟ أم هى الدنيا؟ أم هو الهوى؟ وليس هناك خلاف بين أحد من المسلمين بأن هؤلاء أعداء للإنسان ولقد ذمهم الحق سبحانه وتعالى بقوله ﴿إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير﴾ آية رقم 6 سورة فاطر. وقال سبحانه وتعالى فى الدنيا ﴿يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور﴾ وقال سبحانه وتعالى فى الهوى ﴿فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهوائهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدى القوم الظالمين﴾ آية رقم 50 سورة القصص. وعلى ما تقدم من ذم هؤلاء الأعداء فكان واقع الحال أيضا لا بد من التمييز فى مراتب الدين خاصة إن أمر الدين كله غيب، وقال الإمام فخر الدين: إن أمر الدين مبنى على ثلاثة مراتب من حيث، الإسلام، الإيمان، الإحسان.

فالإسلام علم يقين، والعبادة فيه بالجوارح.

والإيمان عين يقين، والعبادة فيه بالقلب.

والإحسان حق يقين، والعبادة فيه بالروح.

أو إذا شئت فقل:

الإسلام شريعة

 

أو

الإسلام أقوال فقهية

الإيمان طريقة

الإيمان أقوال أصولية

الإحسان حقيقة

الإحسان أقوال حقيقية

وإلى العدد القادم ...

مجموعة المرشد الوجيز