كنا قد نشرنا فى صفحات المناقشة جزء من هذا الموضوع، وها نحن فى هذا الباب الجديد نعيد نشره بطريقة متكاملة، لكى تعم الفائدة، وحتى لا يكون فيه إطالة، ولكى يكون فيه فرصة للتدارس والتعليق، فنحن ننشره على حلقات:

 

النفس المطمئنة

يقول فيها الشيخ :

والمطمئنة فى عظيم فضولها      هى فتنة تمشى على استحياء

فعلامة الدخول فى هذا المقام انه لايفارق الامر التكليفى شبرا، ولايتلذذ إلا بالتخلق بأخلاق المصطفى ، ولا يطمئن إلا باتباع اقواله وهو مقام التمكين، ففى هذا المقام يتلذذ السالك لأعين الناظرين وأسماع السامعين، حتى انه لو تكلم طول الدهر لا يُمل كلامه لان لسانه يترجم عما ألقاه الله فى قلبه من حقائق الاشياء، وظهرت له حقيقة عالم الملكوت، وتبدأ خطورة هذه النفس بأنه يأخذه شئ من الاطمئنان، وقد ظهرت عليه خلع الوقار والقبول فيحبب إلى نفسه الاجتماع بالخلق، ليفيض عليهم مما أنعم الله به عليه مع انه مازال فى ادنى درجات الكمال، ويكون عنده ميل لحب الكرامات، وقد خفى عنه ان كل ما سوى الله فتنة، مثلوا ذلك مثل رجل طلب حج بيت الله الحرام، وسار مع الحجاج وقطع من الطريق أكثره، فعرضت له امرأة حسناء لم ير الراؤن مثلها، فأدهشته وأخذت عقله فأراد الاقامة معها، فقال له حاج لا تقم هنا ما بقى إلا القليل، فلا تقطع نفسك عنا، ولكن اذهب معنا نزور بيت الله الحرام، فإذا رجعنا نعقد عقدك عليها وتدخل معها بالحلال، فغلب عليه هواه وانقطع عن رفقته، فدنا منها وأزال البرقع عن وجهها، فإذا هى عجوز مخلعة الاسنان قبيحة المنظر فندم حيث لاينفع الندم.

واعلم أن الكرامة ليس شيئا قبيحا، لانها اكرام من الله، وكذلك الدنيا، ولكن الميل اليها وطلبها شئ قبيح، فاحذر ان تأتى إليك الدنيا وتتزين لك، اسمع إلى قول الشيخ : ’إذا قابلت الحق بالعمل محاسب عليه، وإذا قابلته بالحرام نار الله، متى يكون حلال لك؟ عندما يتجلى عليك الحق ويقول لك: ﴿هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب﴾.

ثم تأمل قول الشيخ : ’هى فتنة تمشى على استحياء‘. وتأمل قصة سيدنا موسى عندما سقى الماء لبنات سيدنا شعيب، ’فجاءته احداهما تمشى على استحياء‘، أتت اليه الدنيا فى أبهى صورها فتمثلت لسيدنا موسى عندما سارت أمامه وهبت الريح فظهرت معالم الفتنة، فقال: ’لها سيرى خلفى‘ فرفضها فى حينه، ولم يتردد لعلمه بخطورة هذا الامر، فلما سارت خلفه ملكها، لانها لو كانت أمامه لفتنته، ولكنه أبى إلا أن يكون أمامه الحق، ولاغير الحق.

وكما تجلت الدنيا لنبى الله سيدنا يوسف فى أبهى صورها فى صورة السيدة زليخة وقالت له هيت لك قال معاذ الله. فرفضها أيضا وجعلها خلف ظهره. واسمع إلى قول الشيخ إذ يقول:

إلى حيثما ولى الدسوقى وجهة      أرانى أولى  فهو بالله قبلتى

وقال أيضا:

لما استبقنا والمطايا جهزت      ماغير محبوبى أراه أمامى

فرفض الشيخ الدنيا وكان كل ماسوى الله خلف ظهره. واعلم انه يعرض عليك فى هذا المقام حب الرياسة والشهره والتعرض للمشيخة والارشاد ليجتمع عليك الناس وكل هذه دسائس من النفس لانك مازلت فى أدنى مراتب الكمال فلا تتطمئن اليها لتنتقل إلى المقام الخامس والذى يسمى بالنفس الراضية.

وإلى العدد القادم ...

مجموعة المرشد الوجيز