من التابعين: إبراهيم بن أدهم

العالم الزاهد المحدث

هو ابراهيم بن أدهم بن منصور ، التميمى البلخى أبو إسحاق توفى سنة 161 ه، وروى عن أبى إسحاق السبيعى وروى عنه الثورى وبقية بن الوليد وأصله من بلخ ثم انتقل بعد ان تاب وترك الإمارة إلى الشام طلبا للحلال فأقام بها مرابطا غازيا يصبر على الجهد الجهيد والفقر الشديد والورع الدائم والسخاء الوافر إلى أن مات في بلاد الروم سنة إحدى وستين ومائة.

واختلف الرواة فى حال أبيه فذكر بعض المؤرخون أنه كان شريفاً وثرياً من أثرياء كورة بلخ وروى البعض أنه كان أميراً عربياً على خراسان وأنه ورث الإمارة من أبيه، وأن الإمارة قد سعت إليه دون رغبة منه، ونسج حول ذلك رواية لا تخلو من الطرافة. وقالوا: مر أدهم ذات يوم ببساتين بخارى وتوضأ بأحد الأنهار التى تتخللها، فإذا بتفاحة يحملها ماء النهر فأكلها، ثم وقع في خاطره من ذلك وسواس فذهب يستحلها من صاحب البستان، فقرع بابه، فخرجت إليه امرأة، فقال لها: ادعى صاحب البستان، فقالت: إنه لامرأة - فقال: استأذنى لى عليها، ففعلت. فاخبر المرأة بخبر التفاحة فقالت له: إن هذا البستان نصفه لي ونصفه للسلطان، والسلطان ببلخ، وهى مسيرة عشرة أيام من بخارى، وأحلته المرأة من نصفها. وذهب إلى بلخ. واعترض السلطان فى موكبه، فخبره الخبر واستحله، فأمره السلطان أن يعود إليه في الغد. وكان للسلطان بنت بارعة الجمال، وقد خطبها أبناء الملوك فتمنعت وحببت إليها العبادة والرجال الصالحون، فلما عاد السلطان إلى مقره أخبر بنته بخبر أدهم. فرغبت بتزوجه. فلما أتاه فى الغد. قال له: لا أحلك إلا أن تتزوج ابنتى. فانقاد لذلك بعد تمنع. ولما دخل عليها عمد إلى ناحية من البيت، وأقبل على صلاته حتى أصبح ولم يزل كذلك سبع ليال. ثم تزوجها وقام فاغتسل وصلى ومات أثناء صلاته، فحملت منه إبراهيم، ولم يكن لجده ولد، فأسند الملك إليه.

وقد نشأ ابراهيم بن أدهم نشأة عادية كشريف من أشراف مدينة بلخ واستمر على ذلك حتى فترة الشباب، ثم حدث له تحول كامل إلى أن أصبح من أكابر التابعين ومن أشهر الزهاد والمتصوفين فى القرن الثانى الهجرى.

بدء حاله وتحول حياته

حكى ان ابراهيم بن ادهم كان من الأشراف فخرج عن اهله وماله وجاهه ورياسته وكان من ابناء الملوك وكان أبوه كثير المال والخدم والمراكب، انه خرج يوما يصطاد فاثار ثعلبا ثم ارنبا فبينما هو فى طلبه اذ هتف به هاتف إذا هو بصوت من فوقه يا إبراهيم ما هذا العبث ألهذا خلقت أم بهذا أمرت: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً) المؤمنون:115، اتق الله عليك بالزاد ليوم الفاقة، مرتين ونودى فى الثالثة من قربوس سرجه والله ما لهذا خلقت ولا بهذا امرت فنزل عن مركوبه وصادف راعيا لابيه فاخذ جبة الراعى من صوف فلبسها واعطاه فرسه وما معه ثم دخل البادية وكان من شأنه ما كان، فقال والله لا عصيت الله بعد يومى هذا ما عصمنى ربى.

وتوجد رواية أخرى عن بدء حال ابراهيم بن أدهم حيث قال احمد بن عبد الله المقدسى: صحبت ابراهيم بن ادهم فسألته عن بداية امره، وما كان سبب انتقاله من الملك الفانى الى الملك الباقى. فقال لى: يا اخى كنت جالسا يوما فى اعلى قصر ملكى، والخواص قيام على رأسى، فاشرفت من الطاق فرأيت رجلا من الفقراء جالسا بفناء القصر وبيده رغيف يابس، فبله بالماء واكله بالملح الجريش، وانا انظر اليه الى ان فرغ من اكله، ثم شرب شيئا من الماء، وحمد الله تعالى واثنى عليه، ونام فى فناء القصر، فالهمنى الله سبحانه وتعالى الفكر فيه، فقلت لبعض مماليكى: اذا قام ذلك الفقير فائتنى به. فلما استيقظ من نومه، قال له الغلام: يا فقير! ان صاحب هذا القصر يريد ان يكلمك. قال: بسم الله وبالله وتوكلت على الله لا حول ولا قوة الا بالله العلى العظيم. وقام معه ودخل على، فلما نظر الى سلم على، فرددت عليه السلام وامرته بالجلوس فجلس، فلما اطمأن قلت له: يا فقير اكلت الرغيف وانت جائع فشبعت. قال: نعم. قلت: وشربت الماء على شهوة فرويت. قال: نعم. قلت: ثم نمت طيبا بلاهم وغم فاسترحت. قال: نعم. فقلت فى نفسى وانا اعاتبها: يا نفس ما اصنع بالدنيا،؟ والنفس تقنع بما رأيت وسمعت. فعقدت التوبة مع الله تعالى، فلما انصرم النهار واقبل الليل؛ لبست مسحا من صوف وقلنسوة من صوف، وخرجت حافيا سائحا الى الله تعالى.

وحكى أيضا ان ابراهيم بن ادهم سُر ذات يوم بمملكته ونعمته ثم نام فرأى رجلا اعطاه كتابا فاذا فيه مكتوب: لا تؤثر الفانى ولا تغتر بملكك، فإن الذى انت فيه جسيم، لولا انه عديم، فسارع الى امر الله فانه يقول ﴿سارعوا الى مغفرة من ربكم وجنة﴾ فانتبه فزعا قال: هذا تنبيه من الله وموعظة فتاب الى الله واشتغل بالطاعة.

وحكى عن صدق نية وعزم ابراهيم بن ادهم أنه لما عدل عما كان عليه من امر الدنيا وقصد الطريق الحق فلم يكن الا مقدار سيره من بلخ الى مرو الروذ حتى صار بحيث اشار الى رجل سقط من القنطرة فى الماء الكثير هنالك ان قف فوقف الرجل مكانه فى الهواء فتخلص.

ويحكى عن رحلة إبراهيم بن أدهم أنه كان يسير إلى بيت الله، فإذا أعرابى على ناقة له فقال: يا شيخ إلى أين؟ فقال إبراهيم إلى بيت الله، قال كأنك مجنون لا أرى لك مركباً؛ ولا زاداً، والسفر طويل، فقال إبراهيم: إن لى مراكب كثيرة ولكنك لا تراها، قال: وما هى؟ قال: إذا نزلت على بلية ركبت مركب الصبر، وإذا نزلت على نعمة ركبت مركب الشكر، وإذا نزل بى القضاء ركبت مركب الرضا، وإذا دعتنى النفس إلى شيئ علمت أن ما بقى من العمر أقل مما مضى، فقال الأعرابى: سر بإذن الله فأنت الراكب وأنا الراجل.

وحكى أن إبراهيم بن أدهم أكثر ليلة فى الطواف من قوله : اللهم اعصمنى من الذنوب فسمع هاتفاً من قلبه يقول يا إبراهيم أنت تسأله العصمة وكل عباده يسألونه العصمة فإذا عصمكم على من يتفضل وعلى من يتكرم.

وعن الحج المبرور لابراهيم بن ادهم مع رفيقه الصالح الذى صحبه من بلخ فقد كان بحيث رجع من حجه زاهدا فى الدنيا راغبا فى الآخرة وخرج عن ملكه وماله واهله وعشيرته وبلاده واختار بلاد الغربة وقنع بالاكل من عمل يده اما من الحصاد او من نظارة البساتين.

سياحته فى الأرض وأحواله

وبعد ذلك ساح ابراهيم بن أدهم فى الأرض فى الأمصار الإسلامية، فجاب خراسان والعراق وقصد الحجاز فزار مقام الرسول الكريم وعرج على مكة المكرمة فحج وقيل بأنه أثناء سياحته في مكة قام بخدمة الإمام الباقر، وروى أيضاً بأنه كان من بين المشيعين للإمام الصادق، وقد صحب فى مكة سفياناً الثورى والفضل ابن عياض، وقيل أنه قدم مصر ومر بالاسكندرية ثم صار إلى بلاد الشام وقد نقل عنه بأنه كان يردد دائماً قـــولــه: ’ما تهنيت بالعيش إلا في بلاد الشام أفر بدينى من شاهق إلى شاهق فمن رآنى يقول حمال وموسوس‘ قد قضى مدة طويلة من حياته فيها متنقلاً بين ربوعها.

وفى فترة كان فى جماعة من اصحابه، فكان يعمل بالنهار وينفق عليهم، ويجتمعون بالليل فى موضع وهم صيام ليفطروا معا، فكان يبطىء عليهم فى الرجوع من العمل، فقالوا ذات ليلة تعالوا بنا نجعل فطورنا دونه حتى يعود بعد هذا اسرع، فأفطروا وناموا، فلما رجع ابراهيم وجدهم نياما، فقال مساكين لعلهم لم يكن لهم طعام فعمد الى شىء من الدقيق هناك فعجنه، وأوقد النار ووضع عليها العجين، فانتبهوا وهو ينفخ فى النار واضعا محاسنه على التراب، فسألوه عن ذلك، فقال: قلت لعلكم لم تجدوا فطورا فنمتم فاحببت ان تستيقظوا والعجين قد سويت. فقال بعضهم لبعض ابصروا أىّ شىء عملنا وما الذى به يعاملنا.

ذكر عن ابراهيم ابن ادهم انه لما اراد ان يدخل البادية اتاه الشيطان فخوفه: ان هذه بادية مهلكة ولا زاد معك ولا مركب. فعزم على نفسه رحمه الله ان يقطع البادية على تجرده ذلك، وان لا يقطعها حتى يصلى تحت كل ميل من اميالها الف ركعة، وقام بما عزم عليه وبقى فى البادية اثنتى عشرة سنة، حتى ان الرشيد حج فى بعض تلك السنين فرآه تحت ميل يصلى، فقيل له هذا ابراهيم بن ادهم فأتاه فقال: كيف نجدك يا ابا اسحق فانشد ابراهيم بن ادهم يقول:

نرفع دنيانا بتمزيق ديننا     فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع

فطوبى لعبد آثر الله ربه         وجاء بدنياه لما يتوقع

قال ابراهيم بن ادهم رأيت جبريل فى المنام وبيده قرطاس، فقلت: ما تصنع به؟ قال: اكتب اسما المحبين. فقلت: اكتب تحتهم محب المحبين ابراهيم بن ادهم! فنودى يا جبريل اكتبه فى اولهم.

قال ابراهيم بن ادهم رحمه الله مررت بحجر مكتوب عليه اقلبنى انفعك، فقلبته فاذا مكتوب عليه انت بما تعلم لا تعمل، فكيف تطلب ما لم تعلم؟

قال ابراهيم بن بشار صحبت ابراهيم بن ادهم فرأيته طويل الحزن دائم الفكر واضعا يده على رأسه كأنما افرغت عليه الهموم افراغا.

روى ان ابراهيم بن ادهم كان يحمل الحطب سبع عشرة سنة.

وكان يخفى حاله عن الناس، فيروى عبد الرحمن بن مهدى قال: قلت لابن المبارك ابراهيم بن أدهم ممن سمع فقال: قد سمع من الناس ولكن له فضل فى نفسه صاحب سرائر وما رأيته يظهر تسبيحا ولا شيئا من الخير ولا أكل مع قوم طعاما إلا كان آخر من يرفع يدية من الطعام.

وقال عبد الله ابن الفرج القنطرى العابد قال اطلعت على إبراهيم بن أدهم فى بستان بالشام فإذا به نائم مستلقى وإذا حية فى فمها طاقة ترجف فما زالت تُذَبَّ عنه حتى انتبه.

وعن عبد الجبار بن كثير قال: قيل لإبراهيم بن أدهم هذا السبع قد ظهر لنا. قال: أرونيه! فلما رآه قال: يا قسورة! إن كنت أمرت فينا بشيئ فامض لما أمرت به، وإلا نعوذك على يديك! قال: فولى السبع ذاهبا أحسبه قال يضرب بذنبه. قال: فتعجبنا كيف فهم السبع كلام إبراهيم بن أدهم؟ فأقبل علينا إبراهيم فقال: ’قولوا اللهم احرسنا بعينك التى لا تنام، واكنفنا بركنك الذى لا يرام، وارحمنا بقدرتك علينا ولا نهلك وأنت رجاؤنا‘. قال خلف: فما زلت أقولها منذ سمعتها فما عرض لى عدو ولا غيره.

قال بقية بن الوليد: كنا فى البحر فهبت الرياح، وهاجت الأمواج، فبكى الناس وضجوا، فقيل لمعيوف أو ابن معيوف: هذا إبراهيم بن أدهم لو سألته أن يدعو الله! وإذا هو نائم فى ناحية السفينة ملفوف رأسه فى كساء، فدنا منه فقال: يا أبا إسحاق أما ترى ما الناس فيه؟ قال: اللهم قد أريتنا قدرتك فأرنا عفوك. قال: فهدأت السفن.

حدثنى صالح بن سليمان أو غيره قال: احتاج إبراهيم بن أدهم إلى دينار، وكان على شاطيئ البحر، فدعا الله، فتشرعت السمك فى فى كل واحدة منهن دينار واحد، فأخذ دينار واحدا.

وحدثنا أبو النضر الحارث بن النعمان قال: كان إبراهيم بن أدهم يجتنى الرطب من شجر البلوط.

وحكى ان ابراهيم بن ادهم كان يصلى ليلة فأعيى فجلس ومد رجليه فهتف به هاتف اهكذا تجالس الملوك.

وكان فى قبر ابراهيم بن ادهم ثقبة اذا قصد ظالم بسوء البلدة التى فيها ذلك القبر المنيف يخرج من تلك الثقبة نحل وزنابير تلسعه ومن يتبعه فيتفرقون.

وللحديث بقية ،،،

سمير جمال

 

من أراد الاستزادة فى هذا الموضوع فليتتبع صفحات الصحابة فى موقع الأحباب

أسرة التحرير