الأدب

 

يجد الباحث فى مضمار الصوفية أهل الذوق الرفيع عديد من الأمور الخاصة بتزكية النفس والأخلاق ذلك لأنها هى الوسيلة لفلاح الإنسان بالتقرب إلى مولاه، يقول الحق تبارك وتعالى فى محكم التنزيل ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى﴾ فتزكية النفس تؤدى إلى الفلاح، ومن حسن الخلق نجد الأدب قال الله تعالى ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ وقال باب مدينة علم رسول الله الإمام على فى هذه الآية: أى أدبوهم وعلموهم وقال النبى (أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم). رواه ابن ماجه. وقال النبى (لأن يؤدب أحدكم ابنه خير له من أن يتصدق بصاع طعام) فجعل تأديب الابن أعلى من الصدقة. حكاه ابن أبى جمرة فى شرح البخارى.

فائدة: قال الرازى فى قوله تعالى ﴿وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذونى﴾ الآية، نجد هناك عدة أسئلة:

الأول: أأنت استفهام وهو على الله لا يجوز لأنه علام الغيوب، جوابه أن الاستفهام بمعنى الإنكار..

الثانى: أنه سبحانه يعلم أن عيسى ما قال ذلك فيكتب يسأله جوابه أراد توبيخ النصارى، لأنهم يعتقدون أن عيسى خالق المعجزات والخالق إله..

الثالث: كيف جاز لعيسى مع جلالة قدره أن يقول وأن تغفر لهم مع أن الشرك لا يغفر، جوابه مذهب أهل السنة: لله تعالى أن يعذب الطائع ويثيب العاصى، لا يسئل عما يفعل.

قال الرازى: فى أول البقرة أوحى الله تعالى إلى إبليس من سرادقات الجلال: يا إبليس ما عرفتنى، ولو عرفتنى لعلمت أنه لا اعتراض على فى شىء من أفعالى، فإنى أنا الله لا إله إلا أنا لا أُسأل عما أفعل. جواب آخر: يجوز أن يكون عيسى جوز توبة بعضهم فطلب لهم المغفرة. جواب آخر: قال بعضهم أن الله تعالى قال له ذلك لما رفعه إلى السماء فيكون المعنى: إن توفيتهم على الكفر وعذبتهم فهم عبادك، وأنت الحاكم عليهم، وإن أخرجتهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان فغفرت لهم، فلك ذلك. ثم نقل الرازى عن والده أن العزيز الحكيم هنا أبلغ من الغفور الرحيم، لأن صفة المغفرة والرحمة تشبه الحالة الموجبة للمغفرة والرحمة لكل محتاج، والعزة والحكمة لا يوجبان ذلك بل يوجب كونه عزيزا أن يفعل ما يشاء وأن يكون متعاليا عن جميع جهات الاستحقاق، فإذا حكم بالمغفرة كان الكرم هنا أتم من الوصف بالمغفرة والرحمة. ورأيت فى تفسير القشيرى: فإنك أنت العزيز الحكيم أى المعز لهم بالمغفرة. ويقال إنك أنت العزيز الذى لا يضرك كفرهم، ويقال العزيز القادر على الانتقام، والعفو عند المقدرة صفة الكريم، ورأيت فى الوجوه المسفرة عن اتساع المغفرة: إنما قال إنك أنت العزيز الحكيم حياء من ربه أن يأتى بما فيه شفاعة لقوم عبدوا غير الله. قال الرازى: تعلم ما فى نفسى ولا أعلم ما فى نفسك أى تعلم ما عندى ولا أعلم ما عندك وقيل تعلم ما فى غيبى ولا أعلم ما فى غيبك والله اعلم. وقال إبراهيم وإذا مرضت فهو يشفين ولم يقل وإذا أمرضتنى أدبا مع ربه. كذلك النبى لما أحسن أدبه مع ربه حيث قال (إن الله معنا) فقدم اسم الله على اسمه عصم الله أمته من الشرك إلى يوم القيامة، بخلاف قوم موسى فإنهم ارتدوا عن دينهم إلى عبادة العجل، لأنه قدم اسمه على اسم الله تعالى حيث قال: كلا إن معى ربى.

وقال البونى: سمى نوح نوحا لأنه رأى كلبا ميتا فكرهه، فأوحى الله إليه هذا خلقنا فاخلق أنت مثله، فصار يبكى وينوح. وقال فى العقائق: أنه رأى كلبا له أربع عيون فاستقبحه، فقال يا نوح أتعيب الصنعة فلو كان الأمر إليه لم يكن كلبا، وأما الصانع فهو الذى لا يلحقه عيب، فصار يبكى وينوح...

حكاية: رأى رجل خنفساء فقال ما أراد الله بخلقها لا صورة حسنة ولا رائحة طيبة، فابتلاه الله بقرحة عجز عنها الأطباء، فحضر طبيب وقال ائتنونى بخنفساء، فأحرقها وجعل رمادها على القرحة فبرأ بإذن الله تعالى، فقال صاحب القرحة: أراد الله تعالى أن يعرفنى أن أقبح الحيوانات أعز الأدوية عندى...

فائدة: رأيت فى حياة الحيوان للدميرى: أن الاكتحال بما فى جوف الخنفساء ينفع من الرطوبة ويزيل الغشاوة عن العين، وإذا وضعت على لسعة العقرب أبرأتها والله أعلم...

عجيبة: قال مؤلفه رحمه الله تعالى رأيت الخنفساء تطرد العقرب وهى هاربة منها، ثم رأيت بعد ذلك فى نزهة النفوس والأفكار أن بينها وبين العقرب صداقة، وأهل المدينة المشرفة يسمونها جارية العقرب، ومن به فالج أو حمى عتيقة ولسعته عقرب زال عنه ذلك، ورماد العقرب الأسود إذا وضع على البرص معجونا بالحل زال عنه بإذن الله تعالى، وإذا علق الخنافس على أشجار قرية لم يقربها الجراد، وكان النبى إذا دعا على الجراد يقول (اللهم أهلك كباره واقتل صغاره وافسد بيضه وخذ بأفواهه عن معايشنا وأرزاقنا إنك سميع الدعاء) رواه ابن ماجه...

حكاية: لما اجتمع موسى والسحرة عند فرعون فى يوم الزينة وهو يوم عاشوراء - وقيل يوم عيدهم يوم السبت، وقيل يوم سوقهم، وقيل يوم الأضحى، وقيل يوم كسر النيل - قال رجل أعمى للسحرة وكان كبيرهم: أرى موسى يقوى علينا مع كثرتنا، وما ذلك بقوته وأخاف أن يكون الأمر سماويا، فاحترموه وعظموه، فإن غلبناه فلا يضرنا، وإن غلبنا فنكون قد قدمنا للصلح مقدمة، فيكون شفيعنا عند ربه. فقالوا: كيف نحترمه. قال: نستأذنه ونقول له إما أن تلقى وإما أن نكون أول من ألقى. فلما أحسنوا الأدب معه كان سببا لسعادتهم، فضحك موسى، فقال هاورن: أتضحك مع كثرتهم. وكانوا سبعين ألفاً وقيل سبعين ساحراً. فقال: شممت فيهم رائحة الإيمان. فلما قالوا: يا موسى إما أن تلقى وإما أن نكون أول من ألقى. سمع قائلا يقول: ألقوا يا أحباب الله. فعند ذلك أوجس فى نفسه خيفة موسى، لأن أولياء الله لا يغلبهم أحد، فلما غلبهم موسى سجدوا لربهم، وقالوا: آمنا برب هاورن وموسى. فرأوا فى سجودهم منازلهم فى الجنة... فائدة: إنما قدموا هارون على موسى فى الذكر لأنه أكبر بثلاث سنين، فبدوا بذكره تعظيما له كما قدم بنات شعيب ذكر الأبوة على الشيخوخة؛ حيث قالوا: وأبونا شيخ كبير. وكان أخاه من أمه وأبيه، وإنما قال: يا ابن أم. من باب التلطف. ومات هارون قبل موسى بثلاث سنين وكان أتم طولا وأكثر لحما وأبيض جسما وأفصح لسانا من موسى...

لطيفة: قرت عيون السحرة بسجدة واحدة فكيف بمن يسجد لله خمسين سجدة مثلا بتوفيق الله وفضله. قال فخر الدين: سجود سحرة فرعون من أعظم الدلائل على فضل العلم، لأنهم كانوا عالمين بحقيقة السحر، واقفين على منتهاه، فعرفوا أن معجزة موسى خارجة عن حد السحر، وإلا كانوا يقولون: لعله أكمل منا فى علم السحر.

سامر الليل

 

 

 

دلائل وعلامات

 

يروى عن بعض الحكماء أنه قال: إذا ظن بك الناس أنك تعمل عملاً من الخير ولست تعمله أو كنت تعمل عملاً من الخير وظنوا أنك تعمل أكثر منه ورفضت أن يطلعوا على حقيقة عملك فأنت ممن يحب أن يحمد بما لم يفعل، وإن أحببت أن يطلعوا عليه فأنت تحب أن تحمد بما قد فعلت.

وقال: علامة حب الله حب جميع ما أحب الله. وعلامة الخوف من الله ترك جميع ما كره الله. وعلامة الحياء من الله ألا تنسى الورود على الله، وأن تكون مراقباً لله فى جميع أمورك على قدر قرب الله تعالى منك واطلاعه عليك. ومن علامة حسن الظن بالله شدة الاجتهاد فى طاعته. وعلامة الناصح لله شدة الإقبال على الله وفهم كتابه والعمل به، واتباع سنن نبيه وأن يحب أن يُطاع فلا يُعصى وأن يُذكر فلا يُنسى. وعلامة النُّصح للناس أن تُحب لهم ما تُحب لنفسك من طاعة الله تعالى وأن تكره لهم ما تكره لنفسك من معصية الله تعالى. وعلامة الصبر ألا تشكو من جميع المصائب الى أحد من المخلوقين شيئاً. والصبر هو الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية، والصبر على كتمان المصيبة وهو من كنوز البر، والصبر على كتمان الطاعة، والصبر حبس النفس عن ذلك كله. ومن علامة الرضا عن الله الرضا بقضاء الله، وهو سكون القلب إلى أحكام الله والتفويض إلى الله قبل الرضا، والرضا بعد التفويض. ومن علامة صدق الرجاء شدة الطلب والجد والاجتهاد ليدرك ما رجاه. ومن علامة معرفة النفس سوء الظن بها. ومن علامة الشكر معرفة النعمة بالقلب أنها من الله لا من غيره، والحمد عليها باللسان، وألا يُستعان بها على شىء مما يكره المنعم.

قلت: فما تصديق معرفتى هذه؟

قال: القيام بالمكافأة بها، وإعطاء المجهود فى شكرها. ومن علامة معرفة الدنيا الترك لها والزهد فيها والوحشة منها، ومَن ركَن اليها وأحبها وآثرها عظّم قدْرها. ومن علامة معرفة الآخرة هيجان الرغبة فيها، وشدّة الشوق إليها والأُنس بكثرة ذكرها، ومؤانسة من صدق فى العمل لها. ومن علامة العقل حسن التدبير ووضع الأشياء مواضعها من القول والفعل، وتصديق ذلك إيثار الأكثر على الاقل. ومن علامة العدل ألا تجعل الحُكْم حُكمَين، فتحكم لنفسك بحكم وللناس بآخر، حتى يكون الحكم فى نفسك وفى غيرها حكماً واحداً، وإنصاف الناس من نفسك. ومن علامة التواضع ألا يدعوك أحد إلى حق إلا قَبلْته ولم ترده، ولا ترى أحداً من المسلمين إلا رأيت نفسَك دونه. والناس يتفاضلون فى المعرفة بالإيثار والرضا والشكر والحب والثقة، والخوف واليقين والصبر، وأدنى الدرجات الصبر وأكثرها كلها اليقين. ومن علامة حُسن الخُلُق احتمال الأذى فى ذات الله، وكظم الغيظ، وكثرة الموافقة لأهل الحق على الحق، والمغفرة والتجافى عن الزَلّة. ومن علامة سوء الخلق كثرة الخلاف وقلّة الاحتمال. ومن علامة الأُلفة قلّة الخلاف وبذل المعروف. وعلامة الصدق إرادةُ الله وحدَه بالعمل والقول، وترْك التزيّن، وحُب ثواب المخلوقين والصدق فى الُّنطق. وأطيب العيش القناعة، والعلم خَشية الله وهى ايثار الآخرة على الدنيا ومعرفة الطريق الى الله. وأشرُّ الشر الذى لا خير فيه ولا قَوام لخير معه الكِبْر. وخيرُ الخير الذى لا شر فيه التواضع، وهو أن تضَع نفسك دون الناس. والكِبْرُ أن ترفعها فوق الناس، وما خيْرَ لعبد آثر على التواضع شيئاً. والحزم الفرار من كل موضع فيه محنة. والصبر مخالفة المحبة، ولا يصعب مع قوة الصبر شىء من العبادة، حتى ترتفع من درجة الصبر الى درجة الخوف، ثم من درجة الخوف الى درجة المحبة.

وكما لا يطيب لعبد شىء أُعطيه من الدنيا إلا بالقنوع، كذلك لا يطيب له عمل الآخرة إلا بالخوف والمحبة، فإذا صار العبد إلى ذلك سقطت عنه مُؤنة الصبر، وتنعَّم بالخوف والشوق. وصلاحُ القلب الرأفة والرِقّة، وفسادُ القلب القسوة والغِلْظة. وألذ العيش الأُنس بالله. والأُنس اجتماع الهِمّة.

عبدالستار الفقى

 

 

من أراد الاستزادة فى هذا الموضوع فليتتبع صفحات الصوفية فى موقع الطريقة البرهانية.

أسرة التحرير