أم المؤمنين

السيدة صفية

 

إنها أم المؤمنين السيدة "صفية بنت حيىّ بن أخطب" اليهودية أصلا والمسلمة قلبا وقالبا، وكانت طفلة صغيرة فى العاشرة من عمرها، عندما قدم النبى إلى يثرب الطبية، والتى تنورت بقدومه، وسميت بالمدينة المنورة، كان أبوها حيىّ بن أخطب آنذاك زعيم قبيلة بنى النضير اليهودية، والتى كانت تقطن ضواحى يثرب إلى جانب سكانها العرب؛ الأوس والخزرج، وحين وصل النبى إلى قباء فى طريق هجرته إلى المدينة المنورة، ذهب حييّ بن أخطب زعيم بنى النضير ووالد السيدة صفية، ومعه عمها أبو ياسر إلى قباء ليرياه ويسمعا منه، طبعا مرادهما أن يتأكدا من مطابقة أوصافه للأوصاف المذكورة فى التوراة عن النبى المنتظر، لما غربت الشمس عاد حيىّ وأخوه إلى البيت مهمومين مغمومين يمشيان الهوينى والحزن باد على وجهيهما، هرعت إليهما صفية فرحة ومرحبة كعادتها، وكانت أحب ولد أبيها إليه وإلى عمها، لكنها استغربت اللامبالاة التى استقبلها بها, وكان عهدها بهما أن يقبلاها ويحتفيا بها ويستمعا إلى ثرثرتها الحلوة، رأتهما يتنحيان جانبا الدار ويتحدثان، فلم تستطع أن تمنع نفسها من استراق السمع لتعرف الأمر الجلل الذى جعل أباها وعمها يستقبلانها بذلك الفتور الذى لم تعهده من قبل، سمعتهما يتحدثان عن محمد بن عبد الله ذاك النبى الذى قدم يثرب، كان عمها أبو ياسر يسأل أباها بلهجة حنقة حادة: أهو هو يا حيىّ ما ذكرته التوراة؟ قال حيى: نعم والله. قال: أمتأكد أنت من ذلك؟ قال: نعم طبعا متأكد. قال: فماذا تنوى أن تفعل؟ أجاب حيىّ والغيظ ينبع من كلماته الحاقدة: عداوته والله ما حييت, دهشت صفية رغم صغر سنها من موقف أبيها وعمها من محمد بن عبد الله فلطالما كانت تسمعهما يتحدثان عن نبى اقترب زمان مبعثه, وتستشف من خلال ذلك لهفتهما إلى مجيئه واستعدادهما للإيمان به، أفعندما يظهر ذلك النبى يغضبان ويصران على معاداته!!
أدركت صفية بعد ذلك السبب وراء هذه الكراهية والعداوة؛ إنها العصبية والعنجهية واختلاف المصالح، رغم أن اليهود كانوا ينتظرون مجئ النبى بفارغ الصبر وكانوا يتباهون على سكان عرب المدينة الأوس والخزرج قائلين: قد آن أوان مبعث النبى المنتظر، وسنقاتلكم تحت إمرته ونخرجكم من دياركم مقهورين مذلولين. ولكنهم فوجئوا لما بعث النبى بأنه ليس من بنى اسرائيل كما كانوا يظنون، فلقد أرسل الله خاتم أنبيائه من العرب ولذلك لم يؤمن به اليهود، رغم قناعتهم بأن علامات النبوة موجودة تماما كما ذكرتها توراتهم.

كانت صفية على العكس منهم تشعر بشيئ من التعاطف نحو ذلك الدين الجديد والرسول المبعوث، كأن شيئا ما كان يجذبها تجاهه، ولما استقر النبى فى المدينة وقع مع اليهود ميثاقا تلخصه الجملة الآتية (لليهود ما لنا وعليهم ما علينا, وهم أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم). كانت صفية فرحة بهذا الميثاق الذى يفيض بالعدالة والرحمة السلام بين المسلمين وبين قومها اليهود. وكانت تأمل أن ينتزع هذا الميثاق عداوة قومها وحقدهم، ولكن أمالها خابت وذهبت هباء الريح فمسيرة اليهود مع النبى ظلت مسيرة حاقدة منذ أول يوم وطئت فيه قدماه أرض يثرب، كانت تسكن المدينة المنورة آنذآك ثلاث قبائل يهودية (بنو قينقاع، بنو قريظة، وبنو النضير).

بنو النضير كما ذكرنا هم قوم السيدة صفية ، وكان بنو قينقاع أول من غدر من اليهود بالنبى ، ونقض عهده وميثاقه بعد سنة واحدة من قدومه إلى يثرب، أى فى السنة الثانية للهجرة فعاقب النبى بنو قينقاع بأن أجلاهم عن المدينة بسبب غدرهم، وظن المسلمون أن هذه العقوبة ستكون درسا لبنى النضير وبنى قريظة، ولكن ظنهم خاب فالغدر طبع عند بعض الناس وخصوصا اليهود فقد حاول بنو النضير قتل النبى لما قدم إلى دورهم زائرا، ولكن جهودهم والحمد لله باءت بالفشل فقد حمى الله رسوله من أن يناله أذى.

اتخذ النبى قراره بإجلاء بنى النضير عن المدينة المنورة إلى خيبر، وهى منطقة تبعد عن المدينة قرابة 150 كيلو متر شمالا، فخرجوا وهم يحملون أموالهم وأمتعتهم ويحملون أيضا حقدهم الأسود، كانت صفية آنذاك متزوجة من"سلام بن مشكم" اليهودى وكانت فيمن أجلى إلى خيبر مع والدها حيىّ وزوجها سلام, كان ذلك فى السنة الرابعة للهجرة، ويمكننا أن نتصور الحزن الشديد الذى ألم بالسيدة صفية وهى ترى مآل إليه حال قومها، ونتصور استغرابها أيضا من العداء الشديد الذى يحمله قومها للنبى ، رغم تأكدهم من أنه هو النبى المنتظر.

فى السنة الخامسة من الهجرة؛ أى بعد سنة واحدة من إجلاء بنى النضير عن المدينة كانت غزوة الأحزاب، وكان "حيىّ بن أخطب" من الذين ألبوا العرب على محاربة النبى ، اتخذ "حيىّ" من ديار بنى قريظة مركزا لتحركاته، فبنو قريظة كانوا ما يزالون من سكان المدينة المنورة، لم تؤثر خيانة بنى النضير وبنو قينقاع على وضعهم، لم يخرجهم النبى كما أخرج بقية اليهود من مدينته؛ لأن الله تعالى يقول ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ ويقول ﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾، ولكن الغدر والجحود تحرك عند بنى قريظة، فتعاونوا مع "حيىّ بن أخطب" وتجاوبوا مع حقده وعداوته وتآمروا على المسلمين من الداخل، وانتهت غزوة الأحزاب وصرف الله تعالى كيد المشركين عن المسلمين، وحان وقت الحساب والعقاب.

توجه النبى إلى حصون بنى قريظة وحاصرهم ومعه 1600 مقاتل، حتى أجهدهم الحصار وقذف الله فى قلوبهم الرعب، فاستسلموا دون قتال، ماذا سيفعل النبى بهؤلاء الغادرين؟! سألهم: (أتقبلون حكم سعد بن معاذ)؟ قالوا: نعم. فسعد كان حليفهم وصاحبهم قبل الإسلام، فحكم عليهم سعد بما يرضى الله وبما يرضى رسوله، فكان حكمه متناسبا مع غدرهم الذى جاء فى لحظات خطيرة, فحكم بقتل المقاتلين الذين يحملون السلاح, وسبى النساء والذرارى وفقا لمنطق الحرب السائد آنذاك, ونفذ فورا هذا الحكم فيهم, فسيقت الرجال المقاتلون إلى خنادق المدينة وقتلوا هناك, وكان فيمن قتل مع بنى قريظة والد صفية "حيىّ ين أخطب" زعيم بنى النضير.

لاشك أن حزن صفية على مقتل والدها كان شديدا، وكان عمرها آنذاك حوالى 17 عاما، وكانت قد طلقت من "سلام بن مشكم" الذى أمضت معه أعواما ولم تنجب منه أولادا، ثم بعد فترة زفت إلى رجل اسمه "كنانة بن الربيع"، وصباح يوم زفافها استيقظت مسرورة برؤية رأتها، فأخبرت ابن عمها كنانة، وكان سيزف إليها فى هذا اليوم، فقد رأت كأن قمر السماء قد سقط فى حجرها، فلطمها لطمة على وجها أطارت فرحها واستبشارها، وصرخ بها بحدة: أتمنين ملك الحجاز محمدا أن يصير زوجك يا صفية. دهشت صفية من هذا الاستنتاج العجيب، وسرحت بخيالها نحو نبى الإسلام الذى كانت تتنسم أخباره وأخبار دينه ودعوته خفية عن أبيها وزوجها الأول، أيمكن أن يتحقق هذا الحلم الذى يبدو مستحيلا كما فسره ابن عمها. فلما وقعت صفية - وكانت عروسا - بأيدى المسلمين فيمن وقع من سبايا اليهود، وقتل زوجها "كنانة بن الربيع"، قكانت ربما تساق هى وجميع الأسرى والسبايا ليمثلوا بين يدى النبى محمد .

يروى ابن إسحاق: أن بلالا كان يسوق صفية ومعها امرأة أخرى من نساء السبى إلى مكان من ناحية الجيش، فمر بهما على قتلى اليهود فالمرأة التى مع صفية لم تتمالك نفسها أن ترى أهلها وقومها على هذه الحال، فصكت وجهها وحفت التراب على رأسها، أما صفية فلم تزد على أن ترقرقت الدموع فى عينيها حزنا لما آل إليه حال قومها, وصل صوت المرأة التى تعول وتبكى إلى النبى ، فدعا بلالا وعاتبه قائلا: (أنزعت منك الرحمة يا بلال حتى تمر بامرأتين على قتلى رجالهما). ونظر النبى إلى صفية فلفت نظره ثباتها ورباطة جأشها ورقة تعبيرها عن حزنها، واستشف ما بداخلها من إيمان وصفاء وإنكار لمواقف قومها, فاقبل عليها وقال لها؛ حسب ما يروى ابن سعد فى طبقاته؛ قال لها: (لم يزل أبوك من أشد اليهود عداوة حتى قتله الله). فقالت صفية: يا رسول الله أليس دينكم يقول: ﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾. فزاد إعجاب النبى بصفية وعقلها وشخصيتها، فقال لها: (يا صفية اختارى: فإن اخترتِ الإسلام أمسكتك لنفسى، وإن أخترتى اليهودية فعسى أن أعتقك فتلحقى بقومك). فقالت: يا رسول الله لقد هويت الإسلام وصدقت بك قبل أن تدعونى، ومالى فى اليهودية أرب، ومالى فيها والد ولا أخ، وقد خيرتنى بين الكفر والإسلام! فالله ورسوله أحب إلى من العتق وأن أرجع إلى قومى. عند ذلك ألقى عليها النبى ردائه، فكان ذلك إعلاما بأنه قد اصطفاها لنفسه.

وهناك رواية أخرى أوردها الإمام مسلم فى صحيحه تختلف عن روايتى ابن سعد وابن اسحاق فى بعض التفصيلات ولكن النتيجة واحدة، اصطفاء النبى "صفية" لنفسه، واعتاقها إذا أعتقها ثم تزوجها، وكان صداقها إعتاقها، ولم يسمع أن النبى بعد هذا ذكر أباها بحرف مما تكره احتراما لمشاعرها وعواطفها، ودفع النبى بصفية إلى زوجته أم سلمة وكانت أم سلمة معهم فى الجيش، فباتت عندها صفية فجهزتها له أم سلمة وزفتها إليه.

يروى أن النبى أراد أن يعرس بصفية فى طريق عودته فهو وعلى بعد 6 كيلو متر من خيبر، فتعللت صفية وتمنعت، فلما ابتعد الجيش عن خيبر طاوعته على ما أراد، فسألها عن سبب تمنعها، فقالت: يا رسول الله خشيت عليك قرب اليهود.

هنا يحلوا لنا أن نتسائل عن موقف صحابة النبى من زواجه بيهودية، وعن حكمة هذا الزواج، الواقع أن كثير من الصحابة لم يستسيغوا هذا الزواج بادئ الأمر بل ولقد أنكرته قلوبهم إلى جانب عقولهم، طبعا لما يعلمون من غدر اليهود وعداوتهم للنبى يستسيغ وللإسلام والمسلمين، ولنا على هذا شواهد كثيرة:
أول الشواهد انا أبا أيوب الأنصارى بات يحرس النبى طوال الليلة التى دخل فيها بأم المؤمنين صفية, ولما رآه النبى فى الصباح سأله ما لك يا أبا أيوب؟ قال: يا رسول الله خفت عليك من هذه المرأة وقد قتلت أباها وقومها وهى حديثة عهد بكفر, فتبسم النبى وطمأن أبا أيوب, ثم دعا له وقال: اللهم احفظ أبا أيوب كما بات يحفظنى.

هناك حادثة ثانية حصلت عند مشارف المدينة وهم عائدون من خيبر، كان النبى قد اركب صفية خلفه وهى محتجبة بحجابها، كباقى أمهات المؤمنين فعثرت الناقة بالنبى وبزوجته، وخر رسول الله إلى الأرض وخرت معه صفية، فركض أبو طلحة نحو النبى يعنيه بينما وقف الجميع ينظرون إلى أم المؤمنين صفية وهى ملقاة على الأرض، حتى قام إليها النبى بنفسه وأعانها على النهوض، وعندما قدمت نساء أهل المدينة لاستقبال الجيش ورأين صفية جعل بعضهن ينظرن إليها ويشتمنها: أبعد الله تلك اليهودية.

أما الحادثة الثالثة: فكانت لما استقر الركب فى المدينة فقد أنزل النبى بادئ الأمر، أم المؤمنين صفية فى منزل للصحابى "حارثة بن النعمان" ريثما يهيئ لها بيتا بجانب المسجد كبيوت زوجاته، وريثما تألف أيضا نساؤه قدوم صفية ويتأكدن من حسن إسلامها، فطفق نساء الأنصار يفدن إلى بيت حارثة، ينظرن إلى صفية اليهودية التى تزوجها النبى ، وكان من ضمن الوافدات بعض نساء النبى ، وكانت عائشة إحداهن، وقد رآها النبى وهى تدخل متنقبة متخفية، فلما خرجت سألها: (كيف رأيت يا شقيراء)؟ قالت: رأيت يهودية من اليهوديات. فقال : (لا تقولى هذا يا عائشة، فإنها قد أسلمت وحسن إسلامها).

وقد كانت أم المؤمنين صفية رغم إسلامها تصل أرحامها اليهود وتبرهم وتحسن إليهم، وعلى مرأى من النبى ورضى منه، ومع هذا فقد ظلت أم المؤمنين صفية تعانى من نظرات التعيير فى حياة النبى وبعد وفاته، ولكن على درجات متفاوتة، وكان النبى بحكمته يعالج هذا الظلم الواقع على صفية بسبب هذه النظرات الإتهامية والتعيرية، فيروى أن النبى دخل على زوجته صفية فوجدها تبكى، فسألها فأخبرته بكلام بلغها عن ضرائرها، عائشة وحفصة يعيرانها فيه بأصلها اليهودى، فقال لها : (هلا قلت لهما وكيف تكونا خيرا منى وزوجى محمد، وأبى هارون، وعمى موسى). وظل النبى يقوم تلك النظرة التعيرية التى كان ينظرها الصحابة وزوجات النبى إلى صفية، ظل يقومها برفق ولين إلى أن جاءت حجة الوداع.

عاشت صفية فى بيت النبى ثلاث سنوات زوجة كباقى زوجاته الكريمات، فكان يقسم لها كما يقسم لهم ويعاملها كما يعاملهن بالرفق واللين والحب والرعاية، ولما مرض النبى مرض الموت، اجتمعت حول فراشه جميع زوجاته، فبكت صفية حبيبها وحاميها ورسولها، وقالت: إنى والله يا نبى الله لوددت أن الذى بك بى. فتغامزت نساء النبى على مقالتها.. فقال : (مضمضن) فتسائلن فى دهشة: مم يا رسول الله؟ قال: (من تغامزكن بها وإنها والله لصادقة).
لم تسلم أمنا صفية من أذى المبغضين لليهود، حتى بعد وفاة النبى ، ويروى أن جارية لها أتت أمير المؤمنين "عمر بن الخطاب" تقول له: يا أمير المؤمنين إن صفية تحب السبت، وتصل اليهود. فبعث عمر إلى أم المؤمنين صفية. فأجابت: أما السبت فإنى لم أحببه منذ أن أبدلنى الله به الجمعة، وأما اليهود فإن لى فيهم رحما فأنا أصلهم. ولما سألت أم المؤمنين صفية جاريتها عما حملها على ذلك، أجابتها الشيطان يا أمنا، الشيطان. فما كان من أمنا صفية إلا أن قالت لها: اذهبى فأنت حرة لوجه الله.

عاشت صفية بعد النبى عابدة متبتلة، ولم تكن تدّخر جهداً فى النصح وهداية الناس، ووعظهم وتذكيرهم بالله عز وجل، ويروى أن بعض الصحابيات اجتمعن فى دارها مرة يقرأن القرآن، ويتبتلن لله تعالى، حتى تُليت آية كريمة فيها موضع سجدة ، فسجدوا ، فنادتهم من وراء حجاب قائلة: "هذا السجود وتلاوة القرآن، فإين البكاء من خشية الله".

روت أم المؤمنين "صفية" عشرة أحاديث عن النبى ، وتوفيت حوالى سنة 50هـ فى خلافة معاوية ، عن عمر يناهز الستين عاما، فسلام لك يا أم المؤمنين، يا بنت هارون، وقريبة موسى، وزوجة محمد عليه وعلى أنبياء الله أحسن صلاة وأتم تسليم.

سامية السعيد