الحق فى الله

 

أصبحت الإنسانية اليوم تعيش على بركان ملتهب بسبب الطمع فى ثروات الآخرين وعدم الاعتراف بهم والجشع والأنانية وحب الذات والكذب والخيانة ولماذا كل هذا؟ للسيطرة والهيمنة وإذلال الآخرين ومحاولة محوهم.

ولم تعرف البشرية على مدار مراحل تاريخها منذ هبوط سيدنا آدم عيه السلام الى الأرض حتى يومنا هذا ديناً مثل الإسلام، كرمها ورفع قدرها وأعلى من شأنها، ومنع استبداد الإنسان القوى بأخيه الضعيف وقهره، فعندما بعث الحبيب المصطفى الخاتم كانت الإنسانية تعانى من التمزق والتفسخ الاجتماعى والانحلال الأخلاقى والفوضى والفساد، واقتضت مشيئة الرحمن عنئذ أن يبعث نبيه الخاتم الذى على يديه تحرر العقل من ذل الهوى والإنسان من ظلم أخيه الإنسان، فكان ميلاده ايذاناً ببزوغ شمس الحرية والحق والعدل على الكون بأسره وامتن الله عز وجل على البشريه عنئذ بقوله مخاطباً حبيبه ومصطفاه ﴿وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون الأنفال :33. فحقوق الإنسان لم تُعرف ولم تُطبق بشكل حقيقى وفعلى إلا على أرض الإسلام، أما فى غير دول الإسلام فلم تطبق وبقيت مجرد نظريات تكتب ولم تتجاوز القرطاس، فأعظم حقوق منحت للإنسانية هى الحقوق التى تضمنتها مبادئ الإسلام الحنيف وتعاليمه السمحه وتلك الحقوق تتميز بالكمال وبكافة صفات مُشرعها وهو الله رب العالمين العالم بأسرار الكون. فهى رسالة إنسانية عالمية صالحة لكل زمان ومكان. وأبرع تحديد وتوضيح لسابق الحديث هو قول صحابى جليل وهو جعفر بن أبى طالب حين قال للنجاشى عن واقع العرب بل الإنسانية قبل وبعد الإسلام "كنا قوم جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتى الفواحش ونقطع الأرحام ونسئ الجوار ويأكل القوى منا الضعيف حتى بعث الله الينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا الى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان، فأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات، فصدقناه وآمنا به، فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا الى عبادة الأوثان وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا الى بلادك ورغبنا جوارك ورجونا ألا نُظلم عندك". فما أبلغها من كلمات تجلَّى بين ثناياها ما جاء به الإسلام من حفظ وصيانة للحقوق. فالحق ليس منحة أو هبة من حاكم ولكنه منزل من السماء بتشريع إلهى مسجل فى القرآن الكريم ومتمثِّل فى النبى ، أقواله، أفعاله وكل ما يصدر عنه فكان قرآنا يمشى على الأرض، وهو دستور دائم أبدى لكل عقلاء الإنسانية فى أى زمان ومكان، فالحق اسم من أسماء الله الحسنى ليرفع الله من قيمته، فمن صفاته العليا تحقيق الحق على وجه الأرض. ونحن اذ نتحدث عن الإسلام، وهى كلمة جامعة شاملة مانعة فهى جامعة وشاملة للسنة النبوية المفسرة للقرآن والمقررة لأحكام لم ترد فى القرآن ولذلك فهى مكمَّلة، وكلمة شاملة أيضًا لأقضية الصحابة الكرام والتابعين وتابعى التابعين والأئمة العارفين... أجمعين على الهدى القرآنى السليم والنبوى الشريف، ومانعة لكل ما لا يمت للإسلام بشىء من بدع وأهواء ومُحدِثات.   

 عن ابى امامة الحارثى أن النبى قال (من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله بها النار وحرم عليه الجنة) فقال له رجل: وان كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟ قال (وان كان قضيبًا من أراكٍ). الامام أحمد فى باقى مسند الانصار ومسلم فى صحيحه والامام مالك فى الموطأ والنسائى فى سننه كتاب آداب القضاه.

ويقول الإمام زين العابدين "وأما حق أهل ملتك عامة: فاضمار السلامة، ونشر جناح الرحمة، والرفق بمسيئهم، واستصلاحهم، وشكر محسنهم الى نفسه، وإليك، فإن احسانه إلى نفسه احسان إليك، إذ كف عنك أذاه، وكفاك مؤونته، وحبس عنك نفسه، فعُمهم جميعًا بمودتك، وانصرهم جميعًا بنصرتك، وأنزلهم جميعًا منازلهم: كبيرهم بمنزلة الوالد، وصغيرهم بمنزلة الولد، وأوسطهم بمنزلة الأخ، فمن أتاك تعاهدته بلطف ورحمة، وصل أخاك بما يجب للأخ على أخيه".

فالإسلام قد سبق النظم التشريعية العالمية بمئات السنين بتشريع إلهى خالد شامل الدنيا والآخرة ومتضمنًا للحقوق الإنسانية الواجبة التطبيق، فالدعوة الإسلامية تدعو للوحدة العالمية لجميع أبناء البشر المبنية على الأخوة الإنسانية التى ترفض إستعباد الشعوب والدول لبعضها البعض على أساس عنصرى أو مذهبى. وقد توفى رسول الله وما طائر يقلب جناحيه فى السماء إلا وذكر للأمة منه علما، وعلمهم كل شىء، وعرفهم من طرق الخير والشر دقيقها وجليلها ما لم يُعَرِّفه نبى لأمته قبله، وبالجملة فجاءهم بخير الدنيا والآخرة برمته، ولم يحوجهم الله إلى أحد سواه، فكيف يُظَن أن شريعته الكاملة التى ما طرق العلم شريعة أكمل منها ناقصة تحتاج إلى سياسة خارجة عنها تكملها.

والنصوص الحديثية الفقهية كثيرة ومتعددة تدل دلالة واضحة على سعة الحقوق فى الإسلام لخلق الله أجمع ولكن الله كرم الإنسان أعظم تكريم وفضله على سائر خلقه ﴿ولقد كرمنا بنى آدم وحملناهم فى البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا الاسراء :70. فهو حجر الزاوية فى بناء أى حضارة أو تنمية، فالحق فى الإسلام ليس منحة من حاكم أو تشريعًا من منظمة دولية أو قرارًا صادرًا من سلطة محلية، وإنما هو تنزيل إلهى من مانحه الله رب العالمين.

وبشهادة المجتمع الدولى الذى لم يفعل سوى ترديد بعض الحقوق التى وضعها الإسلام قبل ذلك بمئات السنين؛ فقد قال أحد خبراء القانون الدولى (ان استفادة العالم كله من الشريعة الإسلامية فى مجالين رئيسين لم يصل القانون الدولى حتى الآن إلى المستوى المأمول فيها، فى حين سبقت الشريعة الإسلامية وما زالت تسبق وهما: المجال الأول، هو اعتبار الفرد شخصًا قانونيًا دوليًا، والمجال الثانى، هو تلقيح المبادئ الأخلاقية والمثالية لشريعة القانون الدولى، ففى كل من المجالين نجد فى الشريعة الإسلامية أحكامًا متقدمة نحتاج إلى الاستعانة بها كلما أردنا أن نعيد النظر فى قوانيننا وأن نطور أحكامها لتكون أكثر عدالة وأكثر فعالية، بالإضافة إلى العديد من الاسهامات التشريعية الإسلامية فى جعل حقوق الناس أكثر عمقًا وتحديدًا وأقدر على النفاذ فى القانون الدولى المعاصر)، ولذلك قال برناردشو الفيلسوف الانجليزى (لو كان محمد بن عبد الله حيًا وبيده كتابه لقاد سفينة المجتمع الإنسانى إلى شاطئ الأمان وبر النجاة). والأمثلة من هذا القبيل لا حصر لها.

وحتى يكون ضياء الحق للعين ظاهر، لنرى الحقوق التى شرعها الإسلام لمعتنقيه ومواطنيه على السواء، من الحرية والعدالة والمساواة والديمقراطية والأمن والأخوة والتعاضد والتى تطبق على الصغير والكبير، الرجل والمرأة، السيد والمسود، وعلى الحاكم والعامة والخاصة وعلى المسلم وغير المسلم، نذكر بعض الوثائق التى تدل على هدى الحقوق والواجبات فى الإسلام على سبيل المثال والعظة وليس الحصر والسرد، فمنها:

دستور المدينة بعد هجرة النبى المكتوب بينه وبين أهلها، كان بمثابة معاهدة أو وثيقة سُميت بدستور المدينة كتبها الرسول لأهل المدينة والمهاجرين واليهود عند بدء قيام الدولة الإسلامية نصت صراحة على الأمن بمختلف أوجهه وأشكاله ووزعت الحقوق والواجبات على سكان المدينة بالعدل والمساواة والحرية وأعطت الحقوق للمسلم ولغير المسلم، وتعتبر أول وثيقة للحقوق المتكاملة فى التاريخ على الاطلاق من خلال 47 بندًا ونص البند الأخير منها على الآتى "وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم وأنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم وأثم، وأن الله جار لمن برَّ واتقى ومحمد رسول الله...". وحُررت فى يثرب فى السنة الاولى من الهجرة.

وكذلك من أهم الأمثلة للحق فى الله، خطب الوداع، فكان للنبى عدة خطب فى حجة الوداع منها ما هو فى عرفة ومنى والمزدلفة وفى بقية المناسك وتشمل توجيهات إسلامية عظيمة وحقوقًا إسلامية شاملة كافة البشر بدون تفرقة وتعتبر بمثابة تركيزا دقيقا بكل ما جاء به الإسلام.

أيضا ما يدل على ذلك معاهدة الرسول لأهل نجران اليمنيين المسيحين والتى أعطتهم وأكدت الحرية الدينية والمساواة والعدالة وحماية شعائرهم الدينية ومعابدهم وأموالهم وفيها يقول رسول الله (لنجران وحاشيتها جوار الله وذمة محمد النبى رسول الله على أموالهم وأنفسهم وملتهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم وبيعهم -أى كنائسهم- وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير ولا يغير أسقف من أسقفيته ولا راهب من رهبانيته ولا كاهن من كهانته)...

أيضا من وصايا سيدنا الامام على ما يؤكد الحقوق الفسيحة المعطاه للناس وتؤكد بأن الحق والواجب وجهى العملة لا انفصام بينهما، ففى جزء من خطبه جامعة له قال "أما بعد فقد جعل الله سبحانه لى عليكم حقاً ولكم على من الحق مثل الذى لى عليكم؛ جعل سبحانه من حقوقه حقوقًا افترضها لبعض الناس على بعض، فجعلها تتكافأ فى وجوهها ويوجب بعضها بعضًا، ولا يستوجب بعضها الا ببعض، وأعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق: حق الوالى على الرعية وحق الرعية على الوالى فريضة فرضها الله سبحانه لكل على كل، فجعلها نظاماً لألفتهم وعزاً لدينهم، فليست تصلح الرعية الا بصلاح الولاة، ولا يصلح الولاة الا باستقامة الرعية، فإذا أدت الرعية الى الوالى حقة وأدى الوالى اليها حقها، عز الحق بينهم وقامت مناهج الدين .. فصلح بذلك الزمان وطمع فى بقاء الدولة ويئست مطامع الأعداء، واذا غلبت الرعية واليها أو أجحف الوالى برعيته، اختلفت هنالك الكلمة وظهرت معالم الجور وكثُر الإدغال فى الدين -أى كثر إدخال ما يفسد الدين-...).

ووثيقة سيدنا عمر بن الخطاب وهى وثيقة الأمان التى استلم بها القدس الشريفة من بين أيدى حكامها فنجد فيها العديد من الإنسانيات فى وقت السلم والحرب ولغير المسلمين فى بلاد الإسلام وهى رائعة ومتكاملة، أعطاهم بموجبها الأمان على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها.

ووثيقة ثانية للفاروق يؤكد فى كتابه إلى عبد الله بن قيس المشهور بأبى موسى الأشعرى، عندما أراد أن يوله القضاء، فنجد فى هذا الكتاب مختلف حقوق الرعية وضرورة عدم المساس بها أياً كانت قائلاً "بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس، سلام عليك، أما بعد، فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة فافهم اذا أولى اليك، فانه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، آس -سوى- بين الناس فى مجلسك ووجهك حتى لا يطمع شريف فى حيفك -ظلمك- ولا ييئس ضعيف من عدلك، البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين الناس الا صلحًا أحل حرامًا أو حرّم حلالا، ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس فراجعت فيه نفسك وهُديت لرشدك ان ترجع الى حق، فان الحق لا يبطله شئ، واعلم أن مراجعة الحق خير من التمادى فى الباطل...".

وخطبة سيدنا أبى بكر الصديق خليفة رسول الله عقب البيعة واختياره بالنهج الإسلامى القويم الذى يؤكد على كرامة وحرية الإنسان وحقوقه العامة والخاصة -اى حقه فى الله- فيقول "أما بعد، أيها الناس: فإنى قد وُليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينونى وان أسأت فقومونى، الصدق أمانة والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوى عندى حتى أريح عليه حقه -أى حتى أرد عليه حقه- والقوى منكم ضعيف عندى حتى آخذ الحق منه ان شاء الله... أطيعونى ما أطعت الله ورسوله فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لى عليكم ...".

فما أعظم هؤلاء ويا لعظمة أقوالهم! وذاك قطرة من بحر، فلن ينتهى الحديث أبدا اذا تدارسنا القرآن والسنة ومواقف وأقوال الصحابة والعلماء الأجلاء خلفائه وورثته فَهُم مؤسسى دولة الحق فى كل الأزمنة والأمكنة المختلفة ومقيمى مجتمع التفاضل والحب والإخاء، بل كلما نتحدث سنشعر بالتقصير لعدم استطاعتنا وقدرتنا على الإلمام الكامل بهذا الإعجاز فهو قوام الطريق.. ومن هنا يتضح الفرق الواضح بين بعض الوثائق الإسلامية الواضحة الجلية وبين ما يسمونه المواثيق الدوليه فى مجالات حقوق الإنسان ولنرى عظمة وسمو الإسلام فى السبق بمئات السنين فى التشريع والدعوة (للحق فى الله) والتى لا يمكن أن ينكرها إلا جاحد أو جاهل.

فحقًا لقد أظلنا زمان اختلط المعقول بالمنقول فحار أرباب الألباب، فذا شح مطاع وهوى متبع وإعجاب كل ذى رأى برأيه، كما قال الإمام فخر الدين:

مِنْ عَجِيبِ الْعُجَابِ فِى أَهْلِ عَصْرِى

 

أَنَّ مَـنْ يَجْهَلِ النَّصِـيحَةَ يُسْـدِى

فاطمة الزهراء

 

 

 

من لطائف الحب

 

سمعت أخى أفضل الدين يقول: من ألطف الحب سكرات الحب، والانشغال بالحب عن متعلقه، كما حكى ان ليلى جاءت إلى مجنونها وهو يصيح: ليلى ليلى. وياخذ الثلج فيضعه على فؤاده فيذوب من حرارة فؤاده، فسلمت ليلى عليه وهو فى ذلك الحال، وقالت له: أنا محبوبك، أنا مطلوبك، أنا قرة عينك، أنا ليلى. فقال: إليك عنى فإن مشغول بحب ليلى عنك.

وسمع سيدى على الخواص يقول: ألطف ما فى الحب ما وجدته فى نفسك من الشوق المفرط، والشوق المقلق، متى منعك ذلك النوم ولذة الطعام، ولا تدرى ذلك الحب فيمن؟ ولا يبتغى لك المحبوب، فإن من ذلك تترقى إلى محبة الله عز وجل المطلقة.

ومن أصعب ما فى الحب أن يصير المريد يحب الهجر ويتلذذ به، إذا علم أن شيخه يحب هجره، لأن تخليص حظ النفس من حظ الشيخ عسر جدا، وحاصله ان المريد يحب الهجر من حيث كونه محبوبا لشيخه، لا من حيثية أخرى لأن الحب للشيخ.

نادية

 

 

من أراد الاستزادة فى هذا الموضوع فليتتبع صفحات الصوفية فى موقع الطريقة البرهانية.

أسرة التحرير