للمريد الصادق 4

استكمال ما جاء بالعدد السابق:

وقد روينا عن سفيان الثورى وعن بشر بن الحرث: إذا استوحشت من الوحدة واستأنست بالخلق لم آمن عليك الرياء، وكان أبو محمد يقول: اجتمع الخير كله فى هذه الخصال الأربع وبها صار الإبدال إبدالاً: إخماص البطون، والصمت، واعتزال الخلق، وسهر الليل، وحدثت عن عبد العزيز عن سهل قال: مخالطة الولى للناس ذلّ وتفرّده عزّ وقلّ مارأيت وليّاً للّه عزّ وجلّ إلا منفرداً، وقال بعض العارفين: الأنس بالوحدة علامة وجود الطريق فمن علامة صدق الإرادة بعد صحة التوبة وقوة العزم على الاستقامة إيثار هذه الأربع التى ذكرناه على أضدادها ووجود القلب عندها وانشراح الصدر بها وحسن الخلق معها لأن ضدها هو أبواب الدنيا ومفاتيح الغفلة وطرقات الهوى،

من ذلك فإن فى الشبع قسوة القلب وظلمته وفى ذلك قوّة صفات النفس وانتشار حظوظها وفى قوّتها وبسطها ضعف الإيمان وخمود أنواره وفى ضعف النفس وخمود طبعها قوة الإيمان واتساع شعاع أنوار اليقين وفى ذلك قرب العبد من القريب ومجالسته للحبيب والشبع مفتاح الرغبة فى الدنيا، وقال بعض الصحابة: أول بدعة حدثت بعد رسول اللّه الشبع إذ القوم لما شبعت بطونهم جمحت بهم شهواتهم.

وروى عن عائشة قالت: كان رسول اللّه وأصحابه يجوعون من غير إعواز ى مختارين لذلك، وقال ابن عمر: ماشبعت منذ قتل عثمان ، وقال هذا فى زمن الحجاج، وفى حديث أبى حجيفة لما تجشأ عند رسول اللّه فقال له: (اكفف عنا جشاءك فإن أطولكم شبعاً فى الدنيا، أكثركم جوعاً فى الآخرة)، فقال: واللّه ما تمليت طعاماً من يومئذ إلى يومى هذا، وأرجو أن يعصمنى اللّه عزّ وجلّ فيما بقي، ويستحب على هذا أن يكون جوع العبد فى الدنيا أكثر من شبعه وهى علامة الأولياء، فمن كان له أكلة بين جوعتين إلى منتهاهما فجوعه حينئذ أكثر من شبعه، ومن كان له بعد جوعة بالغة شبعة متوسطة فقد اعتدل شبعه وأكله وجوعه، ومن أكل فى يوم مرتين أو أكل من غير جوع ثم شبع فشبعه أكثر من جوعه، وهذا مكروه، وكل من أكل بعد الجوع، ورفع يده قبل الشبع فجوعه أكثر من شبعه وهذا أوسط الأحوال، وقال هشام عن الحسن: واللّه لقد أدركت أقواماً كانوا لا يشبعون يأكل أحدهم حتى إذا رد نفسه أمسك ذائباً ناحلاً مقبلاً على نية يعيش عمره كله ما طوى له ثوب قط ولا أمر أهله بصنعة طعام قط ولا جعل بينه وبين الأرض شيئاً قط، وقال جعفر بن حيان عن الحسن: المؤمن لا يأكل فى كل بطنه، ولا تزال وصيته تحت جنبه.

وروى عن الثورى: خصلتان تقسيان القلب؛ طول الشبع، وكثرة الكلام، وروينا عن مكحول خصال ثلاث يحبها اللّه عزّ وجلّ وثلاث يبغضها اللّه عزّ وجلّ، فأما اللاتى يحبها: فقلة الأكل، وقلة النوم، وقلة الكلام، وأما اللاتى يبغض: فكثرة الأكل، وكثرة الكلام، وكثرة النوم؛

فأما النوم فإن فى مداومته طول الغفلة وقلة العقل ونقصان الفطنة وسهوة القلب، وفى هذه الأشياء الفوت وفى الفوت الحسرة بعد الموت، وروينا عن النبى قال: (قالت أم سليمان بن داود لابنها: يابنى لاتكثر النوم بالليل فإن كثرة النوم تترك العبد فقيراً يوم القيامة). وقيل كان شبان يتعبدون فى بنى إسرائيل فكانوا إذا حضر عشاؤهم قام فيهم عالمهم فقال: يا معشر المريدين لا تأكلوا كثيراً فتشربوا كثيراً فترقدوا كثيراً فتخسروا كثيراً، وكان بعض السلف يقول: أدنى أحوال المؤمن: الأكل والنوم، وأفضل أحوال المنافق: الأكل والنوم، وقال بعض الناس لفيلسوف من الحكماء:صف لى شيئاً أستعمله حتى أكون أنام النهار، فقال: ياهذا ماأضعف عقلك إن نصف عمرك نوم والنوم من الموت، تريد أن تجعل ثلاثة أرباعه نوماً وربعه حياة؟ قال: وكيف؟ قال: أنت إذا عشت أربعين سنة فإنما هى عشرون سنة أفتريد أن تجعلها عشر سنين؟

وأما كثرة الكلام فإن فيه قلة الورع وعدم التقوى وطول الحساب وكثرة المطالبين وتعلق المظلومين وكثرة الأشهاد من الأملاك المكاتبين ودوام الإعراض من الملك الكريم، لأن الكلام مفتاح كبائر اللسان، فيه الكذب والغيبة والنميمة والبهتان، وفيه شهادة الزور، وفيه قذف المحصن والافتراء على اللّه تعالى والإيمان، وفيه القول فيما لايعنى والخوض فيما لاينفع، وقد جاء فى الخبر: أكثر خطايا ابن آدم فى لسانه وأكثر الناس ذنوباً يوم القيامة أكثرهم خوضاً فيما لايعنيه، وفى اللسان التزين والتصنع للخلق والتحريف والإحالة لمعانى الصدق، وفيه المداهنة والمواراة والتملق لأهل الأهواء وفى اجتماع هذا على العبد شتات قلبه وفى شتاته تفريق همه، وفى تفريق همه سقوطه من مقام المقربين، وفى وصية ابن عباس لمجاهد: لا تمارينّ حليماً ولا سفيهاً فإن الحليم يقلاك وإن السفيه يؤذيك، وفى الخبر: إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يلقى لها بالاً يهوى بها أبعد ما بين السماء والأرض، وفى لفظ آخر ليتكلم بها فيهوى فى جهنم سبعين خريفاً، وقال لقمان لابنه: لأن تعيش أخرس يسيل لعابك على صدرك خير لك من أن تنطق فى نادى القوم بما لايعنيك، وفى خبر: من افتتح بكلمة سوء ثم خاض الناس فى مثلها كان عليه مثل أوزارهم، وفى الخبر: لايأتى بخبر السوء إلا رجل السوء، وحدثونا عن إبراهيم بن أدهم أنه كان إذا صحبه رجل فجاء بخبر سوء فارقه، وروينا فى الحديث: من حدث بما سمعت أذناه ورأت عيناه كتبه اللّه تعالى من الذين يحبون أن تشيع الفاحشة فى الذين آمنوا.

وروى عن على : ’مذيع الفاحشة فى الناس كفاعلها‘، وفى الخبر: إن بعض فقراء أهل الصفة استشهد فى سبيل اللّه عزّ وجلّ فقالت أمه: هنيئاً لك فى الجنة جاهدت فى سبيل اللّه وهاجرت إلى رسول اللّه وقتلت شهيداً، طوبى لك الجنة، فقال رسول اللّه : (وما يدريك أنه فى الجنة؟ فلعله كان يتكلم فيما لا ينفعه أو يبخل بما لا يضره) وفى لفظ آخر: (لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه ويبخل بما لايغنيه)، وفى الخبر: إن بعض الصحابة قال لرجل إنه لنؤوم، فقال رسول اللّه : (اغتبتم أخاكم سلوه أن يستغفر لكم)، وفى خبر آخر: إنهم قالوا ما أعجز فلاناً فقال: (أكلتموه)، وفى حديث عائشة قالت لامرأة: ما أطول ذيلها وفى لفظ آخر قالت: إنها لقصيرة، فقال رسول اللّه : (اغتبتها) وفى خبر آخر: أن رسول اللّه قال لها: (لقد تكلمت بكلمة لو مزج بها ماء البحر لامتزج)، فهذا من وصف المبالغة فى الشدة، وفى الخبر الجامع لهذه المعانى فى وصف الغيبة ما روى عن رسول اللّه : (من قال فى أخيه مافيه فقد اغتابه)

وللحديث بقية ...

مريد يتمنى الصدق

 

 

 

 

أهل الله

{هم المنشغلين بالله عمن سواه}

عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : (إن لله أهْلِين من الناس). قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: (أهْل القرآن هم أهل الله وخاصته).مسند أحمد. وهم المتخلقين بخلق القرآن.

عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : (إنما عمار المساجد هم أهل الله). عبد بن حميد فى مسنده والحافظ أبو بكر البزار. وهم الذين يقيمون الصلاة لذكر الله ويرفعون ذكر الله فى المساجد.

عن مقاتل والكشاف فى تفسيرهما لقوله سبحانه: ﴿وقل رب أدخلنى مدخل صدق وأخرجنى مخرج صدق واجعل لى من لدنك سلطانا نصيرا﴾ أن النبى استعمل عتاب بن أسيد على أهل مكة وقال: (انطلق فقد استعملتك على أهل الله) فكان شديدا على المريب لينا على المؤمن وقال: لا والله لا أعلم متخلفا يتخلف عن الصلاة فى جماعة إلا ضربت عنقه فإنه لا يتخلف عن الصلاة إلا منافق. فقال أهل مكة: يا رسول الله لقد استعملت على أهل الله عتاب بن أسيد أعرابيا جافيا فقال : (إنى رأيت فيما يرى النائم كأن عتاب بن أسيد أتى باب الجنة فأخذ بحلقة الباب فقلقلها قلقالا شديدا حتى فتح له فدخلها فأعز الله به الإسلام لنصرته المسلمين على من يريد ظلمهم فذلك السلطان النصير). وهنا أهل الله هم أهل قريش قرابة رسول الله وخدم حرم الله.

وفى تفسير ابن عجيبة لقوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ • وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِين﴾َ 45, 46 الأنفال، يقول ابن عجيبة: يقول الحق : ﴿يا أيها آمنوا إذا لَقيتُم فئةً﴾؛ جماعة من الكفار عند الحرب ﴿فاثبتُوا﴾ للقائهم، ولا تفروا، ﴿واذكروا الله﴾ فى تلك الحال سراً داعين له، مستظهرين بذكره، متوجهين لنصره، معتمدين على حوله وقوته، غير ذاهلين عنه بهجوم الأحوال وشدائد الأهوال؛ إذ لا يذكر الله تعالى فى ذلك الحال إلا الأبطال من الرجال ﴿لعلكم تفلحون﴾ بالظفر وعظيم النوال. قال البيضاوى: وفيه تنبيه على أن العبد ينبغى ألا يشغله شيئ عن ذكر الله، وأن يلتجئ إليه عند الشدائد ويقبل عليه بشراشره، فارغ البال، واثقاً بأن لطفه لا ينفك عنه فى جميع الأحوال. ه.

﴿وأطيعوا الله ورسوله﴾ فيما يأمركم به وينهاكم عنه؛ فإن الطاعة مفتاح الخيرات، ﴿ولا تنازعوا﴾ باختلاف الآراء كما فعلتم فى شأن الأنفال، ﴿فتفشلوا﴾ وتجبنوا، ﴿وتذهب ريحُكم﴾ أى: ريح نصركم بانقطاع دولتكم، شبه النصر والدولة بهبوب الريح؛ من حيث إنها تمشى على مرادها، لا يقدر أحد أن يردها، وقيل: المراد بها الريح حقيقة، فإن النصرة لا تكون إلا بريح يبعثه الله من ناحية المنصور تذهب إلى ناحية المخذول. وفى الحديث: (نُصِرتُ بالصِّبَا، وأُهْلِكَتْ عَادٌ بالدَّبُورِ). ﴿واصبروا إن الله مع الصابرين﴾ بالمعونة والكلاءة والنصر.

والمعنى فى الإشارة: خاطب الله المتوجهين إليه، السائرين إلى حضرته، وأمرهم بالثبوت ودوام السير، وبالصبر ولزوم الذكر عند ملاقاة القواطع والشواغب، وكل ما يصدهم عن طريق الحضرة، وذلك بالغيبة عنه والاشتغال بالله عنه، وعدم الإصغاء إلى خوضه وتكديره، فمن صبر ظفر، ومن دام على السير وصل، وأمرهم ايضاً بطاعة الله ورسوله، ومن يدلهم على الوصول إليه، ممن هو خليفة عنه فى أرضه، وأمرهم بعدم المنازعة والملاججة، فإن التنازع يُوجب تفرق القلوب والأبدان، ويوجب الفشل والوهن، ويذهب بريح النصر والإعزاز، كما أن الوفاق يوجب النصر ودوام العز.

ونهاهم عن التشبه بأهل الخوض والتكدير، ممن أولع بالطعن والتنكير، بل يكونون على خلافهم مخلصين فى أعمالهم وأحوالهم، دالين على الله، داعين إلى طريق الله، يُحببون الله إلى عباده، ويحببون عباد الله إلى الله، وهذه صفة أهل الله. نفعنا الله بذكرهم. آمين. انتهى كلام ابن عجيبة.

وروى أن موسى عليه السلام قال: إلهى أقريب أنت فأناجيك أم بعيد فأناديك. فقال الله تعالى: [أنا جليس لمن ذكرنى وقريب ممن أنس بى أقرب إليه من حبل الوريد]

وقال سادة أهل الله : من ذكر الله فهو على نور من ربه وعلى طمأنينة من قلبه وعلى سلامة من عدوه.

وقالوا: ذكر الله طعام الروح والثناء عليه تعالى شرابها والحياء منه لباسها.

وقالوا: ما تنعم المتنعمون بمثل أنسه ولا تلذذ المتلذذون بمثل ذكره.

وجاء فى بعض الكتب الإلهية أن الله تعالى قال: [من ذكرنى فى نفسه ذكرته فى نفسى ذكرنى فى ملأ ذكرته فى ملأ ومن ذكرنى من حيث هو ذكرته من حيث أنا ومن ذكرنى من حيث هو أعطيته من حيث أنا]

فالقوم شغلهم ذكره ومقصدهم هو يرون أن الحوادث الكونية تقوم بقضائه وقدره فلا يعارضوها لا بقلب ولا بلسان: إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون.

قال ابن عباس : ما من مؤمن إلا وعلى قلبه شيطان إذا ذكر الله خنس وإذا نسى الله وسوس.

وللحديث بقية ،،،

من خواطر خاطر

 

من أراد الاستزادة فى هذا الموضوع فليتتبع صفحات الصوفية فى موقع الطريقة البرهانية.

أسرة التحرير