فى رحاب الصحابيات 2

 

نستكمل اليوم السيرة العطرة التى بدءناها مع صحابيات النبى اللاتى حضرنه وحظين برؤيته وانطبقت عليهن شروط الصحبة، ألا وهى كل من صحب النبى ولو ساعة أو حتى من رأه - على شرط الإمام أحمد، ونستعرض من حياتهن كيف تأثرن بالرسول الكريم وبالإسلام فاستحققن لقب الصحابيات.

من هولاء الخنساء السلمية الشاعرة . واسمها تماضر: بنت عمرو وينتهى نسبها إلى امرئ القيس بن سليم:

قدمت رسول الله مع قومها فأسلمت معهم فذكروا أن رسول الله كان يستنشدها ويعجبه شعرها فكانت تنشده ويقول: (هيه يا خناس). قالوا: وولم تتقن الشعر حتى رثت إخوتها، وأجمع أهل العلم والشعر أنه لم تكن امرأة قبلها ولا بعدها أشعر منها، وعن أبى وجزة عن أبيه: أن الخنساء شهدت القادسية ومعها أربعة بنين لها فقالت لهم أول الليل: يا بنى إنكم أسلمتم وهاجرتم مختارين والله الذى لا إله غيره إنكم لبنو رجل واحد كما أنكم بنو امرأة واحدة ما خنت أباكم ولا فضحت خالكم ولا هجنت حسبكم ولا غيرت نسبكم. وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل فى حرب الكافرين. واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية يقول الله عز وجل: ﴿يا أيها الذي أمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون﴾. فإذا أصبحتم غدا إن شاء الله سالمين فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين وبالله على أعدائه مستنصرين. وإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها واضطرمت لظى على سياقها وجللت نارا على أرواقها فتيمموا وطيسها وجالدوا رئيسها عند احتدام خميسها تظفروا بالغنم والكرامة فى دار الخلد والمقامة. فخرج بنوها قابلين لنصحها وتقدموا فقاتلوا وهم يرتجزون وأبلوا بلاء حسنا واستشهدوا رحمهم الله. فلما بلغها الخبر قالت: الحمد لله الذى شرفنى بقتلهم وأرجو من ربى أن يجمعنى بهم في مستقر رحمته، فكان عمر بن الخطاب يعطي الخنساء أرزاق أولادها الأربعة لكل واحد مائة درهم حتى قبض . فكم كانت عالمة وكم كانت شجاعة وأى قوة إيمان تلك التى تجعلها تضحى بكل اولادها مرة واحدة دون تردد، فلله درها.

أما خولة بنت ثعلبة فعن يوسف بن عبد الله بن سلام قال: حدثتنى خويلة امرأة أوس بن الصامت أخى عبادة بن الصامت قالت: فى والله وفى أوس بن الصامت أنزل الله عز وجل صدر سورة المجادلة قالت: كنت عنده وكان شيخا كبيرا قد ساء خلقه وضجر قالت: فدخل علي يوما فراجعته فى شيئ فغضب وقال: أنت على كظهر أمى. ثم خرج فجلس فى نادى قومه ساعة ثم دخل على فإذا هو يريدنى على نفسى قالت: فقلت: كلا والذى نفس خويلة بيده لا تخلص إلى وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله ورسوله فينا! قالت: فواثبنى وأمتنعت منه فغلبته بما تغلب به المرأة الشيخ الضعيف فألقيته عنى. قالت: ثم خرجت إلى بعض جاراتى فاستعرت منها ثيابها ثم خرجت حتى جئت رسول الله فجلست بين يديه فذكرت له ما لقيت منه وجعلت أشكو إليه ما ألقى من سوء خلقه. قالت: فجعل رسول الله يقول: (يا خويلة ابن عمك شيخ كبير فاتقى الله فيه). قالت: فوالله ما برحت حتى نزل فى القرآن فتغشى رسول الله ما كان يتغشاه ثم سرى عنه فقال: (يا خويلة قد أنزل الله فيك وفى صاحبك). ثم قرأ على: ﴿قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ﴾ ... الآيات إلى قوله : ﴿وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ المجادلة 58: 1-4، قالت: فقال رسول الله : (مريه فليعتق رقبة). قالت: فقلت: والله يا رسول الله ما عنده ما يعتق! قال: (فليصم شهرين متتابعين). قالت: فقلت: والله إنه شيخ كبير ما به من صيام. قال: (فليطعم ستين مسكينا وسقا من تمر). قالت: فقلت: يا رسول الله ما ذاك عنده! قالت: فقال رسول الله : (فإنا سنعينه بعرق من تمر). قالت: فقلت: يا رسول الله وأنا سأعينه بعرق آخر. قال: (فقد أصبت وأحسنت فاذهبى فتصدقى به عنه ثم استوصى بابن عمك خيرا). قالت: ففعلت.

وروى عن عمر بن الخطاب أنه خرج ومعه الناس فمر بعجوز فجعل يحدثها وتحدثه فقال رجل: يا أمير المؤمنين حبست الناس على هذه العجوز! قال: ’ويلك! أتدرى من هذه؟ هى امرأة سمع الله عز وجل شكواها من فوق سبع سماوات هذه خولة بنت ثعلبة التى أنزل الله فيها: ﴿قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا﴾. والله لو أنها وقفت إلى الليل ما فارقتها إلا للصلاة ثم أرجع. فانظرى إلى هذه الصحابية التقية النقية التى استمع الله إلى شكواها وأجابها إلى سؤالها وانظرى إلى حديثها مع رسوله الكريم وكيف خرجنا منه بتعاليم الدين الحنيف، فأى شرف بعد هذا.

وأما عن باع هواتى الصحابيات فى الورع فعظيم، والورع- كما عرفه العلماء- جعل الإنسان بينه وبين الحرام جانبا من الحلال، فيدع ما فيه شبهة خشية أن يكون حراما. يقول النبى : (لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا لما به البأس) أخرجه الترمذي وأخرجه ابن ماجه. وفى فضل الاتصاف بالورع يقول الإمام الحسن البصرى : ’مثقال ذرة من الورع خير من كف مثقال من الصوم والصلاة‘، ومن أمثلة الورع فى حياة الصحابيات نذكر عن عائشة أم المؤمنين قالت: "كنت أدخل بيتى الذى دفن فيه رسول الله وأبى فأضع ثوبى فأقول: إنما هو زوجى وأبى، فلما دفن عمر معهم، فو الله ما دخلت إلا وأنا مشدودة علىَّ ثيابى حياء من عمر" أخرجه الإمام أحمد. وعن أم المؤمنين حبيبة رملة بنت أبى سفيان أنه لما جاءها نعى أبيها دعت بطيب، فمسحت ذراعيها وقالت: "مالى بالطيب من حاجة، لولا أنى سمعت النبى يقول: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تُحِد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا)فانظرى إلى ورع هواتى الصحابيات!

وقد كانت الصحابيات نموذجا يحتذى فى الاجتهاد والتبتل فى العبادة والإخلاص لله تعالى، مع قيامهن بسائر واجباتهن نحو ازواجهن وأولادهن، ومما ورد في هذا الشأن أن المرأة كان إذا جنها الليل تسأل زوجها: هل لك حاجة تريدها منى؟ فإن كان له حاجة لم تتأخر فى قضائها طاعة لربها، فإن لم تكن له حاجة استأذنته فى أن تقوم ليلها عابدة لربها، وخلت بمحبوبها، تتلو كتابه، وتَصفُّ قدمها في محرابه، وترسل دموعها خشية منه، وهى تجتهد فى الاستغفار والبكاءحتى يظنها الظان أن جريمة وقعت منها، وانظرى ما روى عن حفصة بنت سيرين أنها اشترت جارية من السند، فقيل للجارية: كيف رأيت مولاتك؟ فذكرت كلاماً بالفارسية، تفسيره: إنها امرأة صالحة، إلا أنها أذنبت ذنبا عظيما، فهى الليل كله تبكى وتصلى. فانظرى معى كيف حسبتها مرتكبة للذنوب العظيمة من شدة تقواها وخشوعها.

واما الإنفاق فقد كانت لهن باعا لا تدرك،

وحيث أن المرأة شأنها في ذلك كشأن الرجل- إن لم يكن أكثر - مفطورة على حب المال كباقى خلق الله، وتزيد على ذلك محبتها للزينة والحلى، ومن ثم كانت دعوة النبى إلى كل امرأة مسلمة بضرورة الإكثار من الصدقة لتفك بذلك رقبتها من النار، ولتحمى نفسها من الوقوع في أسر المحبة للزينة والمتاع الذي قد يحملها على البخل بالواجب، وفى هذا يقول : (يا معشر النساء تصدقن، فإنى رأيتكن أكثر أهل النار). فقلن: ولم ذلك يا رسول الله؟ قال: (تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، وما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم منكن).أخرجه البخارى. ولذلك كانت الصحابيات يتسابقن فى الإنفاق، فكانت أم المؤمنين عائشة تطيب الدراهم، وتضع فيها المسك قبل أن تتّصدق بها، فقيل لها: يا أم المؤمنين لم تفعلين هذا؟ فقالت: "إن الدراهم تقع فى يد الله قبل أن تقع فى يد السائل". وهذا موقف يدل على فقه فى دين الله، تتعامل صاحبته مع الغيب على أنه واقع مشاهد، ومن ثم لا يحملها ذلك على استكثار ما تعطى، لأن الآخذ هو الله، كما يحملها ذلك على حب الفقير والترحيب به ؛لأنه يحمل زادها إلى الله تعالى.

ومما يُذْكَرُ فى هذا المقام أن زينب الثقفية امرأة عبد الله بن مسعود كانت صناعا تبيع من صناعتها، فقالت لعبد الله: والله إنك شغلتنى أنت وولدك عن الصدقة فى سبيل الله - أى لأنها تعطيهم ما تكتسبه لا تنفق - فسل النبى فإن كان لى فى ذلك أجر وإلا تصدقت فى سبيل الله، فقال ابن مسعود: وما أحب أن تفعلى إن لم يكن لك فى ذلك أجر. فسألت النبى ، فقال: (أنفقى عليهم فإن لكِ أجر ما أنفقت عليهم). فانظرى إلى توقها إلى ما يرضى ربها، ولا تخطئ ذلك مع ما يفعل ضعاف العلم هذه الأيام من حساب كمية الأجر، فهى لا تبحث عن الأجر من حيث الكم والأكثرية ولكن من حيث أن ما له أجر هو ما يرضى عنه الله ورسوله، وطالما ان له أجر فلا يهم حجمه أو أيهما أكثر، فأى فقيهة كانت هذه الصحابية !

وأما التنافس بينهن على الإنفاق فى سبيل الله تعالى، فقد ورد أن النبى قال لنسائه: (أولكن يتبعنى أطولكن يدا)، - بمعنى أولكن لحاقا بى بعد وفاتى - قالت السيدة عائشة : "فكنا إذا اجتمعنا بعد وفاة رسول الله نمد أيدينا فى الحائط نتطاول، فلم نزل نفعل ذلك حتى توفيت زينب بنت جحش، وكانت امرأة قصيرة ولم تكن أطولنا يدا، فعرفت أن النبى إنما أراد بطول اليد الصدقة، وكانت زينب امرأة صناع اليدين، فكانت تدبغ وتخرز وتتصدق به فى سبيل الله".

وعن أم ذرة - وكانت تغشى عائشة - قالت: "بعث إليها - وتعنى عائشة - ابن الزبير بمال فى غرارتين - جوالين - قالت: أراه ثمانين ومائة ألف، فدعت بطبق - وهى يومئذ صائمة - فجعلت تقسمه بين الناس، فأمست وما عندها من ذلك درهم، فلما أمست قالت: يا جارية هلمى فطرى، فجاءتها بخبز وزيت، فقالت لها أم ذرة: أما استطعت مما قسمت اليوم أن تشترى لنا بدرهم لحما نفطر عليه؟ فقالت لها: لا تعنفينى، لو كنت ذكرتنى لفعلت. فانظرى كيف نسيت تعبها ومشقة الصيام فى سعيها للإنفاق فى سبيل الله. ولم تكن وحدها فى ذلك، فعن عبد الله بن الزبير قال: "ما رأيت امرأتين قط أجود من عائشة وأسماء، وجودهما مختلف: أما عائشة فكانت تجمع الشيئ حتى إذا اجتمع عندها قسمت، وأما أسماء فكانت لا تمسك شيئا لغد. فلله دركن يا صحابيات الرسول وطلاب مدرسته .

قال محمد بن كعب: "كان عطاء زينب - أى بنت جحش - اثنى عشر ألف درهم ،ولم تأخذه إلا عاما واحدا، حُمِلَ إليها فقسمته فى أهل رحمها وفى أهل الحاجة حتى أتت عليه، فبلغ ذلك عمر فقال: "هذه امرأة يراد بها خير". فوقف على بابها، وأرسل بالسلام وقال: "لقد بلغنى ما فرقت"  فأرسل إليها بألف درهم لتنفقها، فسلكت بها طريق ذلك المال"، أى أنها لم تحتفظ بها هى الأخرى. ولذلك كانت اسبق زوجاته لحاقا به.

لقد تربت هذه الأجيال على إيثار مرضاة الله تبارك وتعالى على كل شيئ، وبذا هانت الدنيا عليهم، فأخرجوها من أيديهم طائعين. وانطلقت أقوالهم وأفعالهم تحكى هذا، وتتوارثه الأجيال؛ ولذا لا نعجب أن تنزل آيات القرآن الكريم، وتتوارد أحاديث النبي الأمين فى ضرورة اقتفاء آثارهن، والسير على دربهن؛ لأن إيمانهن هو النموذج، وسلوكهن هو القدوة، وصدق الله: ﴿وَالسابِقُونَ الأولُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالذِينَ اتبَعُوهُم بِإِحْسَان رضىَ اللهُ عنهُمْ وَرَضوا عَنْهُ وَأَعد لهمْ جَناتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنهًارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ التوبة 9: 100.

وللحديث بقية ...

سامية السعيد