من أسرار الإسراء

 

كرم الله حبيبه المصطفى برحلة الإسراء والمعراج، هذا المعجزة كان فيها توطئة للتنظير بين شريعة الإسلام وشريعة موسى على عادة القرآن فى ذكر المثل والنظائر الدينية، ورمزا إلهيا إلى أن الله أعطى محمدا من الفضائل أفضل مما أعطى من قبله، وأنه أكمل له الفضائل فلم يفته منها فائت. فمن أجل ذلك أحله بالمكان المقدس الذى تداولته الرسل من قبل، فلم يستأثرهم بالحلول بذلك المكان هو مهبط الشريعة الموسوية، ورمز أطوار تاريخ بنى إسرائيل وأسلافهم، والذى هو نظير المسجد الحرام في أن أصل تأسيسه فى عهد إبراهيم كما ورد عند تفسير قوله تعالى ﴿إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى﴾ الإسراء 1، فأحل الله به محمدا بعد أن هُجِرَ وخُرِّب إيماءً إلى أن أمته تجدد مجده. وأن الله مكنه من حرمى النبوة والشريعة، فالمسجد الأقصى لم يكن معمورا حين نزول هذه السورة وإنما عُمِّرت كنائس حوله، وأن بنى إسرائيل لم يحفظوا حرمة المسجد الأقصى، فكان إفسادهم سببا فى تسلط أعدائهم عليهم وخَرَاب المسجد الأقصى. وفي ذلك رمز إلى أن إعادة المسجد الأقصى ستكون على يد أمة هذا الرسول الذى أنكروا رسالته.

ومن أسرار الإسراء أن الحق سبحانه فرض على حبيبه ومصطفاه خمسين صلاة فى اليوم والليلة، وعند مروره بسيدنا موسى سأله: ما فرض الله على أمتك؟ فقال: خمسين صلاة، فقال سيدنا موسى: ارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك، فرجع الحبيب، فحط المولى منها خمس، ومازال الحبيب يتراوح بين سيدنا موسى والحق سبحانه وتعالى حتى وصلت إلى خمس صلوات، ولما أراد سيدنا موسى أن يخفف الخمس، أجابه بأنه قد استحى من ربه.

وهنا لطيفة: لمن يدعى أن الأحياء لا ينتفعون بالأموات، فهذا دليل صريح على انتفاع الأحياء بالأموات، فسيدنا موسى نفع الأمة المحمدية بأسرها من حيث تخفيف الصلاة ... فهل سيدنا موسى كان حياً أم ميتاً؟!!

وبعد الرحلة يتجه الحبيب المحبوب إلى بيت الله الحرام فيأتيه أبو جهل ويقول: هل من نبأ جديد؟ فقال الحبيب: نعم، لقد أسرى بى الليلة إلى بيت المقدس قال أبو جهل متعجباً: وأصبحت بين ظهرانينا؟ فقال الحبيب: نعم، قال أبو جهل: أتحدث القوم بما حدثتنى؟ قال صلوات ربى وسلامه عليه: نعم، فنادى أبو جهل فى الناس، يا بنى فهر، يا بنى مضر، يا بنى كنانة، فاجتمع العرب، فقال أبو جهل لهم: انظروا إلى صاحبكم ماذا يقول، وكرر عليه نفس الأسئلة عن النبأ الجديد، والناس ما بين مصدق ومكذب، وكل من كذبوا الحبيب فى ذلك الوقت ارتدوا كفاراً بعد ذلك وضُربت أعناقهم فى حروب الردة، ثم توجه أبو جهل إلى سيدنا أبو بكر قائلاً: يزعم صاحبكم أنه ذهب إلى بيت المقدس فى بعض ليلة وأصبح بين ظهرانينا، فرد عليه سيدنا أبو بكر قائلاً: أو قال ذلك؟ فقال أبو جهل: نعم، فقال الصديق: لقد صدق، أنا أصدقه فى أبعد من ذلك، أصدقه فى خبر السماء.

ثم أن قبائل قريش طالبوا الحبيب بالدليل والبينة، طالبوه أن يصف لهم بيت المقدس، لأن الحبيب لم يخرج من بينهم إلى بيت المقدس، فأتى سيدنا جبريل بالبيت أمام رسول الله ، وفى رواية كشف الله له ما بينه وبين بيت المقدس فرآه ومضى فى وصفه بجميع العلامات المميزة فيه، وصفاً دقيقاً يُعجزهم عن تكذيبه، وصدق الحق سبحانه ﴿أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى النجم 12.

وهنا لطيفة ثانية: فنجد صنف من الناس سيماهم التكذيب حتى لو هناك أدلة وصنف آخر سيماهم التصديق دون طلب أدلة وصدق الحق سبحانه ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ المرسلات 15.

ونختم بلطيفة دقيقة عجيبة؛ ألا وهى: عندما تحدث الحبيب صلوات ربى وسلامه عليه مع سائر الناس فى موضوع الإسراء والمعراج لم يحدثهم إلا فى الشق الأول من الرحلة ألا وهو الإسراء، لأنهم ليسوا أصحاب عقيدة فى الله ورسوله وطالبوه بإقامة البينة فأقامها عليهم بوصفه الدقيق لبيت المقدس، وليس هذا فحسب وإنما أخبرهم عن قافلة فى مكان ما وستدخل مكة فى يوم كذا ويتقدم القافلة جمل أوصافه كذا وكذا.

وعندما انفرد بصحابته حدثهم بما هو أشد من ذلك من الرحلة وهو المعراج، لأن رحلة المعراج تحتاج لأصحاب عقائد صالحة فى رسول الله لكى يصدقوا بقلوبهم وليس بعقولهم.

ولما انفرد بخاصة صحابته أسرهم بالرؤية الإلهية، ففيما أخرج الإمام أحمد والترمذى والنسائى والبزار والدارمى عنه أنه قال (رأيت ربى فى أحسن صورة)، وأيضاً عندما سأله سيدنا أبو ذر هل رأيت ربك؟ فقـال الحبيب (قد رأيته نورا أنى أراه) و"قد" هنا تحقيقية، وقد أورد الإمام الطبرى فى تفسيره عن عباد بن منصور قال: سألت عكرمة عن قوله تعالى ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى النجم 11، قال: أتريد أن أقول لك قد رآه؟ نعم قد رآه ثم نعم قد رآه حتى ينقطع النفس، وما أخرجه ابن جرير الطبرى فى جامع البيان عن سيدنا عبد الله بن عباس أنه قال فى قوله تعالى ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى، رأى محمد ربه، وفيما أخرج الإمام مسلم فى صحيحه باب معرفة طريق الرؤية فى حديث طويل نذكر أوله، عن عطاء بن يسار عن أبى سعيد الخدرى أن ناساً فى زمن رسول الله قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال رسول الله (نعم) قال (هل تضارون فى رؤية الشمس بالظهيرة صحواً ليس معها سحاب، وهل تضارون فى رؤية القمر ليلة البدر صحواً ليس فيها سحاب؟ قالوا لا يا رسول الله، قال ما تضارون فى رؤية الله تبارك وتعالى يوم القيامة إلا كما تضارون فى رؤية أحدهما إذا كان يوم القيامة ...).

ولما لا وقد قال الحق تبارك وتعالى عن رؤية البشر له سبحانه ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ القيامة 22، 23، وإذا كانت الرؤية هنا فى الآخرة لسائر البشر فما بالكم بسيد البشر، وإذا قال أحد أن هذا يتعارض مع قول الحق سبحانه ﴿لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ الأنعام 103، فقد نهى الحق سبحانه عن رؤيته بالبصر ولم ينه عن رؤيته بالبصيرة.

وصدق الإمام فخر الدين حين قال:

فى كل حين لنا فى المصطفى أمل            حتى إذا حانت الإسرا يسرينا

التلميذ

 
 

ومن أراد الاستزادة فليطلع على موقع النبى

أسرة التحرير