حبر الأمة عبد الله بن عباس

 

هو الصحابى الجليل عبد الله بن العباس (ابن عباس) وهو ابن عم المصطفى ، وقد روى عن النبى أكثر من 1600 حديث، تحدث فى تأويل القرآن وأخذ منه كل المفسرين، كما تحدث فى الفقه والفرائض والحلال والحرام، وكان حجة يرجعون إليه جميعا، وجمع العلوم والحديث والحجة والعقل والاستنباط فكان تجسيدا لدعوة المصطفى له.

وسيدنا عبد الله ابن عباس يشبه سيدنا عبد الله بن الزبير فى أنه أدرك الرسول وعاصره وهو غلام، ومات الرسول قبل أن يبلغ ابن عباس سنّ الرجولة لكنه هو الآخر تلقى فى حداثته كل خامات الرجولة، ومبادئ حياته من رسول الله الذى كان يؤثره ويزكيه ويعلّمه الحكمة الخالصة. وبقوة ايمانه، وقوة خلقه، وغزارة علمه، اقتعد ابن عباس مكانا عاليا بين الرجال حول الرسول. أبوه هو ابن العباس بن عبد المطلب بن هاشم ، عم الرسول . ولقّبه الحبر؛ حبر هذه الأمة، هيأه لهذا اللقب، ولهذه المنزلة استنارة عقله وذكاء قلبه، واتساع معارفه. لقد عرف ابن عباس طريق حياته فى أوليات أيامه وازداد بها معرفة عندما رأى الرسول يدنيه منه وهو طفل ويربّت على كتفه وهو يقول: (اللهم فقهه فى الدين وعلمه التأويل). ثم توالت المناسبات والفرص التى يكرر فيها الرسول هذا الدعاء ذاته لابن عمه عبد الله بن عباس . وآنئذ أدرك ابن عباس أنه خلق للعلم، والمعرفة. وكان استعداده العقلى يدفعه فى هذا الطريق دفعا قويا. فعلى الرغم من أنه لم يكن قد جاوز الثالثة عشرة من عمره يوم مات رسول الله ، فانه لم يضع من طفولته الواعية يوما دون أن يشهد مجالس الرسول ويحفظ عنه ما يقول. وبعد ذهاب الرسول الى الرفيق الأعلى حرص ابن عباس على أن يتعلم من أصحاب الرسول السابقين ما فاته سماعه وتعلمه من الرسول نفسه، فجعل من نفسه علامة استفهام دائمة، فلا يسمع أن فلانا يعرف حكمة، أو يحفظ حديثا، الا سارع اليه وتعلم منه. وكان عقله المضيئ الطموح يدفعه لفحص كل ما يسمع، فهو لا يعنى بجمع المعرفة فحسب، بل ويعنى مع جمعها بفحصها وفحص مصادرها، يقول عن نفسه: "ان كنت لأسأل عن الأمر الواحد، ثلاثين من أصحاب رسول الله ". ويعطينا صورة لحرصه على ادراكه الحقيقة والمعرفة فيقول:

"لما قبض رسول الله قلت لفتى من الأنصار: هلمّ فلنسأل أصحاب رسول الله، فانهم اليوم كثير. فقال: يا عجبا لك يا بن عباس! أترى الناس يفتقرون اليك، وفيهم من أصحاب رسول الله من ترى!؟ فترك ذلك، وأقبلت أنا أسأل أصحاب رسول الله، فإن كان ليبلغنى الحديث عن الرجل، فآتى اليه وهو قائل فى الظهيرة، فأتوسّد ردائى على بابه، يسفى الريح على من التراب، حتى ينتهى من مقيله، ويخرج فيرانى، فيقول: يا ابن عم رسول الله ما جاء بك؟ هلا أرسلت الى فآتيك؟ فأقول: لا، أنت أحق بأن أسعى اليك. فأسأله عن الحديث وأتعلم منه" هكذا راح فتانا العظيم يسأل، ويسأل، ويسأل، ثم يفحص الاجابة مع نفسه، ويناقشها بعقل جريئ. وهو فى كل يوم، تنمو معارفه، وتنمو حكمته، حتى توفرت له فى شبابه الغضّ حكمة الشيوخ وأناتهم، وحصافتهم، وحتى كان أمير المؤمنين عمر يحرص على مشورته فى كل أمر كبير، وكان يلقبه بفتى الكهول! وسئل ابن عباس يوما: أنّى أصبت هذا العلم؟ فأجاب: "بلسانٍ سَؤلٍ، وقلبٍ عقولٍ". فبلسانه المتسائل دوما، وبعقله الفاحص أبدا، ثم بتواضعه ودماثة خلقه، صار ابن عباس "حبر هذه الأمة".

ويصفه سعد بن أبى وقاص بهذه الكلمات: "ما رأيت أحدا أحضر فهما، ولا أكبر لبّا، ولا أكثر علما، ولا أوسع حلما من ابن عباس. ولقد رأيت عمر يدعوه للمعضلات، وحوله أهل بدر من المهاجرين والأنصار فيتحدث ابن عباس، ولا يجاوز عمر قوله".

وتحدث عنه عبيد بن عتبة فقال: "ما رأيت أحدا كان أعلم بما سبقه من حديث رسول الله من ابن عباس. ولا رأيت أحدا، أعلم بقضاء أبى بكر وعمر وعثمان منه. ولا أفقه فى رأى منه. ولا أعلم بشعر ولا عربية، ولا تفسير للقرآن، ولا بحساب وفريضة منه. ولقد كان يجلس يوما للفقه، ويوما للتأويل، ويوما للمغازى، ويوما للشعر، ويوم لأيام العرب وأخبارها، وما رأيت عالما جلس اليه الا خضع له، ولا سائلا الا وجد عنده علما".

ووصفه مسلم من أهل البصرة، وكان ابن عباس قد عمل واليا عليها للامام على ابن أبى طالب، فقال: "انه آخذ بثلاث، تارك لثلاث. آخذ بقلوب الرجال اذا حَدّث، وبحسن الاستماع اذا حُدّث. وبأيسر الأمرين اذا خولف. وتارك المراء، ومصادقة اللئام، وما يعتذر منه".

وكان تنوّع ثقافته، وشمول معرفته ما يبهر الألباب، فهو الحبر الحاذق الفطن فى كل علم: فى تفسير القرآن وتأويله وفى الفقه وفى التاريخ وفى لغة العرب وآدابهم، ومن ثمّ فقد كان مقصد الباحثين عن المعرفة، يأتيه الناس أفواجا من أقطار الاسلام، ليسمعوا منه، وليتفقهوا عليه.

حدّث أحد أصحابه ومعاصريه فقال: "لقد رأيت من ابن عباس مجلسا، لو أن جميع قريش فخرت به، لكان لها به الفخر. رأيت الناس اجتمعوا على بابه حتى ضاق بهم الطريق، فما كان أحد يقدر أن يجيئ ولا أن يذهب، فدخلت عليه فأخبرته بمكانهم على بابه، فقال لى: ضع لى وضوءا، فتوضأ وجلس وقال: أخرج اليهم، فادع من يريد أن يسأل عن القرآن وتأويله. فخرجت فآذنتهم: فدخلوا حتى ملؤا البيت، فما سالوا عن شيئ الا اخبرهم وزاد، ثم قال لهم: اخوانكم. فخرجوا ليفسحوا لغيرهم. ثم قال لى: أخرج فادع من يريد أن يسأل عن الحلال والحرام. فخرجت فآذنتهم، فدخلوا حتى ملؤا البيت، فما سألوا عن شيئ الا أخبرهم وزادهم، ثم قال: اخوانكم. فخرجوا. ثم قال لى: ادع من يريد أن يسأل عن الفرائض. فآذنتهم، فدخلوا حتى ملؤا البيت، فما سألوه عن شيئ الا أخبرهم وزادهم".

وكان ابن عباس يمتلك الى جانب ذاكرته القوية، بل الخارقة، ذكاء نافذا، وفطنة بالغة. كانت حجته كضوء الشمس تألقا ووضوحا وبهجة. وهو فى حواره ومنطقه، لا يترك خصمه مفعما بالاقتناع وحسب، بل ومفعما بالغبطة من روعة المنطق وفطنة الحوار. ومع غزارة علمه، ونفاذ حجته، لم يكن يرى فى الحوار والمناقشة معركة ذكاء، يزهو فيها بعلمه، ثم بانتصاره على خصمه. بل كان يراها سبيلا قويما لرؤية الصواب ومعرفته.

ولطالما روّع الخوارج بمنطقه الصارم العادل بعث به الامام علىّ ذات يوم الى طائفة كبيرة منهم فدار بينه وبينهم حوار رائع وجّه فيه الحديث وساق الحجة بشكل يبهر الألباب، ومن ذلك الحوار الطويل نكتفى بهذه الفقرة سألهم ابن عباس: ماذا تنقمون من علىّ؟ قالوا: ننقم منه ثلاثا: أولاهنّ: أنه حكّم الرجال فى دين الله، والله يقول ان الحكم الا لله. والثانية: أنه قاتل، ثم لم يأخذ من مقاتليه سبيا ولا غنائم، فلئن كانوا كفارا، فقد حلّت أموالهم، وان كانوا مؤمنين فقد حرّمت عليه دماؤهم! والثالثة: رضى عند التحكيم أن يخلع عن نفسه صفة أمير المؤمنين، استجابة لأعدائه، فان لم يكن امير المؤمنين، فهو أمير الكافرين. فأخذ ابن عباس يفنّد أهواءهم فقال: أما قولكم: انه حكّم الرجال فى دين الله، فأى بأس؟ ان الله يقول: ﴿يا أيها الذين آمنوا، لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم، ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم﴾ فنبؤنى بالله: أتحكيم الرجال فى حقن دماء المسلمين أحق وأولى، أم تحكيمهم فى أرنب ثمنها درهم؟! وتلعثم زعماؤهم تحت وطأة هذا المنطق الساخر والحاسم. واستأنف حبر الأمة حديثه: وأما قولكم: انه قاتل فلم يسب ولم يغنم، فهل كنتم تريدون أن يأخذ عائشة زوج الرسول وأم المؤمنين سبيا، ويأخذ أسلابها غنائم!؟ وهنا كست وجوههم صفرة الخحل، وأخذوا يوارون وجوههم بأيديهم. وانتقل ابن عباس الى الثالثة: وأما قولكم: انه رضى أن يخلع عن نفسه صفة أمير المؤمنين، حتى يتم التحكيم، فاسمعوا ما فعله الرسول يوم الحديبية، اذ راح يملى الكتاب الذى يقوم بينه وبين قريش، فقال للكاتب: (اكتب. هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله). فقال مبعوث قريش: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، فاكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبدالله. فقال لهم الرسول: (والله انى لرسول الله وان كذبتم). ثم قال لكاتب الصحيفة: (أكتب ما يشاءون: اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله). واستمرّ الحوار بين ابن عباس والخوارج على هذا النسق الباهر المعجز، وما كاد ينتهى النقاش بينهم حتى نهض منهم عشرون ألفا، معلنين اقتناعهم، ومعلنين خروجهم من خصومة الامام على.

ولم يكن ابن عباس يمتلك هذه الثروة الكبرى من العلم فحسب، بل كان يمتلك معها ثروة أكبر، من أخلاق العلم وأخلاق العلماء؛ فهو فى جوده وسخائه امام وعلم، انه ليفيض على الناس من ماله بنفس السماح الذى يفيض به عليهم من علمه.

ولقد كان معاصروه يتحدثون فيقولون: "ما رأينا بيتا أكثر طعاما، ولا شرابا، ولا فاكهة، ولا علما من بيت ابن عباس وهو طاهر القلب، نقى النفس، لا يحمل لأحد ضغنا ولا غلا. وهوايته التى لا يشبع منها، هى تمنّيه الخير لكل من يعرف ومن لا يعرف من الناس، يقول عن نفسه: "انى لآتى على الآية من كتاب الله فأود لو أن الناس جميعا علموا مثل الذى أعلم، وانى لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يقضى بالعدل، ويحكم بالقسط، فأفرح به وأدعو له، ومالى عنده قضيّة وانى لأسمع بالغيث يصيب للمسلمين أرضا فأفرح به، ومالى بتلك الأرض سائمة". وهو عابد قانت أوّاب؛ يقوم من الليل، ويصوم من الأيام، ولا تخطئ العين مجرى الدموع تحت خديّه، اذ كان كثير البكاء كلما صلى، وكلما قرأ القرآن، فاذا بلغ فى قراءته بعض آيات الزجر والوعيد، وذكر الموت، والبعث علا نشيجه ونحيبه. وعاش ابن عباس يملأ دنياه علما وحكمة، وينشر بين الناس عبيره وتقواه.

وفى عامه الحادى والسبعين، دعى للقاء ربه العظيم وشهدت مدينة الطائف مشهدا حافلا لمؤمن يزف الى الجنان. وبينما كان جثمانه يأخذ مستقره الآمن فى قبره، كانت جنبات الأفق تهتز بأصداء وعد الله الحق ﴿يا أيتها النفس المطمئنة ارجعى الى ربك راضية مرضية فادخلى فى عبادى وادخلى جنتى﴾. وقول رسول الله (اللهم فقهه فى الدين وعلمه التأويل).

قال رسول الله عن سيدنا عبد الله بن عباس : (اللهم علمه الحكمة اللهم بارك فيه وانشر منه)

قال عنه سيدنا عمر بن الخطاب : "والله انك لاصبح فتياننا وجها، واحسنهم عقلا، وأفقههم فى كتاب الله عز وجل".

وقال عنه شقيق البلخى: "ما رأيت ولاسمعت كلام رجل مثله، ولو سمعته فارس والروم لأسلمت"

يقول عن نفسه: "ما بلغنى عن أخ مكروه قط إلا أنزلته إحدى ثلاث منازل: إن كان فوقى عرفت له قدره، وإن كان نظيرى تفضلت عليه، وإن كان دونى لم أحفل به. هذه سيرتى فى نفسى، فمن رغب عنها فأرض الله واسعة".

وقال أيضا: "لأن أقرأ البقرة فى ليلة وأتفكر فيها أحب إلى من أن أقرأ القرآن هذرمة". وقال أيضا: "خذ الحكمة ممن سمعت؛ فإن الرجل ليتكلم بالحكمة وليس بحكيم، فتكون كالرمية خرجت من غير رام."

وقال أيضا: "لأن أعول أهل بيت من المسلمين شهرا أو جمعة أو ما شاء الله، أحب إلى من حجة بعد حجة، ولطبق بدانق أهديه إلى أخ لى فى الله أحب إلى من دينار أنفقه فى سبيل الله عز وجل. يا صاحب الذنب لا تأمنن سوء عاقبته، ولما يتبع الذنب أعظم من الذنب إذا عملته. قلة حيائك ممن على اليمين وعلى الشمال وأنت على الذنب أعظم من الذنب الذى صنعته، وضحكك، وأنت لا تدرى ما الله صانع بك، أعظم من الذنب. وفرحك بالذنب إذا عملته أعظم من الذنب، وحزنك على الذنب، إذا فاتك، أعظم من الذنب، إذا ظفرت به. وخوفك من الريح إذا حركت ستر بابك وأنت على الذنب ولا يضطرب فؤادك من نظر الله إليك أعظم من الذنب إذا عملته".

سمير جمال

 

من أراد الاستزادة فى هذا الموضوع فليتتبع صفحات الصحابة فى موقع الأحباب

أسرة التحرير