واستغفر لهم الرسول

يقول الحق سبحانه ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ﴾ النساء 4: 64.

هذه الآيات من المنح الإلهية للأمة المحمدية، فقد أخبر الله سبحانه وتعالى المسلمين بأنه قد أذن لهم فى طاعة رسوله وأذن له فى الاستغفار لهم عند اقترافهم الذنوب وربط ذلك بقدومهم إليه واستغفارهم الله أمامه ووعده بقبول استغفاره لهم، فهذه شفاعة للرسول فى أمته فى الدنيا قبل شفاعته لهم فى الآخرة، ثم ذكر الله لهم شرط الإيمان فى الآية التى تليها وهو الطاعة والتسليم المطلق للرسول فى قضائه بينهم، وأن يوافق ظاهرهم باطنهم فى التسليم والطاعة، وكلتا الآيتان تكريم واضح وتأييد بيِّن للرسول الكريم الذى لا ينطق عن الهوى، كما أن آيات القرآن جميعا - على عكس ما يظن بعض الناس - لا تعطل ولا ينتهى العمل بها كما سيظهر فى التفاسير.

من تفسير الإمام ابن كثير: يقول تعالى ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ﴾ أى: فرضت طاعته على من أرسله إليهم وقوله ﴿بِإِذْنِ اللهِ﴾ قال مجاهد: أى لا يطيعه أحد إلا بإذنى. يعنى: لا يطيعهم إلا من وفقته لذلك، كقوله ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ﴾ آل عمران 3: 152، أى: عن أمره وقدره ومشيئته، وتسليطه إياكم عليهم.
وقوله ﴿وَلَوْ أَنْهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾ يرشد تعالى العصاة والمذنبين إذا وقع منهم الخطأ والعصيان أن يأتوا إلى الرسول فيستغفروا الله عنده، ويسألوه أن يستغفر لهم، فإنهم إذا فعلوا ذلك تاب الله عليهم ورحمهم وغفر لهم، ولهذا قال ﴿لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾
يكمل ابن كثير فيقول: وقد ذكر جماعة منهم: الشيخ أبو نصر بن الصباغ فى كتابه "الشامل" الحكاية المشهورة عن
العُتْبى، قال: كنت جالسا عند قبر النبى ، فجاء أعرابى فقال: السلام عليك يا رسول الله، سمعت الله يقول ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾ وقد جئتك مستغفرا لذنبى مستشفعا بك إلى ربى ثم أنشأ يقول:

يا خيرَ من دُفنَت بالقاع أعظُمُه     فطاب منْ طيبهنّ القاعُ والأكَمُ

نَفْسى الفداءُ لقبرٍ أنت ساكنُه       فيه العفافُ وفيه الجودُ والكرمُ

ثم انصرف الأعرابى فغلبتنى عينى، فرأيت النبى فى النوم فقال (يا عُتْبى، إلحقْ الأعرابىّ فبشره أن الله قد غفر له).

ذكر هذه الحكاية النووى فى المجموع وفى الإيضاح، وزاد البيتين التاليين:

أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته     على الصراط إذا ما زلت القدم

وصاحباك فلا أنساهما أبدا       منى السلام عليكم ما جرى القلم

هذا هو ما أورده ابن كثير، وأقول أن استغفار النبى للمسلمين بعد إنتقاله لم يستغربه الصحابة ولم يعترضوا على الأعرابى فى طلبه أيضا بخلاف ما يفعله البعض اليوم، والمعنى أن هذه الآية لم تنتهى بانتقال النبى   وإنما هى مستمرة إلى يوم الدين.

وتفسير الإمام القشيرى لهذه الآية: ما أَمَرْنَا الرسلَ إلاَّ بدعوة الخلْقِ إلينا. وقوله ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ﴾ لو جعلوك ذريعتهم لوصلوا إلينا، ويقال لو لازموا التذلل والافتقار وركبوا مطية الاستغفار لأناخوا بعقوة المبار - المبار: المبرات، الأعمال المبرورة.

ومن تفسير الإمام الفخر الرازى:

إنما قال ﴿واستغفر لَهُمُ الرسول﴾ ولم يقل واستغفرت لهم إجلالا للرسول ، وأنهم إذا جاؤه فقد جاؤا من خصه الله برسالته وأكرمه بوحيه وجعله سفيرا بينه وبين خلقه، ومن كان كذلك فان الله لا يرد شفاعته، فكانت الفائدة فى العدول عن لفظ الخطاب إلى لفظ المغايبة ما ذكرناه.

ومن تفسير الجلالين:

﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسهمْ﴾ بِتَحَاكُمِهِمْ إلَى الطَّاغُوت ﴿جَاءُوك﴾ تَائِبِينَ ﴿فَاسْتَغْفَرُوا الله وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُول﴾ فِيهِ الْتِفَات عَنْ الْخِطَاب تَفْخِيمًا لِشَأْنِهِ ، ﴿لَوَجَدُوا الله تَوَّابًا﴾ عَلَيْهِمْ ﴿رَحِيمًا﴾ بِهِمْ.

وتفسير الإمام الثعلبى لهذه الآية: روى الصادق عن على قال: قدم علينا أمرؤ عندما دفنّا رسول الله ثلاثة أيام فرمى بنفسه على قبر النبى وحثا على رأسه من ترابه وقال: يا رسول الله قلت فسمعنا قولك ووعيت من الله فوعينا عنك وكان فيما أنزل الله عليك ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظلموا أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ فاستغفروا الله واستغفر لَهُمُ الرسول لَوَجَدُواْ الله تَوَّاباً رَّحِيماً﴾ فقد ظلمت نفسى فجئتك لتستغفر لى فنودى من القبر أنه قد غفر لك.

وتفسير الإمام البيضاوى: ﴿واستغفر لَهُمُ الرسول﴾ واعتذروا إليك حتى انتصبت لهم شفيعاً، وإنما عدل الخطاب تفخيماً لشأنه وتنبيهاً على أن من حق الرسول أن يقبل اعتذار التائب وإن عظم جرمه ويشفع له، ومن منصبه أن يشفع فى كبائر الذنوب.

ومن تفسير البحر المحيط: وروى عن على أنه قال: قدم علينا أعرابى بعدما دفنا رسول الله بثلاثة أيام فرمى بنفسه على قبره وحثا من ترابه على رأسه ثم قال:

يا خيرَ من دُفنَت بالقاع أعظُمُه     فطاب منْ طيبهنّ القاعُ والأكَمُ

نَفْسى الفداءُ لقبرٍ أنت ساكنُه       فيه العفافُ وفيه الجودُ والكرمُ

ثم قال: قد قلت يا رسول الله فسمعنا قولك، ووعيت عن الله فوعينا عنك، وكان فيما أنزل الله عليك ﴿ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك﴾ الآية، وقد ظلمت نفسى وجئت أستغفر الله ذنبى، فاستغفر لى من ربى، فنودى من القبر أنه قد غفر لك.

ومن تفسير العلامة الألوسى:

الإشارة: كما أمر الله بطاعة رسوله فى حياته، أمر بطاعة ورثته بعد مماته، وهم العلماء الأتقياء الذين يعدلون فى الأحكام، والأولياء العارفون الذين يحكمون بوحى الإلهام، فالعلماء حُكَّام على العموم، والأولياء حكام على الخصوص، أعنى من تعلق بهم من أهل الإرادة، فمن لم يرض بحكم العلماء، ووجد فى نفسه حرجًا مما قضوا به عليه، ففيه شُعبة من النفاق، وخصلة من المنافقين. ومن لم يرض بحكم الأولياء فقد خرج من دائرتهم، ومن عُش تربيتهم، لأن حكم الرسول وحكم ورثته هو حكم الله، ومن لم يرض بحكم الله خرج عن دائرة الإيمان.

فلا يكمل إيمان العبد حتى لا يجد في نفسه حرجًا من أحكام الله، القهرية والتكليفية، ويُسَلِّم لما يبرز من عنصر القدرة الأزلية، كيفما كان، فقرًا أو غنى، ذلاً أو عزًا، منعًا أو عطاء، قبضًا أو بسطًا، مرضًا أو صحة، إلى غير ذلك من اختلاف المقادير. ويرضى بذلك ظاهرًا وباطنًا، وينسلخ من تدبيره واختياره؛ إلى اختيار مولاه فهو أعلم بمصالحه، وأرحم به من أمه وأبيه. وبالله التوفيق. وهو الهادى إلى سواء الطريق.

سامر الليل

 
 

حب طه

على اثر الاعتداء على رسولنا العظيم ثارت مشاعر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها تعبر عن سخطها ورفضها لهذا السلوك العدوانى الظالم وهى ثورة ناتجة فى أساسها عن حب المسلمين لنبيهم الكريم وهو شيئ محمود إلا أن هذا الحب عند تمحيصه والتأمل فى حقيقته يتبين أنه لا يرقى الى المستوى المطلوب وهو ما أحاول بيانه فمحبة النبى واجبه علينا فهى ليست كسائر المحبة لأى شخص بل هى عبادة عظيمة نعبد بها الله ونتقرب بها إليه وأصل عظيم من أصول الدين ودعامة أساسية من دعائم الإيمان كما قال تعالى ﴿النبى أولى بالمؤمنين من أنفسهم﴾ وكما قال رسول الله (والذى نفسى بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين). البخارى فحبه زادنا إلى الله, وشفاء قلوبنا, ونور حياتنا, وسعادة أفئدتنا .

وفي الصحيح أيضاً أن سيدنا عمر قال: يا رسول الله، والله لأنت أحب إلىَّ من كل شيئ إلا من نفسى، فقال (لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك) فقال: يا رسول الله والله لأنت أحب إلىَّ من كل شيئ حتى من نفسى، فقال (الآن يا عمر).
إذن فمحبة النبى
ليست أمرا ثانويا أو أمرا مخير فيه إن شاء المرء أحبه وإن شاء لم يحبه بل هى واجب على كل مسلم ومسلمة وهى من صميم الإيمان ولابد لهذا الحب أن يكون أقوى من أى حب ولو كان حب المرء لنفسه فالمحبة ليست قناعة عقليه فقط بل هى مزيج من أحساسيس فعلية تعصف بالقلب فتذيقه حلاوة الإيمان وعظمته وكما قال الإمام فخر الدين:

ولو كانت قلوب الناس ملئ          بحب المصطفى كانت وكاها

والوكاء هو الغطاء المحكم.

فالله أحبه وأثنى عليه وقرن اسمه به فما بالك نحن ؟؟؟ وقد وصفه جل وعلا قائلا فى محكم تنزيله ﴿لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم﴾ ولذلك أرجأ استجابة دعوته شفاعة لأمته غدا يوم القيامة فياله من كرم ويالها رحمة، ولقد ضرب لنا صحابة رسول الله العديد من الامثال فى محبته سجلها التاريخ لنا وأروى لكم منها ما قاله سيدنا على بن ابى طالب حين افتدى رسول الله بنومه فى فراشه ليلة أن أراد المشركون قتله، فقال: كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا ومن الماء البارد على الظمأ.

وأيضاً قصة قتل زيد بن الدثنة، قال ابن إسحاق: اجتمع رهط من قريش، فيهم أبو سفيان بن حرب؛ فقال له أبو سفيان حين قدم ليُقتل: أنشدك الله يا زيد، أتحب أن محمدا عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه، وأنك فى أهلك؟ قال: والله ما أحب أن محمدا الآن فى مكانه الذى هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وأنى جالس فى أهلى. قال: يقول أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمدٍ محمدا.

وكما أخرج الطبرانى وحسنه عن أم المؤمنين السيدة  عائشة قالت: جاء رجل إلى النبى فقال "يا رسول الله إنك لأحب إلي من نفسى، وإنك لأحب إلى من ولدى، وإنى لأكون فى البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتى فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتى وموتك عرفت انك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وأنى إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك". فلم يرد عليه النبى شيئا حتى نزل جبريل بهذه الآية ﴿ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم...﴾ الآية. ولايفوتكم ما أخرجه ابن إسحاق: عن سعد بن أبى وقاص قال: مر رسول الله بامرأة من بنى دينار وقد أصيب زوجها، وأخوها، وأبوها مع رسول الله بأحد، فلما نعوا لها قالت: ما فعل رسول الله ؟ قالوا: خيراً يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين. قالت: أرونيه حتى أنظر إليه. قال: فأشير لها إليه، حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل -أى هينة. فأين نحن اليوم من هكذا محبة!!!

 ماء السماء

ومن أراد الاستزادة فليطلع على موقع النبى

أسرة التحرير