نشرنا فى صفحات القواطع عن موضوع القواطع عن المهيمن من كتاب المرشد الوجيز، وها نحن فى هذا الباب نستكمل الموضوع بجوانب أخرى تكمله حتى تعم الفائدة:

 

 

النفس

 

قالوا فى اللغة النفس هى الروح، واتفق مع هذا المعنى كثير من الناس، ولكنى أؤيد الرأى الآخر الذى يقول: إن النفس هى ما كان معلوماً من أوصاف العبد، فالنفس هى لطيفة العبد لم يظهر لها عين إلا عند التقاء الجسد بالروح أو دخول الروح الجسد فظهرت النفس بين النفخ الإلهى للروح والجسد، ولهذا كان المزاج يؤثر فيها وتفاضلت النفوس لا من حيث النفخ الإلهى، ولكن التفاضل كان من حيث القوابل أى الأجساد، فالنفس لها وجه إلى الطبيعة، ووجه إلى الروح الإلهى، فجعلت من عالم البرازخ، وكذلك المعلول من أوصاف العبد من عالم البرازخ فإنه من جهة النفس مذموم عند القوم وأكثر العلماء، ومن كونه مضافاً إلى الله من حيث فعله المحمود، فكل وصف لنفس العبد لا يكون الحق مشهوداً فى ذلك الوصف فهو معلول، فلذلك قيل فيه أنه "نفس" أى ما شهد فيه سوى نفسه، فالنفس إذا غلبت عليها البشرية جرتها إليها فهى تهوى بنا إلى أرض الشهوات، ونحن نريد أن تعرج إلى سماء الحقوق والواجبات، فهى تريد أن تركن إلى أصلها من عالم الصلصال والطين، ونحن نريد أن نردها إلى أصل روحانيتها فى أعلى عليين، هى تريد السكون فى عالم الأشباح، ونحن نريد أن نرقيها إلى عالم الأرواح، فانظر معى عظم جهادك إياها كما وصفه سيدنا رسول الله حين قال (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر) وكان هذا الأخير هو جهاد النفس.

فنحن دائماً فى جهاد ضد النفس فهى تريد التسفل، ونحن نريد الترقى وكان أحد الأولياء جميعاً إذا اشتكى إليه أحد النفس يقول: أما أنا فجزى الله عنى نفسى خيراً، ما على إلا فضل الله وفضلها والله ما ننسى جميلها.

فالنفس والشيطان نعمتان فى الباطن إذ لولاهما ما اتجهت إلى الله وتحركت وتحقق سيرك إليه، وهما نقمتان فى الظاهر لمن وقف معهما وحجب بهما. والنفس ضلع من مربع القواطع الذميم يقطعون طريقك إلى الله، وهى أصعب من الشيطان، لأنها عدو متصل وأنت به شفيق، وهى أشد من سبعين شيطاناً فى قطع الطريق. فانظر معى غرابة هذا الاتحاد بين القواطع فكل واحد منهم لا يرى إلا عظمة ذاته وارتفاع قدرها عما سواها ولكنهم اتحدوا لقطع طريق السلوك إلى الله.

وكما ذكرنا سابقاً قول الإمام فخر الدين :

والقاطعات عن المهيمن أربع       بئس البضاعة عيرهن نفير

وقال عنها الإمام البصيرى من صفاتها أنها تركن للملذات الدنيوية وتريد الإكثار منها، فكلما تجاوب معها الإنسان بإعطائها ما تريد من هذه الملذات طلبت المزيد، ولم تقف عند حد معين، ولذلك فهى لعينة تجر الإنسان لإيقاعه فى الانغماس فى شبكة الملذات والشهوات لتنسيه ما أمره به الحق سبحانه وتعالى لياتمر به، وما نهاه عنه لينتهى عنه، ولكن قال أيضاً أن الإنسان قادر على كبح جماحها وتطلعاتها المذمومة، وذلك بالمجاهدة وإرغامها إلى الإنصياع لأوامر الحق والانتهاء عن نواهيه، فقال فى قصيدته المشهورة المسماة بـ"بردة المديح" أو "البردة" كما يطلق عليها البعض:

والنفس كالطفل إن تهمله شب على            حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم

فاصرف هواها وحاذر أن توليه                 إن الهوى ما تولى يصم أو يصم

وراعها وهى فى الأعمال سائمة            وإن هى استحلت المرعى فلا تسم

كم حسنت لذة للمرء قاتلة             من حيث لم يدر أن السم فى الدسم

واخش الدسائس من جوع ومن شبع             فرب مخمصة شر من التخم

واستفرغ الدمع من عين قد امتلأت             من المحارم والزم حمية الندم

وخالف النفس والشيطان واعصهما           وإن هما محضاك النصح فاتهم

وقالوا: إن التواضع هو مجاهدة النفس فى وضعها وسقوطها فإذا تحققنا ونظرنا بعين التفكير وجدنا الأشياء كلها مستوية معنا فى الخلقة والتجلى من النملة إلى الفيل فنحن وهم فى حقيقة الخلقة سواء، وإنما وقع التفضيل فى التشريع والحكمة عند أهل الفرق، فهم يرون المزية لأنفسهم عما سواهم، فإذا تساووا بأنفسهم مع الأشياء رأوا أنهم قد تواضعوا وفى الحقيقة أنهم تكبروا لأنهم أثبتوا المزية لأنفسهم ورفعوها ثم أثبتوا لها التواضع، فهم المتكبرون على خلق الله حقاً. أما العارفون بالله فلم يثبتوا لأنفسهم رفعاً، متواضعون من أول مرة فتواضعهم حقيقى، وقال أحد الأولياء أجمعين: من رأى لنفسه قيمة على الكلب فهو متكبر ممقوت عند الله.

وإنما يتواضع العبد بقدر تحققه بعلو قدر سيده، والنفس إذا لم تتصف بالذل والهوان حقيقة فهى غير مشاهدة لعظمة الله سبحانه وتعالى، لإن أصل نشأة النفس الضعف والذل والهوان، وقيل: ليس المتواضع الذى إذا تواضع رأى أنه فوق ما صنع، ولكن المتواضع الذى إذا تواضع رأى أنه دون ما صنع.

وفى الحديث عن سيدنا رسول الله : (إنما الكرم التقوى، وإنما الشرف التواضع، وإنما الغنى اليقين، والمتواضعون فى الدنيا هم أصحاب المنابر يوم القيامة، إذا تواضع العبد رفعه الله إلى السماء السابعة، ولا يزيد التواضع للعبد إلا رفعة، فتواضعوا ليرفعكم الله، وإذا رأيتم المتواضعين من أمتى فتواضعوا لهم، وإذا رأيتم المتكبرين من أمتى فتكبروا عليهم، فإن ذلك مذلة لهم وصغاراً بهم).

وللحديث بقية إن شاء الله

أحمد نور الدين عباس

 

 

حاذر من القواطع

 

النصيحة هى هدية العلماء وقد أرسل الإمام الإمام الغزالى إلى الوزير نظام الملك نصيحة فى رسالة وأخبره إنه لن يرد له الهدية بأكرم من قبول نصيحته، وإصغائه بقلب فارغ من ظلمات الدنيا إليها، فكان من بين ما قال:

إنى أحذرك إذا ميّزت عند أرباب القلوب أحزاب الناس، ألا تكون إلا فى زمرة الكرام والأكياس. فقد قيل لرسول الله : من أكرم الناس؟ فقال: (أتقاهم). فقيل: من أكيس الناس؟ فقال: (أكثرهم للموت ذكرا، واشدهم له استعدادا). ابن ماجه. وقال : (الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله). رواه الترمذى وابن ماجه والامام أحمد.

وأشد الناس غباوة وجهلا من تهمّه أمور دنياه التى يختطفها عنه الموت، ولا يهمه أن يعرف أنه من أهل الجنة أو من أهل النار. وقد عرّفه الله تعالى ذلك حيث قال: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ • وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ﴾ الإنفطار 82: 13-14، وقال: ﴿فَأَمَّا مَن طَغَى • وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا • فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِى الْمَأْوَى • وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى • فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِى الْمَأْوَى﴾ النازعات 79: 37-41، وقال: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ • أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِى الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ هود 11: 15-16.

فليفتح عين بصيرته لتنظر نفس ما قدّمت لغد، وليعلم أنه لا مشفق ولا ناظر لنفسه سواه، وليتدبر ما هو بصدده.

فإن كان مشغولا بعمارة ضيعة فلينظر، كم من قرية أهلكها الله تعالى وهى ظالمة فهى خاوية على عروشها بعد عمّالها.

وإن كان مقبلا على استخراج ماء وعمارة نهر، فليفكر، كم من بئر معطلة وقصر مشيد بعد عمارتها.

وإن كان مهتما بتأسيس بناء، فليتأمل، كم من قصور مشيّدة البنيان محكمة القواعد والأركان أظلمت بعد سكانها.

وإن كان معتنيا بعمارة الحدائق والبساتين فليعتبر:﴿كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ • وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ • وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ • كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ • فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ﴾ الدخان 44: 25-29. وليقرأ قوله: ﴿أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ • ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ • مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ﴾ الشعراء 26: 205-207.

وإن كان مشغوفا - والعياذ بالله - بخدمة سلطان، فليذكر ما ورد فى الخبر: "أنه ينادى مناد يوم القيامة: أين الظلمة وأعوانهم؟ فلا يبقى أحد ممن مدّ لهم دواة أو برى لهم قلما فما فوق ذلك إلا أحضروا، فيجمعون فى تابوت من نار فيلقون فى جهنم". ابن حجر الهيتمى فى كتاب "الزواجر عن اقتراف الكبائر".

وعلى الجملة فالناس كلهم إلا من عصمه الله نسوا الله فنسيهم، وأعرضوا عن التزود للآخرة، وأقبلوا على طلب أمرين: الجاه والمال. فإن كان هو فى طلب جاه ورياسة فليتذكر ما ورد به الخبر: "أن الأمراء والرؤساء يحشرون يوم القيامة فى صور الذرّ، تحت أقدام الناس يطؤونهم بأقدامهم" ورد فى الإحياء، والترمذى.

وليقرأ ما قاله الله تعالى فى كل متكبر جبار. وقد قال رسول الله : (يُكتب الرجل جبّارا وما يملك إلا أهل بيته) من حديث رواه الحارث بن أبى أسامة عن على ابن أبى طالب مرفوعا: (إن الرجل ليدرك درجة الصائم القائم بالخلق الحسن، وإنه ليكتب جبارا وما يملك إلا أهل بيته). المطالب العالية.

وقد قال : (ما ذئبان ضاريان أرسلا فى زريبة غنم بأكثر فسادا من حبّ الشرف والمال فى دين الرجل المسلم).

وإن كان فى طلب المال وجمعه فليتأمل قول عيسى: (يا معشر الحواريين، الغنى مسرّة فى الدنيا مضرّة فى الآخرة. بحق أقول، لا يدخل الأغنياء ملكوت السماء).

وقد قال نبينا : (يحشر الأغنياء يوم القيامة أربع فرق: رجل جمع مالا وأنفقه فى حرام، فيقال: اذهبوا به الى النار. ورجل جمع مالا من حرام وأنفقه فى حلال، فيقال: اذهبوا به الى النار. ورجل جمع مالا من حلال وأنفقه فى حرام، فيقال: اذهبوا به الى النار. ورجل جمع مالا من حلال، وأنفقه فى حلال، فيقال: قفوا واسألوه، لعله ضيّع بسبب غناه فيما فرضناه عليه، أو قصّر فى صلاته أو فى وضوئها أو فى ركوعها أو سجودها أو خشوعها، أو ضيّع شيئا من فرض الزكاة والحج. فيقول الرجل: جمعت المال من حلال وأنفقته فى حلال، وما ضيّعت شيئا من حدود الفرائض بل أتيتها بتمامها. فيقال: لعلك باهيت بمالك أو اختلت فى شيئ من ثيابك؟ فيقول: يا ربّ ما باهيت بمالى ولا اختلت فى ثيابى. فيقال: لعلك فرّطت فيما أمرناك من صلة الرحم وحق الجيران والمساكين، وقصّرت فى التقديم والتأخير والتفضيل والتعديل. ويحيط هؤلاء به فيقولون: ربّنا أغنيته بين أظهرنا وأحوجتنا اليه فقصّر فى حقنا. فإن ظهر تقصير ذهب به الى النار، وإلا قيل له: قف: هات الآن شكر كل نعمة، وكل شربة، وكل أكلة، وكل لذة، فلا يزال يُسأل ويُسأل). ورد فى الإحياء.

فهذه حال الأغنياء الصالحين المصلحين القائمين بحقوق الله تعالى أن يطول وقوفهم للحساب فى العرصات، فكيف حال المفرّطين المنهمكين فى الحرام والشبهات، المكاثرين به المتنعّمين بشهواتهم، الذين قيل فيهم: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ • حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾ التكاثر 102: 1-2.

فهذه المطالب الفاسدة هى التى استولت على قلوب الخلق، فسخّرها للشيطان وجعلها ضحكة له، فعليه وعلى كل مستمر فى عداوة نفسه أن يتعلم علاج هذا المرض الذى حلّ بالقلوب.

سامر الليل