نشرنا فى صفحات القواطع عن موضوع القواطع عن المهيمن من كتاب المرشد الوجيز، وها نحن فى هذا الباب نستكمل الموضوع بجوانب أخرى تكمله حتى تعم الفائدة:

 

 

مجاهدة النفس

 

قال الله تعالى ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ قال الإمام القشيرى : الذين زَيَّنُوا ظواهرَهم بالمجاهدات حَسُنَتْ سرائرُهم بالمشاهدات، الذين شغلوا ظواهرهم بالوظائف أوصلنا إلى سرائرهم اللطائف، الذين قاسوا فينا التعبَ من حيث الصلوات جازيناهم بالطرب من حيث المواصلات، ويقال الجهاد فيه: أولاً بترك المحرَّمات، ثم بترك الشُّبُهات، ثم بترك الفضلات، ثم بقطع العلاقات، والتنقِّى من الشواغل فى جميع الأوقات، ويقال بحفظ الحواسُ لله وبِعَدُ الأنفاس مع الله.

وقل سيدى ابن عجيبة : المجاهدة على قدرها تكون المشاهدة، فمن لا مجاهدة له لا مشاهدة له، وبالمجاهدة تميزت الخصوص من العموم، وبها تحقق سير السائرين، فالعموم وقفوا مع موافقة حظوظهم، من الجاه والغنى وغيره والخصوص خالفوا نفوسهم ورفضوا حظوظهم، وخرقوا عوائدهم، فَخُرِقَتْ لهم العوائد، وانكشفت عنهم الحجب، وشاهدوا المحبوب، فجاهدوا أولاً فى ترك الدنيا، وتحملوا مرارة الفقر، حتى تحققوا بمقام التوكل، ثم جاهدوا فى ترك الجاه والرئاسة، فتحققوا بالخمول، وهو أساس الإخلاص، ثم جاهدوا فى مخالفة النفس، فَحَمَّلوها كل ما يثقل عليها، وأخرجوها من كل ما تهواه ويخف عليها، وارتكبوا فى ذلك أهوالاً وأحوالاً صِعَاباً، حتى ماتت نفوسهم مَوْتَاتٍ، فتحقق بذلك حياة أرواحهم، وأشرفت على البحر الزاخر، بحر التوحيد الخاص، فغابت ظلال الأكوان حين أشرقت شمس العيان، ففنى من لم يكن، وبقى من لم يزل، فدخلوا جنة المعارف، ولم يشتاقوا قط إلى جنة الزخارف، لأنها منطوية فيها، ولا بد من صحبة شيخ كامل، قد سلك هذه المسالك، يلقيه زمام نفسه، حتى يوصله إلى ربه، وإلا أتعب نفسه بلا فائدة.

وقوله تعالى ﴿وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ تهوينٌ وتسهيلٌ على السائرين أَمْرَ نفوسِهِمْ ومجاهدَتَها، إذا علموا أن الله معهم، هان عليهم كل صعب، وقَرُبَ كل بعيد. وبالله التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

فنجد من شروط المجاهدة أن تكون على يد شيخ كامل من شيوخ التربية، فلا يستطيع الإنسان أن يربى نفسه بنفسه أو كما يرى هو، بل لا بد من خبير عالم بالدروب وخبيئاتها، وفى ذلك قال سيدى الإمام فخر الدين :

إنى خبير فى دروب السالكين

وعن أبى سعيد الخدرى قال: سئل رسول الله عن أفضل الجهاد فقال: كلمة عدل عند سلطان جائر، فدمعت عينا أبى سعيد.

وعن أبى على الدقاق يقول: من زيّن ظاهره بالمجاهدة حسّن الله سرائره بالمشاهدة، قال الله تعالى ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وأعلم أن من لم يكن فى بدايته صاحب مجاهدة لم يجد من هذه الطريقة شمة.

وفى "التعرف لمذهب أهل التصوف" قالوا من المجاهدات: جمع الهمة وهو أن تكون الهموم كلها همّا واحدا وفى الحديث: من جعل الهموم همّا واحدا هَم المعاد كفاه الله سائر همومه ومن تشعبت به الهموم لم يبال الله فى أى أوديتها هلك، وهذه حال المجاهدة والرياضة، والجمع الذى يعنيه أهله هو أن يصير ذلك حالا له وهو أن لا تتفرق همومه فيجمعها تكلف العبد بل تجتمع الهموم فتصير بشهود الجامع لها هما واحدا ويحصل الجمع إذ كان بالله وحده دون غيره، والتفرقة التى هى عقيب الجمع هو أن يفرق بين العبد وبين همومه فى حظوظه وبين طلب مرافقه وملاذه فيكون مفرقا بينه وبين نفسه فلا تكون حركاته لها وقد يكون المجموع ناظرا إلى حظوظه فى بعض الأحوال، غير أنه ممنوع منها قد حيل بينه وبينها لا يتأتى له منها شىء وهو غير كاره لذلك بل مريد له لعلمه بأنه فعل الحق به واختصاصه له وجذبه إياه مما دونه.

ومن الأمور الهامة للمريد السالك طريق الحق والتى تعد من أهم المجاهدات هو أن يخالف نفسه ويحملها على ما تكره، ويخالف الشيطان فلا يقدر هذا الأخير إلى إمالته إليه أو يحيده عن طريق القوم، وقال سيدى شرف الدين البصيرى فى مخالفة النفس والشيطان فى قصيدته الشهيرة ببردة المديح أو البردة:

وخالف النفس والشيطان واعصهما           وإن هما محضاك النصح فاتهم

وقيل أن أصل المجاهدة وملاكها: فطم النفس عن المألوفات، وحملها على خلاف هواها فى عموم الأوقات، وللنفس صفتان مانعتان لها من الخير: إنهماك فى الشهوات، وامتناع عن الطاعات، فإذا جمحت عند ركوب الهوى وجب كبحها بلجام التقوى، وإذا حرنت عند القيام بالموافقات يجب سوقها على خلاف الهوى، وإذا ثارت عند غضبها، فمن الواجب مراعاة حالها، فما من منازلة أحسن عاقبه من غضب يكسب سلطانه بخلق حسن، وتخمد نيرانه برفق، فإذا استحلت شراب الرعونة فضاقت، إلا عن إظهار مناقبها والتزين لمن ينظر إليها ويلاحظها، فمن الواجب كسر ذلك عليها، وإحلالها بعقوبة الذل بما يذكرها من حقارة قدرها، وخساسة أصلها، وقذارة فعلها.

وجهد العوام فى توفية الأعمال وقصد الخواص إلى تصفية الأحوال فإن مقاساة الجوع والسهر سهل يسير، ومعالجة الأخلاق والتنقى من سفاسفها صعب شديد، ومن غوامض آفات النفس: ركونها إلى استحلاء المدح، فإن من تحسى منه جرعة حمل السموات والأرضين على شفرة من أشفاره، وأمارة ذلك: أنه إذا انقطع عنه ذلك الشرب آل حاله إلى الكسل والفشل.

وحكى عن بعض المشايخ يصلى فى مسجده فى الصف الأول سنين كثيرة، فعاقه يوماً عن الابتكار إلى المسجد عائق، فصلى فى الصف الأخير، فلم ير بعد ذلك مدة، فسئل عن السبب، فقال: كنت أقضى صلاة كذا، وكذا سنة صليتها وظنى أنى مخلص فيها لله، فداخلنى يوم تأخرى عن المسجد من شهود الناس إياى فى الصف الأخير نوع خجل، فعلمت أن نشاطى طول عمرى إنما كان على رؤيتهم فقضيت صلواتى.

فانظر يا أخى هذه القصة الأخيرة التى توضح ما مدى خطورة النفس وتملكها من العبد، فكانت شهوة حب المديح من الناس أفسدت عليه صلاته وحاله مع الله، بل جعلت من كل ما فعله فى الأيام السابقة شئ يندم على فعله وليس يفتخر به أو يحتسبه عند المولى تبارك وتعالى، فعلينا أن نحذر وننتبه إلى آفات النفس بمجاهدتها قدر جهدنا كى نتخلص من هذه العلل الباطنة، ونسأل الله أن يعيذنا منها أو يزيلها عنا إن كانت فينا بجاه حبيبه ومصطفاه وآل بيته الأكرمين رضوان الله عليهم أجمعين.

طالب الوصل