الحسد
2
تحدثنا فى العدد الماضى عن الحسد كأحد الأخلاق الذميمة وعن الشخص
الحاسد وما أُعد له من عذب من
جراء
حسده وعدم إطاعته لأوامر الحق سبحانه وتعالى، وتحليه بالأخلاق السنية
التى تجلعنا بعيدين كل البعد عن الأخلاق الذميمة، ومن الأخلاق السنية
التى تجعلنا بمنأى عن الحسد ما وصفه المولى تبارك وتعالى فى حق صحابة
الرسول الكريم سيدنا محمد
،
حيث يقول
فى حقهم: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ
قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِى
صُدُورِهِمْ
حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ
بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ﴾ الحشر 59: 9،
فها هى خصالهم
أجمعين، وقد نزلت هذه الآية فى حق أنصار رسول الله
من أهل المدينة المنورة، فوصفهم الحق أنهم ﴿يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ
إِلَيْهِمْ﴾ فبداية الحب وما هو من معنى سامٍ، يسمو بالإنسان على
الرذائل ويدخله على باب الفضائل، فبالحب جعل الأنصار يشاطروا المهاجرين
الأوائل أموالهم، وينزلوهم منازلهم، ولم يكن إلى هذا الحد وفقط، بل
ومَن كانت له إمرأتان، نزل عن إحداهما ليتزوجها المهاجرى، وكانت هذه
المحبة الموجودة فى قلوب الأنصار للمهاجرين، إنما أتت لهجرتهم ولنصرة
الدين ولشدة محبتهم للإيمان، وكانوا لايجدون فى نفوسهم أى غضاضة فيما
يحتاج إليه المهاجرى، فيقول له الأنصارى: خذ منه حاجتك. عن طيب نفس،
فكانت نفوسهم لا تتبع ما أوتوا من الفىء، ولم تطمح إلى شىء منه تحتاج
إليه، حيث خصّهم النبى
فقال عز من قائل: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ فيُقدمون
المهاجرين على أنفسهم فى كل شىء من أسباب المعاش ﴿وَلَوْ كَانَ بِهِمْ
خَصَاصَةٌ﴾ أى حاجة وخلّة، وقيل أصلها: خُصاص البيت، أى: فروجه، أى:
يُؤثرون فى حال خصاصتهم، وقال سيدنا عبد الله بن عباس
:
لما ظفر النبى
بأموال بنى النضير، قال للأنصار: إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم
ودياركم، وشاركتموهم فى هذه
الغنيمة،
وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم لكم شيئ من الغنيمة فقالت
الأنصار: بل نقسم لهم من ديارنا وأموالنا، ونؤثرهم بالغنيمة ولا
نُشاركهم فيها، فنزلت هذه الآية، فوَصَفَهم بالإيثار فيما ملكوا، وبذلك
يتم تحقيق خروج الدنيا من قلوبهم، بحيث لا يتعلق القلب بما فات منها،
ولا يُمسك ما وجد منها، بل يُؤثر به مع الحاجة إليه، فالآية تشير إلى
سلامة الصدور، وسخاوة الأنفس، وهذا كان وصف الصحابة
أجمعين، وبهذين الخصلتين فاقوا جميعَ الناس، وهى أخلاق سادتنا أهل الله
وهم الصوفية فى زماننا هذا، ويالها من أخلاق حميدة، لو تحلى بها البعض
فى زماننا هذا ماكان بيننا جائع ولا محروم، ولكن اللعين إبليس لم يترك
الإنسان على حاله، فبمرور الزمن أبعده عن خصالٍ هى من أهم الخصال كى لا
تجعل للحسد والتباغض والشحناء مكاناً بيننا، فبإيثارك أخيك على نفسك
سددت عليه باب من أصعب الأبواب التى يدخل منها هذا اللعين على الإنسان،
وهو باب: لماذا لم يكن فى يدى مثل ما فى يدى أخى؟ فهاهم أصحاب خير
البشر، أصحاب رسول الله
يضربون لنا المثل فى هذا، ويعطوننا السبيل بالإيثار، فهل نحن
منتصحون؟!!
وكثيراً ما حذرنا المصطفى
فى الأحاديث الشريفة من هذه الخصلة الذميمة، فعنه
أنه قال (إنه سيصيب أمتى داء الأمم، قالوا وما داء الأمم؟ قال الأشر
والبطر والتكاثر والتنافس فى الدنيا والتباعد والتحاسد حتى يكون البغى
ثم الهرج) أخرجه الطبرانى فى الأوسط من حديث أبى
هريرة بإسناد جيد، وأخرج الطبرانى أيضاً فى
الأوسط من حديث ابن عباس
أجمعين أن النبى
قال (إن لنعم الله أعداء، فقيل ومن هم؟ فقال الذين يحسدون الناس على ما
آتاهم الله من فضله).
وأخرج الإمام السيوطى فى جمع الجوامع من حديث ابن عساكر عن ابن مسعود
أنه قال، قال رسول الله
(إياكم والكبر فإن إبليس حمله الكبر على أن لا يسجد لآدم، وإياكم
والحرص فإن آدم حمله الحرص على أن أكل من الشجرة، وإياكم والحسد فإن
ابنى آدم قتل أحدهما صاحبه حسدًا، فهن أصل كل خطيئة).
وروى
بكر بن عبد الله أن رجلاً كان يغشى بعض الملوك فيقوم بحذاء الملك
فيقول: "أحسن إلى المحسن بإحسانه فإن المسىء سيكفيكه إساءته" فحسده رجل
على ذلك المقام والكلام، فسعى به إلى الملك فقال: إن هذا الذى يقوم
بحذائك ويقول ما يقول زعم أن الملك أبخر -أى رائحة فمه كريهة- فقال له
الملك: وكيف يصح ذلك عندى؟ قال: تدعوه إليك، فإنه إذا دنا منك وضع يده
على أنفه لئلا يشم ريح البخر، فقال له انصرف حتى أنظر، فخرج من عند
الملك فدعا الرجل إلى منزله فأطعمه طعاماً فيه ثوم، فخرج الرجل من عنده
وقام بحذاء الملك على عادته، فقال: "أحسن إلى المحسن بإحسانه فإن
المسىء سيكفيكه إساءته". فقال له الملك: أدن منى! فدنا منه فوضع يده
على فيه، مخافة أن يشم الملك منه رائحة الثوم، فقال الملك فى نفسه: ما
أرى فلاناً إلا قد صدق فيما قال، وكان الملك لا يكتب بخطه إلا بجائزة
أو صِلة، فكتب له كتاباً بخطه إلى عامل من عماله: "إذا أتاك حامل كتابى
هذا فاذبحه واسلخه واحش جلده تبناً وابعث به إلىّ" فأخذ الكتاب وخرج
فلقيه الرجل الذى وشى به، فقال: ما هذا الكتاب؟ قال: خطَّ الملك لى
بصِلة. فقال: هَبهُ لى! قال: هو لك. فأخذه ومضى به إلى العامل، فقال
العامل: مكتوب فى كتابك أن أذبحك وأسلخك. قال: إن الكتاب ليس هو لى،
فالله الله فى أمرى حتى تراجع الملك. فقال: ليس لكتاب الملك مراجعة
فذبحه وسلخه وحشى جلده تبناً وبعث به، ثم عاد الرجل إلى الملك كعادته
وقال مثل قوله فعجب الملك، وقال ما فعلت بالكتاب؟ فقال لقينى فلان
فاستوهبه منى فوهبته له، قال له الملك: إنه ذكر لى أنك تزعم أنى أبخر.
قال: ما قلت ذلك. قال: فلما وضعت يدك على فيك؟ قال: لأنه أطعمنى طعاماً
فيه ثوم فكرهت أن تشمه. قال: صدقت ارجع إلى مكانك فقد كفى المسىء
إساءته، فانظر يا أخى ماذا فعل الحسد بصاحبه، عافانا الله وإياكم منه
ومن كل سوء.
عبد الستار الفقى
|