الرحيق المختوم بالمسك

 

الْمِسْكُ مَخْتُومُ وَحَقَّ خِتَامُهُ       إِنْ تَسْأَلِ (الْمُطَفِّفِينَ) تُوَافَى 61/1

من النظم الفريد للسيد الإمام فخر الدين نتناول درة بالتحليل والدراسة حتى نستنير بهديه الشريف الذى أوصانا به الحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه فى كل وقت وحين فقال (أوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدٌ حَبَشِىٌّ فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّهَا ضَلاَلَةٌ فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِى وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ) قَالَ أَبُو عِيسَى الترمذى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

هذا الحديث مروى بروايات عديدة من طرق متعددة قد تزيد عن نيف وستون رواية، وقد ورد فى المستدرك على الصحيحين للإمام الحاكم عن رسول الله قال (إن الله يبعث إلى هذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) وأورده أبو داود والطبرانى والسيوطى بروايات متعددة.

وعملاً بوصيته صلى الله عليه وآله وسلم ندقق ونتدارس ونبحث فى كلام هؤلاء العظماء ونعض على سنتهم بالنواجذ حتى يلهمنا الله تعالى الصواب فى ديننا ودنيانا.

هذ البيت الذى نحن بصدده هو الأول من القصيدة الحادية والستون ويشير إلى الشطر الثانى من البيت الأول بالقصيدة التائية "الأولى" والذى يقول {رَحِيقِىَ مَخْتُومٌ بِمِسْكِ الْحَقِيقَةِ} فهو فى البيت رقم 1 بالقصيد رقم 61 يرشدنا إلى المعنى بأنه موجود بسورة المطففين وامتثالاً لإرشاداته نذهب إلى السورة فنجد الآية رقم 25 تقول ﴿يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ المطففين 25-26، فالنبدأ بتتبع الآيات، قبل ذلك لنتدبر الأمر.

الآيات ﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِى سِجِّينٍ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَرْقُومٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِى كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ المطففين 7-17، فمن الآية 7 حتى الآية 17 يعرض لنا المولى تبارك وتعالى فى كتابه قصة المحجوبون عن ربهم بأن لهم كتاب يسمى (كتاب الفجار) وأن لهم واد فى جهنم يسمى (الويل) وأنهم يكذبون بيوم الدين، وأنهم معتدين آثمين مكثرين لارتكاب الذنوب، وكلما سمعوا الوعظ والتذكير من الدالين على الله قالوا خرافات الأولين، وذلك بسسب (الران) الذى نسج على قلوبهم، لَمَّا رانت قلوبهم فى الدنيا حُجبوا عن الرؤية فى الآخرة.

بخلاف المؤمنين لَمّا صفت مرآة قلوبهم حتى عرفوا الحق كشف لهم يوم القيامة عن وجهه الكريم، ويقول الإمام مالك : لَمّا حجب الله أعداءه فلم يروه تجلّى لأوليائه حتى رأوه، ويقول الإمام الشافعى : فى هذه الآية دلالة على أنَّ أولياء الله يرونه، وقال الإمام الزجاج : فى هذه الآية دليل أن الله يُرى يوم القيامة، ولولا ذلك ما كان فى هذه الآية فائدة، ولمَا خصّصت منزلة الكفار بأنهم محجوبون عن الله ﴿ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ﴾ أى: داخلو النار، و(ثم) هنا لتراخى الرتبة، فإنّ صَلى الجحيم أشد من الإهانة والحرمان من الرؤية والكرامة ﴿ثُمَّ يُقَالُ﴾ لهم ﴿هَذَا الَّذِى كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ فى الدنيا فذُوقوا وباله.

بعد هذا المشهد القرآنى يعرض لنا المولى تبارك وتعالى المشهد المقابل ليحثنا على تجنب هذه الأهوال ويشوقنا لرؤية وجهه الكريم فيقول ﴿كَلا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِى عِلِّيِّينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ﴾ المطففين 18-28، ﴿كَلَّا﴾ ردع للمكذبين، ثم بيّن حال الأبرار، فقال ﴿إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ﴾ أى: ما كتب من أعمالهم، والأبرار: المؤمنون المطيعون ﴿لَفِى عِلِّيِّينَ﴾ هو موضع فى أعلى الجنة، يسكنه المقربون، قال سيدنا عبد الله بن عمر : إنّ أهل عليين لينظرون إلى أهل الجنة من كوى، فإذا أشرف رجل أشرقت له الجنة، وقالوا: قد اطلع علينا رجل من أهل عليين، وقال فى البدور: إنَّ الرجل من أهل عليين ليخرج فيسير فى ملكه، فلا تبقى خيمة من خيام الجنة إلا ويدخلها ضوء من وجهه، حتى إنهم يستنشقون ريحه ويقولون: واهاً لهذه الريح الطيبة .. وعنه قال (أكثر أهل الجنة البُله، وعليون لذوى الألباب) وعنه قال (عليون فى السماء السابعة تحت العرش) وفيه ديوان أعمال السعداء، فإذا عمل العبدُ عملاً صالحاً عرج به وأثبت فى ذلك الديوان، وقد رُوى فى الأثر: أن الملائكة تصعد بصحيفةٍ فيها عمل العبد، فإن رضيه الله قال: اجعلوه فى عليين وإن لم يرضه قال: اجعلوه فى سجين.

﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَرْقُومٌ﴾ أى: موضع كتاب، أو فيه كتاب مرقوم ﴿يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ أى: الملائكة المقربون، أو أرواح المقربين؛ لأنَّ عليين محل الكروبيين وأرواح المقربين ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ﴾ من أهل اليمين ﴿لَفِى نَعِيمٍ﴾ عظيم ﴿عَلَى الْأَرَائِكِ﴾ على الأسرّة فى الحِجال ﴿يَنْظُرُونَ﴾ إلى كرامة الله ونِعمه التى أولاهم، أو: إلى أعدائهم يعذّبون فى النار، وما تحجب الحجال أبصارهم عن الإدْراك ﴿ تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ﴾ أى: بهجة التنعُّم وطراوته ورونقه .. والخطاب لكل أحد مما له حظ من الخطاب للإيذان بأنَّ حالهم من أثر النعمة وأحكام البهجة، بحيث لا يختص برؤيته راءٍ دون راءٍ.

﴿يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ﴾ شراب خالص لا شوب فيه، وقيل: هو الخمر الصافية و﴿مَخْتُومٍ﴾ أى مغلق عليه ﴿خِتَامُهُ مِسْكٌ﴾ أى: مختوم أوانيه وأكوابه بالمسك مكان الطين، كما يفعل أهل الدنيا بأوانيهم إذا أرادوا حِفظها وصيانتها، ولعله تمثيل لكمال نفاسته، أو: أخره وتمامُه مسك أى: يجد الشارب عند آخر شربه رائحة المسك، وقُرىء «خاتِمَه» بكسر التاء وفتحها ﴿وَفِى ذَلِكَ﴾ الرحيق أو ما تقدّم من نعيم الجنان ﴿فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ فليرغب الراغبون، وليجتهد المجتهدون، أو فليسبق المستبقون، وذلك بالمبادرة إلى الخيرات، والكفّ عن السيئات.

وأصل التنافس: التغالب فى الشىء النفيس، وهو من النفس لعزتها، وقال الإمام البغوى : وأصله: من الشىء النفيس الذى تحرص عليه النفوس، ويريده كل أحد منهم لنفسه، وينفَسُ به على غيره، أى: يضِنُّ به.

﴿ومِزَاجُه من تسنيمٍ﴾: عطف على خِتامه صفة أخرى للرحيق، وما بينهما اعتراض مقرر لنفاسته، أى: ما يمزَج به ذلك الرحيق هو من ماء التسنيم، والتسنيم اسم لعين بعينها فى الفردوس الأعلى، سُميت بالتسنيم الذى هو مصدر من «سنّمه» إذا رفعه، لأنها أرفع شراب فى الجنة.

نكتفى بهذا القدر من التفسير الشرعى لنعرض بعضاً من الإشارة والتأويل وعلوم الحقيقة، فالإمام فخر الدين قد ركز لنا فى البيت على المسك المختوم الذى يُختم به الرحيق.

يقول الإمام ابن عجيبة : ﴿يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ﴾ خمرة المحبة الأزلية، الصافية من كدر الهوى، مختوم عليه فى قلوب العارفين.

وقال الإمام القشيرى : أوانى ذلك الشراب هى قلوب الأصفياء والأولياء، خِتامه مسك، وهو محبة الحق، لا يشرب من تلك الأوانى المختومة إلاَّ الطالبون الصادقون فى طريق السلوك إلى الله ﴿وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ فمَن فاته حظه من هذه الخمرة فهو محروم، كما قال ابن الفارض:

علَى نَفْسِه فَلْيبْك مَن ضاعَ عُمْرُه             وليس لَهُ مِنْها نَصيبٌ ولا سَهْمٌ

ويقول أيضا الإمام القشيرى : وتنافسهم فيه بالمبادرة إلى الأعمال الصالحة، وتعليق القلب بالله، والانسلاخ من الأخلاق الدنية، وجولان الهمم فى الملكوت، واستدامة المناجاة ﴿ومِزَاجُه من تسنيمٍ﴾ وهو عين بحر الوحدة الصافية، التى قال فيها القطب ابن مشيش : وأغرقنى فى بحر الوحدة ... الخ.

ويقول السيد محيى الدين ابن العربى : ﴿يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ﴾ خمر صرف من المحبة الروحانية الغير الممزوجة بحب النفس للجواهر الجسمانية ﴿مَخْتُومٍ﴾، بختم الشرع لئلا تمتزج به النجاسات الشيطانية من المحبات الوهمية المحرمة والشهوات النفسانية المهيئة ﴿خِتَامُهُ مِسْكٌ﴾ هو حكم الشرع بالمباحات المطيبة للنفوس المقوية للقلوب.أ.هـ

فتنافس أيها الطالب لهذا الرحيق المختوم بالمسك والذى نسبه الشيخ إليه فقال: رحيقى لأنه واحد من المقربيين وتمسك بالشريعة الى جانب الحقيقة لتنال تلك الدرجات العالية .. وفقنا الله جميعاً لما يحب ويرضى.

محمد مقبول