يحاول بعض الناس أما عمدا أو جهلا أن يخدعوا أنظار المسلمبن عما كان عليه السلف الصالح ويدعون معرفتهم ويتسببون فى حيرة الناس حتى أنهم ليتسائلون:

هل نور النبى أول شىء خلقه الله؟

 

نقول والله الموفق والمعين:

ينكر الجاهلون هذه الحقيقة مستدلين بالآيات الشريفة التى توصف بشريته صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وذلك لقصور فهمهم وسطحية فكرهم وعدم تعمقهم فى الدين وعدم تدبرهم لكلام الله عز وجل حيث القلوب مغلقة، وفى ذلك يقول المولى تبارك وتعالى ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ محمد 24، فالقرآن لا يُتدبر إلا بالقلب النظيف المفتوح والمستعد لقبول فيوضات الله تعالى من المعانى العالية الحقيقية التى يعيها أولى الألباب، الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم وذلك لأن هذه المعانى لا تتنزل إلا على أوعية نظيفة، هذه الأوعية هى القلوب العامرة بذكر الله تعالى التى تطهرت وانجلى عنها الصدأ بذكر الله واستغفاره، ونتسآل هل يستوى الحجر الجيرى مع الأحجار الكريمة؟

ألم يعلموا من القرآن والسنة النبوية الشريفة غير أنه صلوات ربى وسلامه عليه بشر؟ فعندما قال المولى تبارك وتعالى ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ الكهف 110.

فهل كل البشر يوحى إليهم؟ بالطبع لا، كذلك الأنبياء معصومون فهل كل البشر معصومون؟ طبعاً لا، نفهم من ذلك أن المثلية ليست مطلقة فى كل شىء وإنما مقيدة، بخلاف أنه يمتاز عنا بالمعجزات كالإسراء والمعراج، ونزول الوحى ومواصلة الصيام ... الخ وهكذا لا يكون لبشر قدم معه صلوات ربى وسلامه عليه، ومع ذلك فالأدلة على أسبقية نوره كثيرة نسوق منها:

﴿قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ﴾ الزخرف 81، فى هذه الآية يقول الإمام ابن عجيبة فى الإشارة:

قل يا محمد: إن كان للرحمن ولد، على زعمكم فى عيسى والملائكة، فأنا أولى بهذه النسبة على تقدير صحتها؛ لأنى أنا أول مَن عبد الله فى سابق الوجود؛ لأن أول ما ظهر نورى، فعَبَد اللهَ سنين متطاولة؛ ثم تفرّعت منه الكائنات، ومَن سبق إلى الطاعة كان أولى بالتقريب، فلِمَ خصصتم الملائكة وعيسى بهذه النسبة، وأنا قد سبقتهم فى العبادة، بل لا وجود لهم إلا من نورى، لكن لا ولد له، فأنا عبد الله ورسوله.

قال سيدى الإمام جعفر الصادق: أول ما خلق الله نور محمد قبل كل شى، وأول مَن وحّد الله عزّ وجل من خلقه، دُرة محمد ، وأول ما جرى به القلم {لا إله إلا الله محمد رسول الله} قاله الورتجبى: ففى الآية إشارة إلى أسبقيته ، وأنه أول تجلٍّ من تجليات الحق، فمِن نوره انشقت أسرار الذات، وانفلقت أنوار الصفات، وامتدت من نوره جميع الكائنات. أهـ

فهو صلوات ربى وسلامه عليه أول من عبد الله فيقول المولى تبارك وتعالى قل لهم يا حبيبى يا سيد الرسل أنا أول من عبد الله تعالى فلم أجد له ولد.

وعن أسبقية نوره أخرج عبد الرزاق فى مسنده فى كتابه {جنة الخلد} عن جابر بن عبد الله الأنصارى قال: قلت: يا رسول الله بأبى أنت وأمى أخبرنى عن أول شىء خلقه الله تعالى قبل الأشياء: قال (يا جابر إن الله تعالى خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره، فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء الله تعالى ولم يكن فى ذلك الوقت لوح ولا قلم ولا جنة ولا نار ولا ملك ولا سماء ولا أرض ولا شمس ولا قمر ولا جن ولا إنس، فلما أراد الله أن يخلق الخلق قسم ذلك النور أربعة أجزاء، فخلق من الجزء الأول القلم، ومن الجزء الثانى اللوح، ومن الثالث العرش، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء فخلق من الجزء الأول حملة العرش، ومن الثانى الكرسى، ومن الثالث باقى الملائكة، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء فخلق من الجزء الأول السماوات، ومن الجزء الثانى الأراضين، ومن الجزء الثالث الجنة والنار، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء فخلق من الأول نور أبصار المؤمنين، ومن الثانى نور قلوبهم وهى المعرفة بالله، ومن الثالث نور أنسهم وهو التوحيد: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ثم نظر إليه فترشح النور عرقاً فتقطرت منه مائة ألف قطرة وعشرين ألفاً وأربعة آلف قطرة، فخلق الله من كل قطرة روح نبى ورسول، ثم تنفست أرواح الأنبياء فخلق الله من أنفاسهم أرواح الأولياء السعداء والشهداء والمطيعين من المؤمنين إلى يوم القيامة، فالعرش والكرسى من نورى، والكروبيين من نورى، والروحانيين من نورى، والجنة وما فيها من النعيم من نورى، والشمس والكواكب من نورى، والعقل والعلم والتوفيق من نورى، وأرواح الأنبياء والرسل من نورى، والسعداء والصالحون من نتاج نورى، ثم خلق آدم من الأرض وركب فيه النور وهو الجزء الرابع، ثم انتقل منه إلى شيث، وكان ينتقل من طاهر إلى طيب إلى أن وصل صلب عبد المطلب ومنه إلى وجه أمى آمنة، ثم أخرجنى إلى الدنيا فجعلنى سيد المرسلين وخاتم النبيين وقائد الغر المحجلين، هكذا بدء خلق نبيك يا جابر).

وعلى هذا النسق فقد قال (أنا من نور الله والمؤمنون من رشحات نورى) ويدلل على ذلك قوله تبارك وتعالى ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِى بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ المائدة 15-16، وفى ذلك يقول العلامة الألوسى فى تفسيره روح المعانى:

قد جاءكم من الله نور أبرزته العناية الإلهية من مكامن العماء وكتاب خطه قلم البارى فى صحائف الإمكان، جامعاً لكل كمال، وهما إشارة إلى النبى ولذلك وحد الضمير فى قوله سبحانه ﴿يَهْدِى بِهِ اللهُ﴾ أى بواسطته ﴿مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ﴾ أى من أراد ذلك سبل السلام وهى الطرق الموصلة إليه عز و جل. أهـ

ومن ذلك أيضاً أنه صلى الله عليه وآله وسلم عندما سًئل: متى نبئت يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

(كنت نبياً وآدم منجدل فى طينته) رواه أحمد فى مسنده، وأبو نعيم فى دلائل النبوة، وابن الجوزى، والترمذى فى صحيحه، وحسنه بلفظ (وآدم بين الروح والجسد) راجع فى هذا المعنى {سبل الهدى والرشاد} للصالحى تحقيق الدكتور مصطفى عبد الواحد طبعة المجلس الأعلى للشئون الإسلامية لجنة إحياء التراث.

وفى حديث آخر قال (كنت نبياً وآدم بين الماء والطين) ومرة ثالثة قال (كنت نبياً ولا ماء ولا طين) وفى ذلك يقول ابن الربيع الشيبانى وأما الذى ورد على الألسنة بلفظ (كنت نبياً وآدم بين الماء والطين) فقال شيخنا يعنى محمد بن عبد الرحمن السخاوى: لم أقف عليه بهذا اللفظ فضلاً عن زيادة (وكنت نبياً ولا آدم ولا ماء ولا طين). أهـ

راجع تمييز الطيب من الخبيث فيما يدور على ألسنة الناس من الحديث 153، قال العجلونى: لم يوجد بهذا اللفظ لكن قال العلقمى فى شرح الجامع الصغير للسيوطى: حديث صحيح ص 132من شرح الجامع الصغير، والدليل المصحفى من كتاب الله على أسبقية نوره ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ الإنسان 1-2، فقد قال بعض المفسرين: أن المقصود بالإنسان فى هذه السورة هو سيدنا آدم ولكن رؤساء السادة الصوفية رضوان الله تعالى عليهم قالوا: أن سيدنا آدم لم يكن مخلوقاً من نطفة أمشاج ولذلك فإن المقصود بالإنسان فى هذه السورة هو الإنسان الكامل سيدنا محمد وذلك مما يوضح أسبقية نوره صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

جعلنا الله تعالى ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.. آمين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

محمد مقبول