كتب السلف

لما كنا نحتاج باستمرار إلى كتب السابقين الغير محرفة، ولما كثر التحريف بفعل قلة غير مسئولة تقوم بإصدار الكتب المحرفة وطرحها فى الأسواق أو عرضها فى الشبكة العالمية للمعلومات، وسواء كان ذلك يتم بحسن نية أو بغيرها، فقد ظهرت الحاجة إلى البحث عن المصادر الصحيحة فى هذه الشبكة لكتب الصالحين وعلوم السابقين، ونحن نرشح لكم المواقع الصديقة التى تتحرى الدقة فيما تعرضه من كتب حتى تجدوا ما تحتاجونه من كتب وعلوم السابقين التى حاول البعض أن يدثروها ويغطوا عليها، ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المغرضون، وسنقوم باستعراض بعض الكتب التى أستشهد بها الإمام فخر الدين فى مؤلفاته ودروسه من هذه المواقع، وللمزيد عن تلك المواقع زوروا صفحة المكتبة من الموقع الرئيسى.

 

قرأت لك:

من أسماء الله:

الغفار

 

هو الذى أظهر الجميل وستر القبيح والذنوب من جملة القبائح التى سترها بإسبال الستر عليها فى الدنيا والتجاوز عن عقوبتها فى الآخرة والغفر هو الستر وأول ستره على العبد أن جعل مقابح بدنه التى تستقبحها الأعين مستورة فى باطنه مغطاة بجمال ظاهره فكم بين باطن العبد وظاهره فى النظافة والقذارة وفى القبح والجمال فانظر ما الذى أظهره وما الذى ستره وستره الثانى أن جعل مستقر خواطره المذمومة وإرادته القبيحة سر قلبه حتى لا يطلع أحد على سره ولو انكشف للخلق ما يخطر بباله فى مجارى وسواسه وما ينطوى عليه ضميره من الغش والخيانة وسوء الظن بالناس لمقتوه بل سعوا فى تلف روحه وأهلكوه فانظر كيف ستر عن غيره أسراره وعوراته وستره الثالث مغفرته ذنوبه التى كان يستحق الافتضاح بها على ملأ الخلق وقد وعد أن يبدل سيئاته حسنات ليستر مقابح ذنوبه بثواب حسناته مهما مات على الإيمان تنبيه حظ العبد من هذا الاسم أن يستر من غيره ما يجب أن يستر منه فقد قال النبى صلعم من ستر على مؤمن عورته ستر الله عز و جل عورته يوم القيامة والمغتاب والمتجسس والمكافئ على الإساءة بمعزل عن هذا الوصف وإنما المتصف به من لا يفشى من خلق الله تعالى إلا أحسن ما فيه ولا ينفك مخلوق عن كمال ونقص وعن قبح وحسن فمن تغافل عن المقابح وذكر المحاسن فهو ذو نصيب من هذا الوصف كما روى عن عيسى صلوات الله عليه أنه مر مع الحواريين بكلب ميت قد غلب نتنه فقالوا ما أنتن هذه الجيفة فقال عيسى عليه السلام ما أحسن بياض أسنانه تنبيها على أن الذى ينبغى أن يذكر من كل شيء ما هو أحسن القهار هو الذى يقصم ظهور الجبابرة من أعدائه فيقهرهم بالإماتة والإذلال بل الذى لا موجود إلا وهو مسخر تحت قهره ومقدرته عاجز فى قبضته.

 

أسرة التحرير

 

 

 

 

أماجد العلماء

الحمد لله الذى اختص العلماء بوراثه الانبياء والتخلق باخلاقهم وجعلهم القدوة للكافة، فقد ضل كثير من الناس وابتعدوا عن هدى الحبيب عندما تركوا الاخذ عن اكابر علماء هذه الامة وادمنوا الاخذ من الأصاغر ففارقوا ما كان عليه سلفهم الصالح وما استقرت عليه أمة المسلمين عقودا وقرونا.

قال (لازال الناس بخير ما اخذوا العلم عن أكابرهم، فاذا اخذوا العلم عن أصاغرهم هلكوا)، وقال (إن هذا الدين علم، فانظروا عمن تاخذون)، وقال (إذا قبض العلماء اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسُئلوا فافتوا بغير علم فضلوا واضلوا، ولا حول ولا قوه الا بالله).

ويقول الإمام فخر الدين محمد عثمان عبده البرهانى :

ولإن سُئلتم ما الكتاب فانه     مما رواه أماجد الأعلام

 والمجمع عليه عند السادة العلماء ان الواحد منهم لا ينتقص كلام سيدنا رسول الله  ولا يحكم بوضعه ولا يضعفه ولايقدح فيه الا اذا كان فى يده سند من آيات كتاب الله او سنة نبيه عليه افضل الصلاة وأزكى السلام, ومنذ بداية القرن الأول الهجرى والثانى والثالث والرابع وحتى يومنا هذا تولى ساداتنا من اماجد العلماء رضوان الله عليهم الحفاظ على تراث ديننا الحنيف كما احب واراد فكانت الاحاديث الصحيحة والتفاسير الصادقة واحداث التاريخ من بداية الرسالة المحمدية مع تسلسلها التاريخى إلى يومنا هذا محفوظة ومسندة بكل أمانة وصدق، ومن هؤلاء السادة العلماء الأجلاء ومع سيرته الطيبة كان

 

الإمام الفضيل بن عياض

 

هو ابن مسعود بن بشر الإمام القدوة الثبت شيخ الإسلام، أبو على التميمى اليربوعى الخراسانى المنشأ، المجاور بحرم الله، ولد بسمرقند، ونشأ بأبِيْوَرْد من ناحية مرو من قرية تعرف بقندين، وارتحل فى طلب العلم .

قال محمد بن سعد: ولد بخراسان بكورة أبيورد، وقدم الكوفة وهو كبير، فسمع من منصور وغيره، ثم تعبد، وانتقل إلى مكة ونزلها إلى أن مات بها.

ومن الوقفات العجيبة فى سيرة هذا الإمام قصة توبته:

قال الإمام الذهبى فى سير أعلام النبلاء: عن الفضل بن موسى قال: كان الفضيل بن عياض شاطرا يقطع الطريق بين أبِيوَرْد وسَرخس، وكان سبب توبته أنه عشق جارية، فبينما هو يرتقى الجدران إليها، إذ سمع تاليا يتلو ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ ... ﴾ الحديد: 16. فلما سمعها، قال: بلى يارب، قد آن، فرجع، فآواه الليل إلى خَرِبة، فإذا فيها سابلة، فقال بعضهم: نرحل. وقال بعضهم: حتى نصبح فإن فضيلا على الطريق يقطع علينا. قال ففكرت، وقلت: أنا أسعى بالليل فى المعاصى، وقوم من المسلمين هاهنا، يخافونى، وما أرى الله ساقنى إليهم إلا لأرتدع، اللهم إنى قد تبت إليك، وجعلت توبتى مُجاورة البيت الحرام. قال الإمام الذهبى تعليقا على القصة: وبكل حال: فالشرك أعظم من قطع الطريق، وقد تاب من الشرك خلق صاروا أفضل الأمة. فنواصى العباد بيد الله، وهو يضل من يشاء، ويهدى إليه من أناب.

من كتب عنه ومن حدثوا عنه :

فكتب بالكوفة عن منصور، والأعمش، وبيان بن بشر، وحصين بن عبد الرحمن، وليث، وعطاء بن السائب، وصفوان بن سليم، وعبد العزيز بن رفيع، وأبى إسحاق الشيبانى، ويحيى بن سعيد الأنصارى، وهشام بن حسان، وابن أبى ليلى، ومجالد، وأشعث بن سوَّار، وجعفر الصادق، وحميد الطويل، وخلق سواهم من الكوفيين والحجازيين.

حدث عنه: ابن المبارك، ويحيى القطان، وعبد الرحمن بن مهدى، وابن عيينة، والأصمعى، وعبد الرزاق، وعبد الرحمن بن مهدى بن هلال، شيخ واسطى، وحسين الجعفى، وأسَدُ السُّنة الشافعى، وأحمد بن يونس، ويحيى بن يحيى التميمى، وابن وهب، ومسدد، وقتيبة، وبشر الحافى، والسرى بن مغلّس السقطى، وأحمد بن المقدام، وعبيد الله القواريرى، ومحمد بن زنبور المكى، ولُوين، ومحمد بن يحيى العدنى، والحميدى، وعبد الصمد بن يزيد مردويه، وعبدة بن عبد الرحيم المروزى، ومحمد بن أبى السرى العسقلانى، ومحمد بن قدامة المصّيصى، ويحيى بن أيوب المقابرى، وخلق كثير، آخرهم موتا الحسين بن داود البَلْخى. وروى عنه أيضا سفيان الثورى أجلُّ شيوخه، وبينهما فى الموت مائة وأربعون عاما.

ومن كلامه :

قال : أهل الفضل هم أهل الفضل ما لم يروا فضلهم. وكان يقول: من أحب أن يسمع كلامه إذا تكلم فليس بزاهد. وكان يقول: إذا اغتابك عدو فهو أنفع لك من الصديق، فإنه كلما اغتابك كان لك حسناته. وكان يقول: سيد القبيلة فى آخر الزمان منافقها، وهناك يحذر منهم لأنهم داء لا دواء له.

وكان يقول: ليس هذا زمان فرح إنما هو زمان غموم. وكان يقول: لكل شىء ديباجة وديباجة القراء ترك الغيبة. وكان يكره لقاء الإخوان مخافة التزين منه ومنهم.

وكان يسقى على الدوام وينفق من ذلك على نفسه وعياله، وكان يقول: إذ أحب عبداً أكثر غمه فى الدنيا –يقصد الله- وإذا أبغض عبداً وسع عليه دنياه . وكان يقول: لا ينبغى لحامل القرآن أن يكون له حاجة عند أحد من الأمراء والأغنياء، إنما ينبغى أن يكون حوائج الخلق إليه هو. وكان يقول: تباعد من القراء جهدك، فإنهم إن أحبوك مدحوك بما ليس فيك، وإن غضبوا شهدوا عليك زوراً وقُبل ذلك منهم.

وكان يقول: قراء الرحمن أصحاب خشوع وذبول، وقراء الدنيا أصحاب عجب وتكبر وازدراء للعامة. وكان يقول: الغيبة فاكهة القراء. واجتمع هو وشعيب بن حرب فى الطواف فقال: يا شعيب إن كنت تظن أنه شهد الموقف والموسم من هو شر منى ومنك فبئس ما ظننت. وكان يقول: ليس بأخيك من إذا منعته شيئاً طلبه غضب منك. وكان يقول: كان لقمان قاضياً على بنى إسرائيل مع كونه عبداً حبشياً، لصدقه فى الحديث وتركه ما لا يعنيه. وكان يقول: طول الصراط خمسة عشر ألف فرسخ فانظر يا أخى أى رجل تكون.

وسأله إسحاق بن إبراهيم أن يحدثه فقال له الفضيل : لو طلبت منى الدنانير لكان أيسر على من الحديث، ولو أنك يا مفتون عملت بما علمت لكان لك شغل عن سماع الحديث. وكان يقول عالِم الآخرة علمه مستور، وعالِم الدنيا علمه منشور، فاتبعوا عالِم الآخرة واحذروا عالِم الدنيا أن تجالسوه، فإنه يفتنكم بغروره وزخرفته، ودعواه العمل من غير عمل أو العمل من غير صدق. وكان يقول: لو أن أهل العلم زهدوا فى الدنيا لخضعت لهم رقاب الجبابرة وانقادت الناس لهم، ولكن بذلوا علمهم لأبناء الدنيا ليصيبوا بذلك مما فى أيديهم، فذلوا وهانوا على الناس، ومن علامة الزهاد أن يفرحوا إذا وصفوا بالجهل عند الأمراء ومن داناهم.

وقال عبد الصمد بن يزيد مردويه: سمعت الفضيل يقول: لم يتزين الناس بشيء أفضل من الصدق، وطلب الحلال، فقال ابنه على: يا أبة إن الحلال عزيز. قال: يا بنى، وإن قليله عند الله كثير.

قال سرى بن المغلس: سمعت الفضيل يقول: من خاف الله لم يضره أحد، ومن خاف غير الله لم ينفعه أحد .
وقال فيض بن إسحاق: سمعت الفضيل بن عياض ، وسأله عبد الله بن مالك : يا أبا على ما الخلاص مما نحن فيه ؟ قال : أخبرنى ، من أطاع الله هل تضره معصية أحد ؟ قال : لا . قال : فمن يعصى الله هل تنفعه طاعة أحد؟ قال : لا ، قال : هو الخلاص إن أردت الخلاص.

قال إبراهيم بن الأشعث: سمعت الفضيل يقول: رهبة العبد من الله على قدر علمه بالله، وزهادته فى الدنيا على قدر رغبته فى الآخرة، من عمل بما علم استغنى عما لا يعلم، ومن عمل بما علم وفَّقه الله لما لا يعلم، ومن ساء خلقه شان دينه وحسبه ومروءته.

وسمعته يقول: أكذب الناس العائد فى ذنبه، وأجهل الناس المُدِلّ بحسناته، وأعلم الناس بالله أخوفهم منه، لن يكمل عبد حتى يؤثر دينه على شهوته، ولن يهلك عبد حتى يؤثر شهوته على دينه.

وقال محمد بن عبدويه: سمعت الفضيل يقول: ترْك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله عنهما.

قال سَلْم بن عبد الله الخراسانى: سمعت الفضيل يقول: إنما أمس مثلٌ، واليوم عمل، وغدا أمل.

وقال فيض بن إسحاق: قال الفضيل: والله ما يحل لك أن تؤذى كلبا ولا خنزيرا بغير حق، فكيف تؤذى مسلما.

وعن فضيل: لا يكون العبد من المتقين حتى يأمنه عدوه .

وعنه: بقدر ما يصغر الذنب عندك يعظم عند الله، وبقدر ما يعظم عندك يصغر عند الله .

المفضل الجندى: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الطبرى، قال: ما رأيت أحدا أخوف على نفسه، ولا أرجى للناس من الفضيل. كانت قراءته حزينة، شهية، بطيئة، مترسلة، كأنه يخاطب إنسانا، وكان إذا مر بآية فيها ذكر الجنة يردد فيها وسأل، وكانت صلاته بالليل أكثر ذلك قاعدا، يُلقى له الحصير فى مسجده، فيصلى من أول الليل ساعة، ثم تغلبه عينه، فيلقى نفسه على الحصير، فينام قليلا، ثم يقوم، فإذا غلبه النوم نام، ثم يقوم، هكذا حتى يصبح. وكان دأبه إذا نعس أن ينام، ويقال: أشد العبادة ما كان هكذا.

موقف للفضيل مع هارون الرشيد:

حدث الفضل بن الربيع، قال: حج أمير المؤمنين -يعنى هارون- فقال لى: ويحك، قد حك فى نفسى شيء، فانظر لى رجلا أسأله. فقلت: هاهنا سفيان بن عيينة، فقال: امض بنا إليه، فأتيناه، فقرعت بابه، فقال: من ذا؟ فقلت: أجب أمير المؤمنين، فخرج مسرعا، فقال: يا أمير المؤمنين، لو أرسلت إلى أتيتك. فقال: خذ لما جئتك له، فحدثه ساعة، ثم قال له: عليك دَين. قال: نعم. فقال لى: اقض دينه، فلما خرجنا قال: ما أغنى عنى صاحبك شيئا. قلت: هاهنا عبد الرزاق. قال: امْضِ بنا إليه، فأتيناه، فقرعت الباب فخرج، وحادثه ساعة، ثم قال: عليك دين؟ قال: نعم. قال: أبا عباس، اقض دينه. فلما خرجنا قال: ما أغنى عنى صاحبك شيئا، انظر لى رجلا أسأله، قلت: هاهنا الفضيل بن عياض، قال: امض بنا إليه، فأتيناه، فإذا هو قائم يصلى، يتلو آية يرددها، فقال: اقرع الباب، فقرعت، فقال: من هذا؟ قلت: أجب أمير المؤمنين. قال: مالى ولأمير المؤمنين؟ قلت: سبحان الله! أما عليك طاعة، فنزل ففتح الباب، ثم ارتقى إلى الغرفة، فأطفأ السراج ثم التجأ إلى زاوية، فدخلنا، فجعلنا نجول عليه بأيدينا فسبقت كف هارون قبلى إليه، فقال: يا لها من كف ما ألينها إن نجت غدا من عذاب الله، فقلت فى نفسى: ليكلمنه الليلة بكلام نقى من قلب تقى، فقال له: خذ لما جئناك له -رحمك الله- فقال: إن عمر بن عبد العزيز لما ولى الخلافة دعا سالم بن عبد الله، ومحمد بن كعب، ورجاء بن حيوة، فقال لهم: إنى قد ابتليت بهذا البلاء، فأشيروا على. فعد الخلافة بلاء، وعددتها أنت وأصحابك نعمة. فقال له سالم: إن أردت النجاة ، فصمِ الدنيا وليكن إفطارُك منها الموت. وقال له ابن كعب: إن أردت النجاة من عذاب الله، فليكن كبير المسلمين عندك أبا، وأوسطهم أخا، وأصغرهم ولدا، فوقّر أباك، وأكرم أخاك ، وتحنن على ولدك. وقال له رجاء: إن أردت النجاة من عذاب الله، فأحبّ للمسلمين ما تحب لنفسك، واكره لهم ما تكره لنفسك، ثم مت إذا شئت، وإنى أقول لك هذا، وإنى أخاف عليك أشد الخوف يومًا تزل فيه الأقدام، فهل معك -رحمك الله- مَن يشير عليك بمثل هذا. فبكى بكاء شديدا حتى غشى عليه. فقلت له: ارفق بأمير المؤمنين، فقال: يا ابن أم الربيع تقتله أنت وأصحابك، وأرفق به أنا؟ ثم أفاق، فقال له: زدنى -رحمك الله- قلت: بلغنى أن عاملا لعمر بن عبد العزيز شُكى إليه، فكتب إليه: يا أخى أذكرك طول سهَر أهل النار فى النار مع خلود الأبد، وإياك أن ينصرف بك من عند الله، فيكون آخر العهد وانقطاع الرجاء، فلما قرأ الكتاب طوى البلاد حتى قدم عليه، فقال: ما أقدمك؟ قال: خلعت قلبى بكتابك، لا أعود إلى ولاية حتى ألقى الله، فبكى هارون بكاء شديدا فقال: يا أمير المؤمنين، إن العباس عم النبى جاء إليه فقال: أمّرْنى، فقال له (إن الإمارة حسرة وندامة يوم القيامة، فإن استطعت أن لا تكون أميرا فافعل). فبكى هارون، وقال: زدنى. قال: يا حسن الوجه أنت الذى يسألك الله عن هذا الخلق يوم القيامة، فإن استطعت أن تقى هذا الوجه من النار، فافعل، وإياك أن تصبح وتمسى وفى قلبك غش لأحد من رعيتك، فإن النبى قال (من أصبح لهم غاشا لم يَرح رائحة الجنة). فبكى هارون وقال له: عليك دَين؟ قال: نعم, دين لربى، لم يحاسبنى عليه، فالويل لى إن ساءلنى، والويل لى إن ناقشنى، والويل لى إن لم ألهم حجتى. قال: إنما أعنى من دَين العباد. قال: إن ربى لم يأمرنى بهذا، أمرنى أن أصدق وعده، وأطيع أمره، فقال ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ الآيات. فقال: هذه ألف دينار خذها، فأنفقها على عيالك، وتقوَّ بها على عبادة ربك. فقال: سبحان الله! أنا أدلك على طريق النجاة، وأنت تكافئنى بمثل هذا. سلمك الله، ووفقك. ثم صمت، فلم يكلمنا، فخرجنا، فقال هارون: أبا عباس، إذا دللتنى، فدلنى على مثل هذا، هذا سيد المسلمين.

أقوال العلماء فيه:

قال إبراهيم بن محمد الشافعى: سمعت سفيان بن عيينة يقول: فضيل ثقة. وقال العجلى: كوفى ثقة متعبد، رجل صالح، سكن مكة. وقال محمد بن عبد الله بن عمار: ليت فُضَيلا كان يحدثك بما يعرف، قيل لابن عمار: ترى حديثه حجة؟ قال: سبحان الله. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال النسائى: ثقة مأمون، رجل صالح. وقال الدارقطنى: ثقة.

وقال أبو وهب محمد بن مزاحم: سمعت ابن المبارك يقول: رأيت أعبد الناس عبد العزيز بن أبى روَّاد، وأورع الناس الفضيل بن عياض، وأعلم الناس سفيان الثورى، وأفقه الناس أبا حنيفة، ما رأيت فى الفقه مثله.

وروى إبراهيم بن شماس، عن ابن المبارك قال: ما بقى على ظهر الأرض عندى أفضل من الفضيل بن عياض.

قال النضر بن شميل: سمعت الرشيد يقول: ما رأيت فى العلماء أهيب من مالك، ولا أورع من الفضيل.

وعن الهيثم بن جميل قال سمعت شريكا يقول: لم يزل لكل قوم حجة فى أهل زمانهم، وإن فضيل بن عياض حجة لأهل زمانه، فقام فتى من مجلس الهيثم، فلما توارى، قال الهيثم: إن عاش هذا الفتى يكون حجة لأهل زمانه، قيل: من كان الفتى؟ قال: أحمد بن حنبل.

قال عبد الصمد مردويه الصائغ: قال لى ابن المبارك: إن الفضيل بن عياض صدق الله فأجرى الحكمة على لسانه ، فالفضيل ممن نفعه علمه.

وقال إبراهيم بن الأشعث: ما رأيت أحدا كان الله فى صدره أعظم من الفضيل، كان إذا ذَكر الله، أو ذُكر عنده، أو سمع القرآن ظهر، به من الخوف والحزن، وفاضت عيناه، وبكى حتى يرحمه من يحضره، وكان دائم الحزن، شديد الفكرة، ما رأيت رجلا يريد الله بعلمه وعمله، وأخذه وعطائه، ومنعه وبذله، وبغضه وحبه، وخصاله كلها غيره. كنا إذا خرجنا معه فى جنازة لا يزال يعظ، ويذكر ويبكى كأنه مودع أصحابه، ذاهب إلى الأخرة، حتى يبلغ المقابر; فيجلس مكانه بين الموتى من الحزن والبكاء، حتى يقوم وكأنه رجع من الآخرة يخبر عنها.

وقال فيض بن إسحاق: سمعت الفضيل يقول: والله لأن أكون ترابا أحب إلى من أن أكون فى مِسْلاخ أفضل أهل الأرض، وما يسرنى أن أعرف الأمر حق معرفته، إذا لطاش عقلى.

وقال إبراهيم بن الأشعث: سمعت الفضيل يقول: الخوف أفضل من الرجاء ما دام الرجل صحيحا، فإذا نزل به الموت فالرجاء أفضل. قلت: وذلك لقوله (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله).

قال أحمد بن حنبل: حدثنا أبو جعفر الحذاء، سمعت الفضيل يقول: أخذت بيد سفيان بن عيينة فى هذا الوادى، فقلت: إن كنت تظن أنه بقى على وجه الأرض شر منى ومنك، فبئس ما تظن.

قال عبد الصمد مردويه: سمعت الفضيل يقول: من أحب صاحب بدعة، أحبط الله عمله، وأخرج نور الإسلام من قلبه، لا يرتفع لصاحب بدعة إلى الله عمل، نظر المؤمن إلى المؤمن يجلو القلب، ونظر الرجل إلى صاحب بدعة يورث العمى، من جلس مع صاحب بدعة لم يعطَ الحكمة.

وعن الفضيل قال: المؤمن يغبط ولا يحسد، الغبطة من الإيمان، والحسد من النفاق. قلت: هذا يفسر لك قوله :لا حسد إلا فى اثنتين: رجل آتاه الله مالا ينفقه فى الحق، ورجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وأطراف النهار. فالحسد هنا معناه: الغبطة، أن تحسد أخاك على ما آتاه الله، لا أنك تحسده، بمعنى أنك تود زوال ذلك عنه، فهذا بغى وخُبث.

وفاته :

قال محمد بن سعد: انتقل إلى مكة ونزلها إلى أن توفى بالحرم الشريف فى أول سنة سبع وثمانين ومائة فى خلافة هارون، وكان ثقة نبيلا فاضلا عابدا ورعا، كثير الحديث.

ع صلاح