إن الذين يبايعونك

﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ الفتح 8-10

إنها أمدح الآيات التى مدح بها الرسول فى كتاب الله ﴿إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم﴾.

يقول ابن عجيبة فى هذه الآيات: يقول الحق جلّ جلاله ﴿إِنّا أرسلناك شاهداً تشهد على أمتك يوم القيامة، كقوله: ﴿وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً البقرة 143 وهو حال مقدَّرة، ﴿ومبشِّراً لأهل الطاعة بالجنة، ﴿ونذيراً لأهل المعصية بالنار، ﴿لتؤمنوا بالله ورسوله والخطاب للرسول والأمة، ﴿وتُعزِّروه تقوُّوه بنصر دينه، ﴿وتُوقِّروه أى: تُعظِّموه بتعظيم رسوله وسائر حرماته، ﴿وتُسبِّحوه تُنزِّهوه، أو تُصلوا له، من: السبحة، ﴿بكرةً وأصيلاً غدوة وعشية، قيل: غدوة: صلاة الفجر، وعشية: الظهر والعصر والمغرب والعشاء. والضمائر لله تعالى. ومَن فرّق؛ فجعل الأولين للنبى والأخير لله تعالى، فقد أبعد. (فهو رسول الله وخليفته ونائبه ولا تفريق) وقرأ المكى والبصرى بالغيب فى الأربعة، والضمائر للناس، وقرأ ابن السميفع: [وتُعززوه] بزاءين، أى: تنصروه وتُعِزُّوا دينه.

وقال الإمام القشيرى فيها:

قوله جلّ ذكره ﴿إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً﴾. ﴿أَرْسَلْناكَ شَاهِداً﴾: على أُمَّتِكَ يوم القيامة. ويقال: شاهداً على الرُّسُلِ والكتب. ويقال: شاهداً بوحدانيتنا وربوبيتنا. ويقال: شاهداً لأمتك بتوحيدنا. ﴿وَمُبَشِّراً﴾: لهم مِنَّ بالثواب، ﴿وَنَذِيرا﴾ً للخَلْق؛ زاجِراً ومُحَذِّراً من المعاصى والمخالفات. ويقال: شاهداً مِنْ قِبَلنا، ومُبَشِّراً بأمرنا، ونذيراً من لَدُنَّا ولنا ومِنَّا. وقوله جلّ ذكره ﴿لِّتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾. قرئ: [ليؤمنوا] بالياء؛ لأن ذكر المؤمنين جرى، أى ليؤمن المؤمنون بالله ورسوله ويعزروه وينصروه أى الرسول، ويوقروه: أى: يُعَظِّموا الرسولَ. وتُسَبِّحوه: أى تُسَبِّحوا الله وتنزهوه بكرة وأصيلاً. وقرىْ: [لتؤمنوا] - بالتاء - أيها المؤمنون بالله ورسوله وتُعَزروه - على المخاطَبة. وتعزيرُه يكون بإيثاره بكلِّ وجه على نَفْسك، وتقديمِ حُكْمهِ على حُكمِك. وتوقيرُه يكون باتباع سُنَّتِه، والعلم بأنه سيِّدُ بَريَّته.

ويقول ابن عجيبة فى ﴿إِنَّ الذين يُبايعونك على الجهاد، بيعة الرضوان ﴿إِنما يُبايعون اللهَ لأنه خليفة عنه، فعقد البيعة معه كعقدها مع الله من غير تفاوت بينهما، كقوله: ﴿مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله النساء 80، ثم أكّد ذلك بقوله: ﴿يدُ اللهِ فوق أيديهم يعنى: أن يد رسول الله الذى تعلو أيدى المبايعين هى يد الله، من باب مبالغة التشبيه، ﴿فمَن نكث نقض البيعة، ولم يفِ بها ﴿فإِنما يَنكُثُ على نفسه فلا يعود ضرر نكثه إلا عليه، قال جابر ’بايعنا رسولَ الله تحت الشجرة على الموت، وعلى ألاَ نفرّ، فما نكث أحدُ منا البيعةَ، إلا جَدّ بن قَيْسِ المنافق، اختبأ تحت إبطِ بعيره، ولم يَسر مع قومه‘. ﴿ومَن أوفى بما عاهد عليه اللهَ﴾ يقال: وفيت بالعهد وأوفيت. وقرأ حفص بضم الهاء من [عليه] توسُّلاً لتفخيم لام الجلالة، وقيل: هو الأصل، وإنما كسر لمناسبة الياء. أى: ومَن وفَّى بعهده بالبيعة ﴿فسيؤتيه أجراً عظيماً﴾ الجنة وما فيها.
ويقول القشيرى فيها: قوله جلّ ذكره: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَأ يُبَايِعُونَ اللهَ﴾. وهذه البيعة هى بيعة الرضوان بالحديبية تحت سَمُرَة.
وذلك أن رسول الله بعث عثمانَ إلى قريش ليُكلِّمَهم فأرجفوا بقَتْلِه. وأتى عروة بن مسعود إلى النبى وقال: جئتَ بأوشاب الناس لتفضَّ بَيْضَتَكَ بيدك، وقد استعدت قريش لقتالك، وكأنِّى بأصحابك قد انكشفوا عنك إذا مسَّهم حرُّ السلاح! فقال أبو بكر: أتظن أنَّ نسلم رسولَ الله ؟ فبايعهم النبىُّ على ان يُقاتِلوا وألا يهربوا، فأنزل الله تعالى ﴿إنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ﴾ أى عقْدُك عليهم هو عقد الله. قوله جلّ ذكره ﴿يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيِهمْ﴾. أى ﴿يَدُ اللهِ﴾ فى المنة عليهم بالتوفيق والهداية ﴿ فَوْقَ أَيْدِيِهمْ﴾ بالوفاء حين بايعوك. ويقال: قدرة الله وقوته فى نصرة دينه ونصرة نبيِّه فوقَ نَصْرِهم لدين الله ولرسوله. وفى هذه الآية تصريحٌ بعين الجمع كما قال ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى﴾
الأنفال 17.
قوله جلّ ذكره ﴿فَمَنَ نَّكَثَ فإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ﴾. أى عذابُ النكثِ عائدٌ عليه. قوله جلّ ذكره: ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾. أى من قام بما عاهد الله عليه على التمام فسيؤتيه أجراً عظيماً.
وإذا كان العبد بوصف إخلاصِه، ويعامِل اللهَ فى شيئٍ هو به متحقِّقٌ، وله بقلبه شاهدٌ فإنَّ الوسائطَ التى تُظْهِرُهاَ أماراتُ التعريفاتِ تجعله محواً فى أسرارِه ... والحكم عندئذ راجعٌ.
ويقول ابن عجيبة فى الإشارة المأخوذة من الآيات: لكل جيل من الناس يبعث اللهُ مَن يُذكِّرهم، ويدعوهم إلى الله، بمعرفته، أو بإقامة دينه، ليدوم الإيمان بالله ورسوله، ويحصل النصر والتعظيم للدين إلى يوم الدين، ولولا هؤلاء الخلفاء لضاع الدين، وقوله تعالى: ﴿إنَّ الذين يُبايعونك﴾ الآية، قال الورتجبى: ثم صرَّح بأنه مرآة لظهور ذاته وصفاته، وهو مقام الاتصاف بأنوار الذات والصفات فى نور الفعل، فصار هو هو، إذا غاب الفعل فى الصفة، وغابت الصفة فى الذات. فقال ﴿إن الذين يُبايعونك ...﴾ الآية. وإلى ذلك يُشير الحلاّج وغيره. وقال فى القوت: هذه أمدح آية فى كتاب الله ، وأبلغ فضيلة فيه لرسول الله ، لأنه جعله فى اللفظ بدلاً عنه، فيقول: لله، وليس هذا من الربوبية للخلق سوى رسول الله . هـ.
وقال الحسن بن منصور الحلاج: لم يُظهر الحق تعالى مقام الجمع على أحد بالتصريح إلا على أخص نسَمِهِ وأشرفه، فقال: ﴿إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله﴾.هـ.
وكما قال القشيرى: وفى هذه الآية تصريحٌ بعين الجمع، كما قال ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ﴾
الأنفال 17، وقال فى مختصره: يُشير إلى كمال فنائه وجوده فى الله وبقائه بالله.هـ. فالآية تُشير إلى مقام الجمع، المنبه عليه فى الحديث (فإذا أحببته كنت سمعه، وبصره، ويده ...) وسائر قواه، الذى هو سر الخلافة والبقاء بالله وهذا الأمر حاصل لخلفائه من العارفين بالله، أهل الفناء والبقاء، وهم أهل التربية النبوية فى كل زمان، فمَن بايعهم فقد بايع الله، ومَن نظر إليهم فقد نظر إلى الله، فمَن نكث العهد بعد عقده معهم فإنما ينكثه على نفسه، فتيبس شجرةُ إرادته، ويُطمس نور بصيرته، فيرجع إلى مقام عامة أهل اليمين ومَن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً شهود ذاته المقدسة على الدوام، والظفر بمقام المقربين، ثبتنا الله على منهاجه القويم، من غير انتكاص ولا رجوع، آمين.

المصدر تفسير الإمام اين عجيبة وتفسير الإمام القشيرى مع بعض التصرف للتوضيح.

خالد محمد

 

ومن أراد الاستزادة فليطلع على موقع النبى

أسرة التحرير