حاذر
من القواطع
النصيحة هى هدية العلماء وقد أرسل الإمام الإمام الغزالى إلى الوزير
نظام الملك نصيحة فى رسالة وأخبره إنه لن يرد له الهدية بأكرم من قبول
نصيحته، وإصغائه بقلب فارغ من ظلمات الدنيا إليها، فكان من بين ما قال:
إنى أحذرك إذا ميّزت عند أرباب القلوب أحزاب الناس، ألا تكون إلا فى
زمرة الكرام والأكياس. فقد قيل لرسول الله
:
من أكرم الناس؟ فقال: (أتقاهم). فقيل: من أكيس الناس؟ فقال: (أكثرهم
للموت ذكرا، واشدهم له استعدادا).
ابن ماجه.
وقال
:
(الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والأحمق من أتبع نفسه هواها
وتمنّى على الله).
رواه الترمذى وابن ماجه
والامام أحمد.
وأشد الناس غباوة وجهلا من تهمّه أمور دنياه التى يختطفها عنه الموت،
ولا يهمه أن يعرف أنه من أهل الجنة أو من أهل النار. وقد عرّفه الله
تعالى ذلك حيث قال: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ • وَإِنَّ
الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ﴾
الإنفطار 82: 13-14،
وقال: ﴿فَأَمَّا مَن طَغَى • وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا • فَإِنَّ
الْجَحِيمَ هِى الْمَأْوَى • وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ
وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى • فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِى الْمَأْوَى﴾
النازعات 79: 37-41،
وقال: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ
إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ •
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِى الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ
وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾
هود 11: 15-16.
فليفتح
عين بصيرته لتنظر نفس ما قدّمت لغد، وليعلم أنه لا مشفق ولا ناظر لنفسه
سواه، وليتدبر ما هو بصدده.
فإن كان مشغولا بعمارة ضيعة فلينظر، كم من قرية أهلكها الله تعالى وهى
ظالمة فهى خاوية على عروشها بعد عمّالها.
وإن كان مقبلا على استخراج ماء وعمارة نهر، فليفكر، كم من بئر معطلة
وقصر مشيد بعد عمارتها.
وإن كان مهتما بتأسيس بناء، فليتأمل، كم من قصور مشيّدة البنيان محكمة
القواعد والأركان أظلمت بعد سكانها.
وإن كان معتنيا بعمارة الحدائق والبساتين فليعتبر:﴿كَمْ تَرَكُوا مِن
جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ • وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ • وَنَعْمَةٍ
كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ • كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً
آخَرِينَ • فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا
كَانُوا مُنظَرِينَ﴾
الدخان 44: 25-29.
وليقرأ قوله: ﴿أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ • ثُمَّ
جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ • مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا
يُمَتَّعُونَ﴾
الشعراء 26: 205-207.
وإن كان مشغوفا - والعياذ بالله - بخدمة سلطان، فليذكر ما ورد فى
الخبر: "أنه ينادى مناد يوم القيامة: أين الظلمة وأعوانهم؟ فلا يبقى
أحد ممن مدّ لهم دواة أو برى لهم قلما فما فوق ذلك إلا أحضروا، فيجمعون
فى تابوت من نار فيلقون فى جهنم".
ابن حجر الهيتمى فى كتاب "الزواجر عن اقتراف الكبائر".
وعلى الجملة فالناس كلهم إلا من عصمه الله نسوا الله فنسيهم، وأعرضوا
عن التزود للآخرة، وأقبلوا على طلب أمرين: الجاه والمال. فإن كان هو فى
طلب جاه ورياسة فليتذكر ما ورد به الخبر: "أن الأمراء والرؤساء يحشرون
يوم القيامة فى صور الذرّ، تحت أقدام الناس يطؤونهم بأقدامهم"
ورد فى
الإحياء، والترمذى.
وليقرأ ما قاله الله تعالى فى كل متكبر جبار. وقد قال رسول الله
:
(يُكتب الرجل جبّارا وما يملك إلا أهل بيته) من حديث رواه الحارث بن
أبى أسامة عن على ابن أبى طالب
مرفوعا: (إن الرجل ليدرك درجة الصائم القائم بالخلق الحسن، وإنه ليكتب
جبارا وما يملك إلا أهل بيته).
المطالب العالية.
وقد قال
:
(ما ذئبان ضاريان أرسلا فى زريبة غنم بأكثر فسادا من حبّ الشرف والمال
فى دين الرجل المسلم).
وإن كان فى طلب المال وجمعه فليتأمل قول عيسى :
(يا معشر الحواريين، الغنى مسرّة فى الدنيا مضرّة فى الآخرة. بحق أقول،
لا يدخل الأغنياء ملكوت السماء).
وقد قال نبينا
:
(يحشر الأغنياء يوم القيامة أربع فرق: رجل جمع مالا وأنفقه فى حرام،
فيقال: اذهبوا به الى النار. ورجل جمع مالا من حرام وأنفقه فى حلال،
فيقال: اذهبوا به الى النار. ورجل جمع مالا من حلال وأنفقه فى حرام،
فيقال: اذهبوا به الى النار. ورجل جمع مالا من حلال، وأنفقه فى حلال،
فيقال: قفوا واسألوه، لعله ضيّع بسبب غناه فيما فرضناه عليه، أو قصّر
فى صلاته أو فى وضوئها أو فى ركوعها أو سجودها أو خشوعها، أو ضيّع شيئا
من فرض الزكاة والحج. فيقول الرجل: جمعت المال من حلال وأنفقته فى
حلال، وما ضيّعت شيئا من حدود الفرائض بل أتيتها بتمامها. فيقال: لعلك
باهيت بمالك أو اختلت فى شيئ من ثيابك؟ فيقول: يا ربّ ما باهيت بمالى
ولا اختلت فى ثيابى. فيقال:
لعلك
فرّطت فيما أمرناك من صلة الرحم وحق الجيران والمساكين، وقصّرت فى
التقديم والتأخير والتفضيل والتعديل. ويحيط هؤلاء به فيقولون: ربّنا
أغنيته بين أظهرنا وأحوجتنا اليه فقصّر فى حقنا. فإن ظهر تقصير ذهب به
الى النار، وإلا قيل له: قف: هات الآن شكر كل نعمة، وكل شربة، وكل
أكلة، وكل لذة، فلا يزال يُسأل ويُسأل).
ورد فى الإحياء.
فهذه حال الأغنياء الصالحين المصلحين القائمين بحقوق الله تعالى أن
يطول وقوفهم للحساب فى العرصات، فكيف حال المفرّطين المنهمكين فى
الحرام والشبهات، المكاثرين به المتنعّمين بشهواتهم، الذين قيل فيهم:
﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ • حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾
التكاثر
102: 1-2.
فهذه المطالب الفاسدة هى التى استولت على قلوب الخلق، فسخّرها للشيطان
وجعلها ضحكة له، فعليه وعلى كل مستمر فى عداوة نفسه أن يتعلم علاج هذا
المرض الذى حلّ بالقلوب.
سامر
الليل |