الفقيهة
.. السياسية .. الصديقة بنت الصديق
السيدة
عائشة أم المؤمنين
أخرج
الطبرانى عن عائشة
قالت: (لما توفيت خديجة
قالت خولة بنت حكيم
:
يا رسول الله ألا تتزوّج؟ قال: ومن؟ قالت: إن شئت بكرا وإن شئت ثيبا،
قال: فمن البكر؟ قالت: ابنة أحب خلق الله إليك عائشة بنت أبى بكر. قال:
فمن الثيب؟ قالت: سودة بنت زمعة. قال: فاذهبى فاذكريهما عليّ. فجاءت
فدخلت بيت أبى بكر فوجدت أم رومان أم عائشة
،
فقالت: "يا أم رومان ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة! أرسلنى رسول الله
أخطب عليه عائشة، قالت: وددت، انتظرى أبا بكر فإنه آت، فجاء أبوبكر
فقالت: يا أبا بكر ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة! أرسلنى رسول
الله
أخطب عليه عائشة، فقال: هل تصلح له؟ إنما هى بنت أخيه. فرجعت إلى رسول
الله
فذكرت ذلك له فقال: ارجعى إليه فقولي: أنت أخى فى الإسلام وأنا أخوك،
وابنتك تصلح لي، فأتت أبا بكر فقال: ادعى لى رسول الله
فجاء فأنكحه.
وكل
ما نعلمه عن عائشة يومذاك أنها بنت ست سنين أو سبع، وأنها كانت قد خطبت
(لجبير بن المطعم بن عدي) وأن أبا بكر وعده .. فلما طلبها رسول الله..
ذهب أبو بكر إلى المطعم ليكلمه بشأن هذه الخطبة فوجد عنده امرأته (أم
جبير)، فبادرت أبا بكر وقالت: لعلنا إن أنكحنا هذا الفتى تصبيه (فيرتد
عن دينه) وتدخله فى دينك الذى أنت عليه، فاقبل أبو بكر على المطعم وقال
له: ماذا تقول أنت؟ فقال: إنها لتقول ما تسمع. فخرج من عنده واعتبر هذا
الكلام يحلّه من وعده السابق.. فدعا إليه النبى
وزوجه عائشة.
وهكذا دخلت عائشة التاريخ من أوسع أبوابه. عاشت فى بيت النبى زوجة
كريمة محبوبة، وشاهدة ذكية على ميراث النبوة تقتبس وتحفظ وتستوعب كل ما
ترى .. لتكون بعد ذلك شاهد صدق ووزير خير ومعلّما لكل من أراد أن يتعرف
على أحوال النبى فى بيته وأهله.
أما
قوم عائشة فهم بنو تميم، عرفوا بالكرم والشجاعة والأمانة وسداد الرأي،
كما كانوا مضرب المثل فى البر بنسائهم والترفق بهن وحسن معاملتهن.
وأما
أبوها فأبو بكر الذى كان له إلى جانب هذا الميراث الطيب، شهرة ذائعة فى دماثة الخلق وحسن العشرة ولين الجانب. وأجمع مؤرخو الإسلام على أنه
’كان أنسب قريش لقريش، وأعلم الناس بها وبما كان فيها من خير وشر. وكان
تاجرا ذا خلق معروف، يأتيه رجال قومه ويألفونه لغير واحد من الأمر:
لعلمه وخبرته وحسن مجالسته‘.
وأما
أمها فأم رومان بنت عامر الكنانية، من الصحابيات الجليلات. قال فيها
رسول الله
عندما توفيت: اللهم لم يخف عليك ما لقيت أم رومان فيك وفى رسولك. وقال
فيها أيضا: (من سره أن ينظر إلى امرأة من الحور العين فلينظر إلى أم
رومان).
مقام المصطفى صلى الله
عليه وسلم وصاحبيه فى حجرة السيدة عائشة
أما
عائشة فالحديث عنها يطول .. وفى سيرتها عبر ودروس لا حصر لها تحتاج
إليها كل امرأة مسلمة عاملة فى موكب الدعوة.
عندما يمعن الإنسان الحصيف النظر فى سيرة السيدة عائشة أم المؤمنين يجد
كيف أنها شهدت المواقع كلها .. وكيف أعدّها القدر على عينه لتصبح فى بيت أبيها الصديق أو بيت زوجها النبي.. إحدى شاهدات العصر الإسلامى فى مراحل قوته وضعفه، وفى مرحلة انبساطه وانكماشه، وفى مرحلة فتنته وعطائه
..
نشأت
فى بيت كريم، فكان أبوها وجيها فى قومه، ميسورا فى تجارته، مضرب
الأمثال فى حلمه وصدقه. كان من أوائل المقبلين على اعتناق الدين
الجديد، يقول فيه النبى محمد
:
(ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت فيه عنده كبوة ونظر وتردد إلا ما
كان من أبى بكر .. ما عكم حين ذكرته له وما تردد فيه) .. وأصبح بالتالى هو وبيته وماله تحت تصرف الدعوة وقائدها .. يقول النبي: (ما نفعنى مال
قط، ما نفعنا مال أبى بكر). وعندما يسمع أبو بكر ذلك يبكى ويقول: وهل
أنا ومالى إلا لك..؟
كان
النبى لا يخطئ أن يأتى بيت أبى بكر أحد طرفى النهار، إمّا بكرة وامّا
عشية. عاشت عائشة الصغيرة فى هذا البيت الكريم .. تشاهد الأحداث
فتحفظها وتترسب آثارها فى ذاكرتها .. فالطفل لا ينسى. شهدت إسلام
أبيها.. وشهدت مرحلة الكفاح الدامى بين دعاة الحق وكفار قريش يسومونهم
سوء العذاب..
وشهدت صراع العقيدة مع جميع الولاءات الجاهلية، فلقد ترك المؤمنون
والمؤمنات أرضهم وملاعب صباهم ليهاجروا إلى الحبشة فرارا بدينهم ..
وانحاز المؤمنون إلى فريقهم تاركين الأهل والآباء والأبناء وأصبحوا أمة
من دون الناس.. وشهدت فصول الهجرة الكبرى.. هجرة النبى محمد
وأبيها إلى المدينة المنورة. فى بيتها وأمام عينيها خططا للهجرة، ومن
ذلك المكان خرجا ولا يعلم بخروجهما أحد فى مكة إلا عليّ بن أبى طالب
وآل أبى بكر.. كانت عائشة وحيدة فى البيت ترقب.. فأخوها عبد الله يتسلل
بين الناس يتسمع ما يقولون.. وأسماء أختها تنشغل بتدبير طعام تحمله
خفية إلى الغار إذا جنّ المساء.
تسمع
من أخيها عبد الله، حنق قريش على المهاجرين.. ورصدهم مائة ناقة لمن
يدلهم عليهما. وخروج نفر من فرسان قريش فى طلبهما.. وتحدثها أختها
أسماء بعد كل زيارة لها عن الغار وصعوبة البقاء فيه وعن المشركين
المطاردين وهم يقفون على قيد خطوة منهما..
لم
يكد يتحمل رأس الصبية الصغيرة كل هذا الصراع الذى اشتركت فيه كل عناصر
الشر، ولكن ثقتها بالنبى وبأبيها الصديق وبعين الرحمن التى لا تنام..
كانت أكبر من كل مكر شيطانى مريد..
وتنفست عائشة الصعداء وهى تسمع لأختها أسماء تحدثها عما كان:
عند
هدأة المساء فى تلك الليلة التاريخية الخالدة على الدهر، جاء الدليل،
عبد الله بن أريقط البكرى يسوق الراحلتين اللتين أودعهما أبو بكر منذ
أيام وراحلة له ثالثة، فأناخ عند فتحة الغار، فخرج الرسول وصاحبه،
وجاءت أسماء بطعامها فى سفرة وقد فاتها أن تجعل للسفرة عصاما، فلما
همّا بالرحيل وأرادت أن تعلقها، أعوزها العصام تربط به السفرة إلى
الرحل، فحلت نطاقها فشقته نصفين، علقت السفرة باحدهما، وانتطقت بالشق
الآخر فكانت ذات النطاقين.
ونظر
أبو بكر إلى الراحلتين، فقرب أفضلهما للنبى وقال: اركب فداك أبى وأمي.
وسرى الركب ممعنا إلى الجنوب، فى طريق غير مطروق، ووقفت أسماء تتبعه
بعينيها وقلبها حتى أبعد .. فعادت وحدها إلى البيت .. وهى توجس خيفة من
تنبه المطاردين .. وغابت عائشة عمّا حولها.. ومضت تسرى بروحها فى أثر
الراحلين. ولم توقظها غير طرقات عنيفة على الباب .. لقد جنّ جنون قريش
.. جاءوا يسألونها فى غلظة: أين أبوك يا بنت أبى بكر..؟ وعندما نفت
علمها بشيئ .. كانت يد أبى جهل ترتفع فتلطم خد أسماء لطمة قاسية طرحت
قرطها .. ووصلت الأخبار إلى مكة بأن محمدا وصاحبه قد وصلا إلى يثرب ..
وهدأت عائشة بعد طول قلق واضطراب .. واشتعل شوقها للحاق بالمهاجرين ..
فى دار الهجرة ..
فى الطريق إلى يثرب .. بعد نحو شهر، جاء زيد بن حارثة من دار الهجرة ليصحب
بنات المصطفى إليه، ومعه رسالة من أبى بكر إلى ابنه عبد الله، يطلب
إليه فيها أن يلحق به، مصطحبا أم رومان زوج أبى بكر، وابنتيه أسماء
وعائشة.
مازالت عائشة تذكر تلك الرحلة المثيرة عبر الصحراء إلى المدينة..
فتقول: حتى إذا كنت بالبيداء نفر بعيرى وأنا فى محفّة معى فيها أمى فاستغاثت أم رومان مذعورة: وابنتاه، واعروساه .. فأسرع عبد الله بن أبى بكر وطلحة بن عبيد الله وزيد بن حارثة فردوا البعير النافر. ووصلوا
أخيرا إلى يثرب واستقرت عائشة فى السنّح فى بيت أبيها أبى بكر.
وللحديث بقية ,,,
سامية السعيد |