حب الجاه

الجاه والمال هما ركنا الدنيا، ومعنى المال ملك الأعيان المنتفع بها، ومعنى الجاه ملك القلوب المطلوب تعظيمها وطاعتها، فذو الجاه هو الذى يملك قلوب الناس أى يقدر على أن يتصرف فيها ليستعمل بواسطتها أربابها فى أغراضه ومآربه، ولا تصير القلوب مسخرة إلا بالمعارف والاعتقادات، فطالب الجاه يطلب أن يسترق الأحرار ويستعبدهم، ويملك رقابهم ويملك قلوبهم، فهو يطلب الطاعة طوعاً ويبغى أن تكون الأحرار له عبيداً بالطبع والطوع مع الفرح بالعبودية والطاعة له، وبقدر إذعان القلوب تكون قدرته على القلوب، وبقدر قدرته على القلوب يكون فرحه وحبه للجاه، فهذا هو معنى الجاه.

وقد قيل أن سيدنا عمر بن عبد العزيز لما تولى خلافة المسلمين دعا سالم بن عبد الله ومحمد بن كعب القرظى ورجاء بن حيوة فقال لهم: إنى قد ابتليت بهذا البلاء فأشيروا على؟

فقال له سالم بن عبد الله: إن أردت النجاة من عذاب الله فصم عن الدنيا وليكن فطرك منها الموت.

وقال له محمد بن كعب: إن أردت النجاة من عذاب الله فليكن كبير المسلمين عندك أباً وأوسطهم عندك أخاً وأصغرهم عندك ابناً، فوقر أباك وأكرم أخاك وتحنن على ولدك.

وقال له رجاء بن حيوة: إن أردت النجاة غداً من عذاب الله فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك واكره لهم ما تكره لنفسك ثم مت إذا شئت.

كما قيل أن سيدنا العباس عم المصطفى جاء إلى النبى فقال: يا رسول الله أمّرنى على إمارة، فقال له: (يا عم إن الإمارة حسرة وندامة يوم القيامة، فإن استطعت ألا تكون أميراً فافعل).

وقال رسول الله (إن أخوف ما أخاف على أمتى الرياء والشهوة الخفية التى هى أخفى من دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء فى الليلة الظلماء).

ويبتلى بالجاه العلماء والعباد والمشمرون عن ساق الجد لسلوك سبيل الآخرة فإنهم مهما قهروا أنفسهم وجاهدوها وفطموها عن الشهوات وصانوها عن الشبهات وحملوها بالقهر على أصناف العبادات عجزت نفوسهم عن الطمع فى المعاصى الظاهرة الواقعة على الجوارح، فطلبت الاستراحة إلى التظاهر بالخير وإظهار العمل والعلم، فوجدت مخلصاً من مشقة المجاهدة إلى لذة القبول عند الخلق ونظرهم إليه بعين الوقار والتعظيم، فسارعت إلى إظهار الطاعة وتوصلت إلى إطلاع الخلق ولم تقتنع بإطلاع الخالق، وفرحت بحمد الناس ولم تقنع بحمد الله وحده، وعلمت أنه إذا عرفوا تركه الشهوات وتوقيه الشبهات وتحمله مشاق العبادات أطلقوا ألسنتهم بالمدح والثناء وبالغوا فى التقريظ والإطراء ونظروا إليه بعين التوقير والاحترام وتبركوا بمشاهدته ولقائه ورغبوا فى بركة دعاءه وحرصوا على إتباع رأيه وفاتحوه بالخدمة والسلام وأكرموه فى المحافل غاية الإكرام، وسامحوه فى البيع والمعاملات وقدموه فى المجالس وآثروه بالمطاعم والملابس وتصاغروا له متواضعين وانقادوا له فى أغراضه موقرين، فأصابت النفس فى ذلك لذة هى أعظم اللذات وشهوة هى أغلب الشهوات، وأحبطت بذلك ثواب الطاعات وأجود الأعمال، وقد أثبتت اسمه فى جريدة المنافقين وهو يظن أنه عند الله من المقربين، وهذه مكيدة للنفس لا يسلم منها إلا الصديقون، ومهواة لا يرقى منها إلا المقربون، ولذلك قيل: ’آخر ما يخرج من رؤوس الصديقين حب الرياسة‘، وفى رواية أخرى: ’آخر ما يخرج من قلوب الصديقين حب الرياسة‘.

فالعارفون من أصحاب هذا القول ما يقولون ذلك على ما تفهمه العامة من أهل الطريق منهم وإنما ذلك ما نبينه من مقصود الكمل من أهل الله بذلك وذلك أن فى نفس الإنسان أموراً كثيرة خبأها الله فيها وهو ﴿الَّذِى يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ النمل 25، أى ما ظهر منكم وما خفى مما لا تعلمونه منكم فيكم فلا يزال الحق يخرج لعبده من نفسه مما أخفاه فيها ما لم يكن يعرف أن ذلك فى نفسه .. فقالت الطائفة الكثيرة آخر ما يخرج .. فيظهر لهم إذا يخرج فيحبون الرياسة إلا بحب الله لها، فأعظم الجاه من كان جاهه بالله إذا كان الله قُوى هذا العبد.

اعلم أن أصل الجاه هو انتشار الصيت والاشتهار وهو مذموم إلا من شهره الله تعالى لنشر دينه من غير تكلف طلب الشهرة منه.

قال أنس قال رسول الله : (حسب امرئ من الشر أن يشير إليه الناس بالأصابع فى دينه ودنياه إلا من عصمه الله)

وقال جابر بن عبد الله قال رسول الله (بحسب  المرء من الشر إلا  من عصمه الله من السوء أن يشير الناس بالأصابع فى دينه ودنياه إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم).

وقال سيدنا على : ’تبذل ولا تشتهر ولا ترفع شخصك لتذكر، وتعلم واكتم، واصمت تسلم، تسر الأبرار وتغيظ الفجار‘.

وقال الله تعالى فى ذم حب الجاه ﴿تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا فى الأرض ولا فسادا﴾.

وقال عز وجل ﴿من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم فى الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون﴾.

وهذا أيضاً متناول بعمومه لحب الجاه فإنه أعظم لذة من لذات الحياة الدنيا وأكثر زينة من زينتها قال  (حب المال والجاه ينبتان النفاق فى القلب كما ينبت الماء البقل).

وقال (ما ذئبان ضاريان أرسلا فى زريبة غنم بأسرع إفساد من حب الشرف والمال فى دين الرجل المسلم).

والسبب الذى يقتضى أن يكون الذهب والفضة وسائر أنواع المال محبوباً هو بعينه يقتضى كون الجاه محبوباً فهما وسيلة إلى جميع المحاب وذريعة لقضاء الشهوات والاشتراك فى السبب اقتضى الاشتراك فى المحبة، وترجيح المال على الجاه بثلاث أوجه:

الأول:

أن التوصل بالجاه إلى المال أيسر من التوصل بالمال إلى الجاه فالعالم أو الزاهد الذى تقرر له جاه فى القلوب لو قصد اكتساب المال تيسر له فان أموال أرباب القلوب مسخرة للقلوب ومبذولة لمن اعتقد فيه الكمال, وأما الرجل الخسيس الذى لا يتصف بصفة الكمال إذا وجد كنزاً ولم يكن له جاه يحفظ ماله وأراد أن يتوصل بالمال إلى الجاه لم يتيسر له فاذن الجاه آلة ووسيلة إلى المال فلذلك صار الجاه أحب.

الثانى:

هو أن المال معرض للبلوى والتلف بأن يسرق ويغصب ويطمع فيه الملوك والظلمة ويحتاج فيها إلى الحفظة والحراس والخزائن وأما القلوب إذا ملكت فلا تتعرض لهذه الآفات فهى على التحقيق خزائن عتيدة محروية بأنفسها والجاه فى أمن وأمان من الغصب والسرقة فيها.

الثالث:

أن ملك القلوب يسرى وينمى ويتزايد من غير حاجة إلى تعب ومقاساة فان القلوب إذا أذعنت لشخص واعتقدت كماله بعلم أو عمل أو غيره أفصحت الألسنة لا محالة بما فيها فيصف ما يعتقده لغيره ويقتنص ذلك القلب أيضاً له فلا يزال يسرى من واحد إلى واحد ويتزايد وليس له مرد معين، وأما المال فمن ملك منه شيئاً فهو مالكه ولا يقدر على استنمائه إلا بتعب ومقاساة.

ومهما عرفت أن معنى الجاه ملك القلوب والقدرة عليها فحكمه انه عرض من أعراض الحياة الدنيا وينقطع بالموت.

وكما أنه لابد من أدنى مال للمطعم والمأكل والملبس فلابد من أدنى جاه لضرورة المعيشة مع الخلق والإنسان كما لا يستغنى عن طعام يتناوله فيجوز أن يحب الطعام أو المال الذى يبتاع به الطعام فكذلك لا يخلوا عن الحاجة إلى خادم يخدمه أو رفيق يعينه وأستاذ يرشده وسلطان يحرسه ويدفع عنه ظلم الأشرار فحبه بأن يكون له فى قلب خادمه من المحل ما يدعو إلى الخدمة ليس بمذموم وحبه بأن يكون له فى قلب رفيقه من المحل ما يحسن به مرافقته ومعاونته ليس بمذموم وحبه بأن يكون فى قلب أستاذه من المحل ما يحسن به إرشاده وتعليمه والعناية به ليس بمذموم وحبه بأن يكون له من المحل فى قلب سلطانه ليس بمذموم. اعلم أن حب الجاه لأجل التوصل بهما إلى مهمات البدن غير مذموم وحبهما لأعيانهما فيما يجاوز ضرورة البدن وحاجته مذموم ولكنه لا يوصف صاحبه بالفسق والعصيان ما لم يحمله الحب على مباشرة معصية فان التوصل إلى الجاه والمال بالعبادة جناية على الدين وهو حرام وإليه يرجع معنى الرياء المحظور.

واعلم أن من غلب على قلبه حب الجاه صار مقصور الهم على مراعاة الخلق مشغوفاً بالتودد إليهم والمرآة لأجلهم ولا يزال فى أقواله وأفعاله ملتفتاً إلى ما يعظم منزلته عندهم, وينبغى أن يعالج قلبه من حب الجاه بالعلم بالآفات العاجلة وهو أن يتفكر فى الأخطار التى يستهدف لها أرباب الجاه فى الدنيا فان كل ذى جاه محسود ومقصود بالإيذاء وخائف على الدوام على جاهه والأشتغال بمراعاة القلوب وحفظ الجاه ودفع كيد الحساد ومنع أذى الأعداء كل ذلك غموم عاجلة مكدرة للذة الجاه فعدم الالتفات إلى الدنيا هو العلاج من حيث العلم.

وأما من حيث العمل فاسقاط الجاه عن قلوب الخلق بمباشرة أفعال يلام عليها حتى يسقط من أعين الخلق وتفارقه لذة القبول ويأنس العزلة ولا يتم ترك الجاه إلا بالقناعة وقطع الطمع والاستعانة على ذلك بالأخبار الواردة عن ذم الجاه ومدح العزلة والذل.

نديم

 

 

 

 

قال أحد الزهاد

فإن كنت لا تدرى متى الموت فاعلمن

 

بأنك لا تبقى إلى آخر الدهر

يا ابن آدم أين الأولون والآخرون، أين نوح شيخ المرسلين، أين إدريس رفيع رب العالمين، أين إبراهيم خليل الرحمن، أين موسى الكليم من بين سائر النبيين، أين عيسى روح الله وكلمته رأس الزاهدين، وإمام السائحين، أين محمد خاتم النبيين، أين أصحابه الأبرار، أين الأمم الماضية، أين الملوك السالفة، أين القرون الخالية، أين الذين نصبت على مفارقهم التيجان، أين الذين قهروا الأبطال والشجعان، أين الذين دانت لهم المشارق والمغارب، أين الذين تمتعوا باللذات والمشارب، أين الذين تاهوا على الخلائق كبراً وعتياً، أين الذين راحوا فى الحلل بكرة وعشياً، أين الذين اغتروا بالأجناد، أين أصحاب الوزراء، والقواد، أين أصحاب السطوة والأعوان، أين أصحاب الإمرة والسلطان، أين أصحاب الأعمال والولايات، أين الذين خفقت على رؤوسهم الألوية والرايات، أين الذين قادوا الجيوش والعساكر، أين الذين عمرو القصور والدساكر، أين الذين أعطوا النصر فى موطن الحروب، والمواقف، أين الذين آمنوا بسطوتهم كل خائف، أين الذين ملأوا ما بين الخافقين فخراً وعزاً، أين الذين فرشوا القصور حريراً وقزاً، أين الذين تضعضعت لهم الأرض هيبة وعزا هل تحس منهم من أحد، أو تسمع لهم ذكراً، أفناهم الله مفنى الأمم وأبادهم مبيد الرمم وأخرجهم من سعة القصوا إلى ضيق القبور تحت الجنادل والصخور فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم لم ينفعهم ما جمعوا ولا أغنى عنهم ما اكتسبوا أسلمهم الأحباء والأولياء وهجرهم الإخوان الأصفياء، ونسيهم الأقرباء والبعداء لو نطقوا لأنشدوا:

مقيم بالحجون رهين رمس

 

وأهلى راحلون بكل واد

كأنى لم أكن لهم حبيباً

 

ولا كانوا الأحبة فى السواد

فعوجوا بالسلام فإن أبيتم

 

فأوموا بالسلام على البعاد

من خواطر خاطر

 

من أراد الاستزادة فى هذا الموضوع فليتتبع صفحات الصوفية فى موقع الطريقة البرهانية.

أسرة التحرير