كان .. ما .. كان

سيدنا موسى 5

 

انتهينا فى المرة السابقة عند استعداد سيدنا موسى للذهاب إلى فرعون .. فلما قدم سيدنا موسى بلاد مصر، وقابل أمّه وأخاه وقال سيدنا موسى: يا هارون، إن ربى قد أمرنى أن آتى فرعون فأدعوه إلى الله، وأمر أن تعاوننى، قال: افعل ما أمرك ربك، فذهبا إلى فرعون وسأله فرعون من أنت؟ قال سيدنا موسى: أنا رسول رب العالمين، فتأمله فرعون فعرفه وقال ﴿أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ • وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِى فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ الشعراء 26 :18-19. فقال سيدنا موسى: لم أُرِد بذلك القتل، ثم أخذ سيدنا موسى يناصحه ويلين له القول لعله يتذكر أو يخشى ويرجع إلى ربه ورب العالمين ولكنه لم يرتدع .. أخيرا قال سيدنا موسى ﴿أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَىْءٍ مُبِينٍ﴾ الشعراء 26 :30، فقال له فرعون ﴿فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ الشعراء 26 :31، فألقى عصاه فإذا هى ثعبان مبين، فبهر العقول والأبصار من الضخامة والهول والمنظر العظيم الباهر حتى قيل إن فرعون لما شاهد ذلك وعاينه أخذه رهب شديد وخوف عظيم بحيث إنه حصل له إسهال عظيم أكثر من أربعين مرة فى يوم واحد وكان قبل ذلك لا يتبرز إلا مرة واحدة كل أربعين يوما، أى إنعكس عليه الحال، ثم أدخل سيدنا موسى يده فى جيبه واخرجها فهى كفلقة القمر تتلألأ نورا يبهر الأبصار، وبدلاً من أن يؤمن بسيدنا موسى قال ﴿إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ • يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ • قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِى الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ • يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ﴾ الشعراء 26 :34-37. واتفقوا على يوم الزينة وكان يوم عيد من أعيادهم يجتمع فيه أكبر حشد من الناس.

وعند لقائهم تقدم سيدنا موسى إلى السحرة فوعظهم وزجرهم عن تعاطى السحر الباطل الذى فيه معارضة لآيات الله، فاختلفوا فيما بينهم أن هذا كلام نبى وليس بساحر ورأى آخر بأنه سحار عظيم والغريب هنا أن منهم من أوشك أن يؤمن بسيدنا موسى وأن نقاشهم مع بعضهم أدى إلى قلقهم من سيدنا موسى ويظهر ذلك فى قوله سبحانه وتعالى ﴿قالوا يا موسى إما أن تلقى وإما أن نكون أول من ألقى﴾ وكان ذلك تأدبا وخوفا أن يكون صادقا. وعلى أى حال فقد انتهوا أن ألقوا ما معهم من السحر فسحروا أعين الناس بسحرهم الكاذب ثم ألقى سيدنا موسى عصاه فلما ألقاها صارت حية عظيمة ذات قوائم -فيما ذكره غير واحد من علماء السلف- وعنق عظيم وشكل هائل مزعج بحيث إن الناس انحازوا منها وهربوا سراعا وتأخروا عن مكانها وأقبلت هى على ما ألقوه من الحبال والعصى فجعلت تلقفه واحدا واحدا أسرع ما يكون من الحركة والناس ينظرون إليها ويتعجبون منها وأما السحرة فإنهم رأوا ما هالهم وحيرهم فى أمرهم واطلعوا على أمر لم يكن فى خلدهم ولا بالهم ولا يدخل تحت صناعتهم وأشغالهم فعند ذلك وهنالك تحققوا بما عندهم من العلم أن هذا ليس بسحر ولا شعوذة ولا ضلال بل حق لايقدر عليه الا الحق الذي ابتعث هذا المؤيد به الحق وكشف الله عن قلوبهم غشاوة الغفلة وأنارها بما خلق فيها من الهدى وأزاح عنها القسوة وأنابوا إلى ربهم وخروا له ساجدين وقالوا جهرة للحاضرين ولم يخشوا عقوبة ولا بلوى وقالوا آمنا برب العالمين، وتوعدهم فرعون بالتنكيل بهم وتعذيبهم ولكن إيمانهم حال بينهم وفرعون، وبدلا من أن يؤمن قال: إنه لكبيركم الذى علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم فى جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى. قالوا: لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذى فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضى هذه الحياة الدنيا، إنا آمنا بربنا ليغفرلنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى، إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا، ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى، جنات عدن تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى.

قال سعيد بن جبير وعكرمة والقاسم بن أبي بردة والأوزاعى وغيرهم: لما سجد السحرة رأوا منازلهم وقصورهم في الجنة تهيأ لهم وتزخرف لقدومهم ولهذا لم يلتفتوا إلى تهويل فرعون وتهديده ووعيده. والظاهر من هذه السياقات أن فرعون صلبهم وعذبهم قال عبد الله بن عباس وعبيد بن عمير: كانوا من أول النهار سحرة فصاروا من آخره شهداء بررة! ويؤيد هذا قولهم ﴿ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين﴾.

ولنا وقفة هنا: فعلى كل مسلم أن لا يكون من المكذبين المعاندين الذين لا يرجعون إلى الحق ولو رأوه، حتى لا يؤول مآله مآل فرعون ولننظر قوله سبحانه فى سورة المرسلات ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ وليس للكاذبين.

نرجع لقصتنا ..

﴿وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين • قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم فى الأرض فينظر كيف تعملون﴾

وقال الله تعالى في سورة حم المؤمن ﴿ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين • إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب﴾ وكان فرعون الملك وهامان الوزير وكان قارون إسرائيليا من قوم موسى إلا أنه كان على دين فرعون وملئه وكان ذا مال جزيل جدا كما ستأتى قصته فيما بعد إن شاء الله تعالى.

﴿فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم وما كيد الكافرين إلا فى ضلال﴾ وهذا القتل للغلمان من بعد بعثة موسى إنما كان على وجه الإهانة والإذلال والتقليل لملأ بنى إسرائيل لئلا يكون لهم شوكة يمتنعون بها ويصولون على القبط بسببها وكانت القبط منهم يحذرون فلم ينفعهم ذلك ولم يرد عنهم قدر الذى يقول للشىء كن فيكون. ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِى أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّى أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِى الْأَرْضِ الْفَسَادَ غافر 26. وهذا شأن المفسدين فى الأرض فى جميع العصور فإنهم يلبسون ثياب الناصحين ويلوون بألسنتهم وكأنهم هم المصلحون... فإن فرعون فى زعمه خاف على الناس أن يضلهم موسى! واستعاذ سيدنا موسى بربه ﴿وَقَالَ مُوسَى إِنِّى عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ﴾ غافر 27.

وهنا تأتى قصة مؤمن أهل فرعون الذى كان يكتم إيمانه، وهذا الرجل هو ابن عم فرعون وكان يكتم إيمانه من قومه خوفا منهم على نفسه، وقال ابن جريج قال ابن عباس: لم يؤمن من القبط بموسى إلا هذا والذى جاء من أقصى المدينة وامرأة فرعون؛ يقول الحق سبحانه ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّىَ اللهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِى يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ • يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِى الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ غافر 28-29.

وهذا الرجل كان يكتم إيمانه فلما هم فرعون بقتل موسى وعزم على ذلك وشاور ملأه فيه خاف هذا المؤمن على موسى فتلطف فى رد فرعون بكلام جمع فيه الترغيب والترهيب فقال على وجه المشورة والرأى أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله وقد جاءكم بالخوارق التى دلت على صدقه فيما جاء به عمن أرسله فهذا إن وادعتموه كنتم فى سلامة، وإن يك كاذبا فعليه كذبه ولا يضركم ذلك، أما إن كان صادقا وقد تعرضتم له وآذيتموه وأنتم تشفقون أن ينالكم أيسر جزاء مما يتوعدكم به فكيف بكم إن حل جميعه عليكم؟ فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا؟ وحتى لو كنتم أضعاف ما أنتم فيه من العدد والعدة والقوة والشدة لما نفعنا ذلك ولا رد عنا بأس مالك الممالك.

وومع ذلك فقد وقع لآل فرعون ما وقع ومازالوا فى شك وريب ومخالفة ومعاندة لما جاءهم موسى به حتى أخرجهم الله مما كانوا فيه من الملك والأملاك والدور والقصور والنعمة والحبور ثم حولوا إلى البحر مهانين ونقلت أرواحهم بعد العلو والرفعة إلى أسفل السافلين.

قال فرعون فى جوابه: ما أقول لكم إلا ما عندى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد! وكذب فى هذا؛ فإنه قد كان يتحقق فى باطنه وفى نفسه أن هذا الذى جاء به موسى من عند الله لا محالة وإنما كان يظهر خلافه بغيا وعدوانا وعتوا وكفرانا. وكذلك فقد كذب أيضا فإنه لم يكن على رشاد من الأمر بل كان على سفه وضلال وخبل وخيال فكان أولا ممن يعبد الأصنام والأمثال ثم دعا قومه الجهلة الضلال إلى أن اتبعوه وطاوعوه وصدقوه فيما زعم من الكفر والمحال فى دعواه أنه رب تعالى الله ذو الجلال. ومازال فرعون يعبث بعقول قومه الفاسدة حتى قال سبحانه ﴿فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين﴾.

يحذرهم ولى الله مؤمن أهل فرعون يحذرهم إن كذبوا برسول الله موسى أن يحل بهم ما حل بالأمم من قبلهم من النقمات والمثلات مما تواتر عندهم وعند غيرهم مما حل بقوم نوح وعاد وثمود ومن بعدهم إلى زمانهم ذلك مما أقام به الحجج على أهل الأرض قاطبة فى صدق ما جاءت به الأنباء لما أنزل من النقمة بمكذبيهم من الأعداء وما أنجى الله من اتبعهم من الأولياء.

فماذا فعل فرعون بعد ذلك؟ ﴿وقال فرعون يا هامان ابن لى صرحا لعلى أبلغ الأسباب﴾...

نكمل فى العدد القادم إن شاء الله...

أحمد نور الدين عباس