رفقا بالقوارير 2

استكمالا لما ذكرنا فى العدد السابق:

ومن شمائله أنه ما عابَ طَعاماً قَطُ: إن اشْتَهاهُ أَكَلَهُ, وإن كَرهَهُ تَرَكَهُ ويذكر أن النبى سأل أهله الأُدْمَ, فقالوا: ما عندنا إلا خلَ, فدعا به فجعل يأكل, ويقول: (نعْمَ الأُدْمَ الخَلُ , نعْمَ الأُدْمَ الخَلُ).
اسمعوا أيها الأزواج الذين كثيراً ما استطار الشرر من عيونكم لتقصير وقعت فيه زوجاتكم فتأخر الطعام عن موعده أو جاء على غير ما تشتهون، وقد تكون هناك أسباب قاهرة أرغمت الزوجة المسكينة على الوقوع فى مثل هذا التقصير، ولكن الأزواج يغضبون قبل معرفة تلك الأسباب أليسوا رجالاً قَوَامين على النساء؟
وأحياناً الزوجة يعتريها ثورة غضب وانفعال يجعلها تنكمش عن زوجها فعلى الزوج أن يسع زوجته ويراعى تكوينها ومزاجها كما كان الرسول يسع زوجاته إذ يغاضبنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل.

يقول سيدنا عمر بن الخطاب : ’كنا معشر قريش قوماً نغلِبُ النساء, فلما قدمْنا المدينة وجَدْنا قوماً تغلِبُهم نساؤهم, فطفقَ نساؤنا يتعلَمْنَ من نسائهم‘. قال: ’وكان منزلى فى بنى أمية بن زيد بالعوالى‘. قال: ’فتغضب يوماً علىَّ امرأتى, فإذا هى تراجعنى, فأنكرت أن تراجعنى, فقالت: ما تُنكرُ أن أراجعك! فو الله إن أزواج النبى ليُراجعْنَه, وتهجُره إحداهن اليومَ إلى الليل! قال: فانطلقتُ فدخلتُ على حفصة فقلت: أتُراجعين رسول الله ؟ قالت: نعم، قلتُ: وتهجُرُهُ إحداكُن اليومَ إلى الليل؟ قالت: نعم, قلتُ: قد خاب مَن فعل ذلك منكن وخسرَ! أفتأمَنُ إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله؟ فإذا هى قد هلكتْ؟! لا تُراجعى رسول الله, ولا تساليه شيئاً وسَلينى ما بدالك. ويأتى عمر النبى ويحدَثه بما دار بينه وبين حفصة من حوار فيبتسم الرسول الكريم .
وفى موقف آخر يحاول الرسول الكريم إن يُهدئ من الحالة المتوترة لإحدى زوجاته، فقد دخل الرسول ذات يوم على زوجته السيدة صفية بنت حيى فوجدها تبكى، فقال لها ما يبكيك؟ قالت: إن حفصة تقول: أنى ابنة يهودى؛ فقال: قولى لها زوجى محمد وأبى هارون وعمى موسى ... وهكذا نرى كيف يحل الخلاف بكلمات بسيطة وأسلوب طيب.

وتعالوا معى لرؤية ذلك الموقف النبوى الرائع، المثالى، العظيم:
فقد كانت أمنا عائشة تغار على الحبيب وكيف لا تغار عليه وهو زوجُها وهو رسول الله وهو خير ولد آدم !!!
فعن أنس قال: أهدت أم سلمة إلى رسول الله قصعة أو صحفة فيها ثريد، وهو فى بيت بعض نسائه فضربت عائشة يد الخادم، فانكسرت القصعة، فجعل النبى يأخذ الثريد ويرده فى فلق القصعة ويقول: (كلوا. غارت أمكم). ثم حبس الخادم حتى أتى بصحفة من عند عائشة، فبعثها إلى أم سلمة، وأعطى صحفة أم سلمة عائشة).
رواه الشيخان والترمذى والنسائى.

فما أعظم تلك الحكمة وما أجمله من صبر، صبر رسول الله على غيرة عائشة فلم يُقابل الموقف بالإهانة أو الإساءة ولكنه راعى نفسية زوجته وعرف أن الغيرة مما جُبلت عليه المرأة بالدُنيا، فالمشاعر تتحكم بها أكثر من العقل، وينتُج عن ذلك تصرُفات غير عقلانية، نابعة من أحساسها المُرهف وشدة حُبها لزوجها ...

راعى الحبيب تلك الغيرة ولم تكُن سبباً فى الفراق بينه وبين زوجته أم المؤمنين عائشة وإنما صبر عليها، وبعد أن هدأ الموقف عاقب بعدله على الغيرة أيضاً حينما طلب تعويض للصفحة مقابل كسرها ... فما أحلمك يا رسول الله ! فبمثل ذلك فليقتدى الأزواج.

وهُنــا معنــا حديث آخر نتأمله:
قالت عائشة : لما كانت ليلتى التى كان النبى فيها عندى، وظن أنى قد رقدت فخرج، فانطلقت على أثره‘ - وقد ظنت أنه ذهب إلى إحدى ضراتها - فتبعته حتى جاء البقيع، ثم انحرف فانحرفت فأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت، فسبقته فدخل، فقال: (مالك يا عائش حشيا رابية؟) - أى يخفق صدركِ كثيراً - فأخبرته، قال: (أظننتِ أن يحيف الله عليكِ ورسوله؟) - أى يظلمك - الحديث مُختصر،
رواه مُسلم.

فما أعظم خُلُقك يا حبيبى يا رسول الله وما أعدل الله وأعدلك ... فكيف لا والله هو الذى أدبك وأحسن خُلُقك !!!
وحينما سأل رسول الله عائشة : أغرتِ؟! فأجابت: ومالى لا يغارُ مثلى على مثلك!)
رواه أحمد فى المُسند.
فما أجمل المودة التى جعلها الله بين الأزواج ... أنظُروا أيها الأخوة إلى الحوار الجميل بين الرسول وزوجته المُحبه له والتى تغار عليه حتى بعد الممات! فلو أدرك الأزواج ذلك الشعور الأُنثوى وتفهموه ما حدث الخلاف بين الزوجين وما نتج عنهُ خراب للبيوت وضياع للأولاد ...
سُبحان الله، فمن تلك الأحاديث النبوية الشريفة نرى كم كان رسولنا الحبيب صبوراً وحليماً وحكيماً على غيرة زوجته عائشة ولم يُقابل تلك الغيرة بشىء من الإساءة النفسية أو الجسدية، بل عالج الأمر بالحكمة التى وهبها الله له وبخُلقه الذى قال الله فيه سُبحانهُ: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾
4 القلم.
وقد شدّد على من يظلمهن حقّهن فقال: (اللّهم إنّى أحرّج حقّ الضعيفين اليتيم والمرأة). الْمَعْنَى َأُحَذِّر مِنْ ذَلِكَ تَحْذِيرًا بَلِيغًا وَأَزْجُر عَنْهُ زَجْرًا أَكِيدًا.

وقد نهى الرسول الكريم عن إساءة استعمال الزوج لقوته حتى فى ما أحله الله له عندما قال سبحانه فى المرأة الناشذ: ﴿واهجروهن فى المضاجع واضربوهن﴾، فقال : (ألا عسى أحدكم أن يضرب امرأته ضرب الأَمَة! ألا خَيْرُكم خيركم لأهله) -أى لزوجته، وقال أيضا : (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلى. ما أَكْرَم النساءَ إلا كريم، ولا أهانهنّ إلا لئيم)،

وعن عائشة قالت: كنا مع رسول الله فى سفر وكان عبد الله بن رواحة جيد الحداء وكان مع الرجال وكان أنجشة مع النساء فقال النبى لابن رواحة: (حرك بالقوم) فاندفع يرتجز، فتبعه أنجشة فأعنقت الإبل فقال النبى لأنجشة: (رويدك رفقا بالقوارير)! أَراد بـ’القوارير‘ النساء، شبههن بالقوارير، والقواريرُ من الزُّجاج يُسْرِع إِليها الكسر ولا تقبل الجَبْرَ. والمعنى أنه أَراد أَن الإِبل إذا سمعت الحُدَاء أَسرعت فى المشى واشتدت فأَزعجت الراكبَ فأَتعبته، فنهى أنجشة عن ذلك لأَن النساء يضعفن عن شدة الحركة. وقال بعض أَهل العلم: معنى القوارير؛ أَوانىَ زُجاج فى بياض الفضة وصفاء القوارير. قال ابن سيده: وهذا حسن... على التشبيه بالقارورة من الزجاج لصفائها وأَن المتأَمّل يرى شخصه فيها ... 

بل الأكبر والأعظم من ذلك وما يشير إلى شدة شفقته عليهم، هو أن يوصى ويؤكّد على حقوقهن عند حضور الموت، فعند الموت كل إنسان منشغل بنفسه، أمّا سيدنا رسول الله فقد تجلى احترامه للمرأة ودفاعه عنها ورحمته بها فى مثل هذا الموقف العصيب وهو يصارع سكرات الموت، فأوصى الرجال بالإحسان إلى المرأة بل حثهم على أن يوصى بعضهم بعضا بالإحسان إلى المرأة، فقال: (استوصوا بالنساء خيرا).

والحديث لا ينفض عن كيف كان الحبيب صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم رفيق بنسائه وبالنساء عامة.
فينبغى على الأزواج أن يصبروا ويتخذوا من رسول الله القدوة الحسنة، ويتفهموا طبيعة زوجاتهم وما جعله الله فى طبائعهن، ويُقدّروا ذلك ...
وبالتعاون من الجانبين والتفاهُم ومُراعاة نفسية كل منهُما للآخر ... وبالمزيد من الصبر من جانب الزوج والتفهُم وأن يحتسب ذلك عند الله ويعلم أن غيرة زوجته عليه ما هى سوى من مُنطلق حُبّها الشديد له؛ تمضى سفينة الحياة الزوجية بسلام ...
أسئل الله أن يُحسّن أخلاقنا ويُهدأ غيرتنا على أزواجِنا ويحفظهم من كُل سوء، ويحفظ كُل بيت مُسلم ... وصلى الله وسلم على نبى الرحمة نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبة أجمعين.

وللحديث بقية ,,,

سامية السعيد