القاطعات عن المهيمن
لما كانت دعوة النبى صلى الله عليه وسلم هى الخاتمة والباقية إلى أن
يرث الله الأرض ومن عليها منحه الحق سبحانه وتعالى المصطفين الأخيار من
آل بيته الكرام إجابة لدعوته
جعلت عمرى محدودا وعمر إبليس ممدودا فمن لهذه الأمة من بعدى فأجابه
الحق سبحانه وتعالى: ﴿ولقد آتيناك سبعا من المثانى والقرآن العظيم﴾
وأمر عباده بإتباع هؤلاء بقوله سبحانه محذرا: ﴿ومن يتبع غير سبيل
المؤمنين نوله ما تولى﴾ الآية ويكرر المسلمون فى صلاتهم علمهم بهذا
الأمر الإلهى بل ويسألون الله تبارك وتعالى التوفيق إلى ذلك بقوله:
﴿اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم﴾ فكان ينبغى على كل
مسلم أراد لنفسه الرشاد وقصد أن يسلك سبيل الهدى أن يستمسك بهم فهم حبل
الله المتين والعروة الوثقى لا انفصام لها وهم سفن النجاة للعباد
مصداقا لقول المصطفى
:
(آل بيتى كسفينة نوح من تعلق بها نجا ومن تركها هلك) وقوله أيضا
:
(إلزموا مودتنا أهل البيت فإنه من لقى الله وهو يودنا دخل الجنة
بشفاعتنا والذى نفس محمد بيده لا ينفع عبد عمله إلا بمعرفة حقنا) وهم
بذلك وسيلة العباد للتغلب على القواطع عن المهيمن التى قيل عنها:
إنى منيـــــــــــــــــــــت بأربع يرميننى بالنبــــــل من
قـــــــــــــــــوس له توتير
إبليس والدنيا ونفسى والهوى يارب أنت على الخلاص قدير
وقال سيدى فخر الدين
:
والقاطعات عن المهيمن أربع بئس البضاعة عيرهن نفير
فالنفوس هى نفس واحدة وتسمى باعتبار صفاتها المتكثرة بأسمائها المختلفة
كما أخبر الحق سبحانه وتعالى عنها فى مواطن متعددة فى القرآن الكريم
قال سبحانه وتعالى على لسان سيدنا يوسف
:
﴿وما أبرئ نفسى إن النفس لأمارة بالسوء﴾ فمن هنا سميت بالنفس الأمارة
وقال أيضا ﴿لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة﴾ فسميت
باللوامة وقال أيضا ﴿ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها﴾ فسميت هذه
بالملهمة وقال تعالى ﴿يا أيتها النفس المطمئنة﴾ فعرفت هذه بالمطمئنة
﴿إرجعى إلى ربك راضية﴾ فسميت بالراضية ﴿مرضية﴾ فسميت المرضية كما أخبر
سبحانه وتعالى بقوله ﴿فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق
الله ذلك الدين القيم﴾ وسميت هذه النفس بالكاملة.
وبالتالى
فالنفس تسمى باعتبار صفاتها المتكثرة، ولكن من حيث ذاتها فهى نفس
واحدة، ونعنى بها النفس الناطقة وهى القلب قال تعالى: ﴿ذلك لمن كان له
قلب أو ألقى السمع وهو شهيد﴾ فليس المراد بالقلب قطعة اللحم وإنما
المراد به اللطيفة الربانية الغير مدركة والتى أشار إليها القرآن فى
أكثر من موضع: ﴿إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التى فى
الصدور﴾، ﴿أفلم يسيروا فى الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها وأذان
يسمعون بها﴾ وقال محذرا: ﴿ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه
وكان أمره فرطا﴾ هذه اللطيفة الربانية تدنست بالميل إلى الشهوات فتلاقت
مع النفس الشهوانية وهى الروح الحيوانى أو الروح البهيمى فهذه الروح
ظاهرة فى الحيوانات بل انها تسرى فى كل كائن حى ولا نستطيع تمييزها بين
الخلق إلا بالصورة البشرية فقط.
النفس الأمارة
ومن أوصاف النفس الأمارة بالسوء الجهل، وعدم العلم، لبعدها عن الحق
بهذه الصورة ﴿والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا﴾ ومن صفاتها
أيضا البخل، الكبر، الغضب، الإيذاء باليد أو باللسان والتى أشار الحق
إليها ﴿وما أبرئ نفسى إن النفس لأمارة بالسوء﴾ وقال النبى
:
(رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر قالوا وما الجهاد الأكبر
يارسول الله قال جهاد النفس) فسماه النبى
(الجهاد الأكبر) وذلك لأنها واقعة فى ظلمة الطبيعة فلا فرق لها بين
الحق والباطل وهى مدخل للشيطان اللعين وقال ساداتنا يكون الذكر فى هذا
المقام ’لا إله إلا الله‘ ويجب على الذاكر أن يذكر بمد لفظة لا وتحقيق
همزة إله فإنك لن تحققها قلبت ياء وصار ذكرك ’لا يلاه إلا الله‘ وهذه
ليست كلمة التوحيد كما أنها لا تعطى نتيجة فى القلب وقد وصفها الإمام
فخر الدين فقال:
أمارة بالســــــوء بئس شرابها فهو الزعــــــاف وقمة البلواء
فى قتلها نعم الثواب لقاتل عنكم أماط مصادر الإيذاء
النفس اللوامة
صفات هذه النفس اللوم، الكبر، العجب، والاعتراض على الخلق، الرياء
الخفى، وحب الشهرة والرئاسة ولكن مع وجود هذه الصفات الذميمة إلا أنها
ترى الحق حقا والباطل باطلا وتعلم أن هذه الصفات مذمومة ولكنها لا تقدر
على الخلاص منها جملة واحدة ولكن لها رغبة فى المجاهدة وموافقة الشرع
ولها أعمال صالحة من أفعال البر ولكن يدخلها العجب والرياء فيحب صاحب
هذه النفس أن يطلع الناس على ما هو عليه من الخير مع أنه يخفيها عليهم
ولا يظهرها لهم ولا يعمل لهم بل عمله لله تعالى إلا أنه يحب أن يحمد
ويثنى عليه من جهة
أعماله وأفعاله ولا يمكنه الاقلاع عن هذه الخصلة ورفعها من قلبه لأنه
لو فعلها لكان مخلصا بلا خطر ولكن واقع الحال أن المخلصين على خطر عظيم
كما أخبر النبى
:
(الناس هلكى إلا العالمون والعالمون هلكى إلا العاملون والعاملون هلكى
إلا المخلصون والمخلصون على خطر عظيم) لأن المخلص يحب أن يعرف أنه مخلص
وهذا هو الرياء الخفى لأن الرياء الجلى هو العمل لاجل الناس أو لأجل
علة أو غرض وهذا العمل قد ذمه الشرع فإذا كنت متصفا بهذه الصفات فأنت
فى المقام الثانى ويقال لنفسك لوامة وهو مقام لايسلم صاحبه من الخطر
ولو أخلص فى أعماله فلابد من ترك هذا المقام والترحل إلى غيره لأجل
الوصول إلى المقام السابع والذى تسمى فيه النفس بالنفس الكاملة فهذا
المقام هو مقام النفس اللوامة فيه من الخطر العظيم والتعب المقيم ما
يخشى على السالك منه حتى لو أخلص فى أعماله لأن المخلصون على خطر عظيم
ونضرب لك مثلا يوضح لك الخلاص من هذه النفس.
كشجرة خبيثة عظيمة الجثة كثيرة الأغصان كل غصن منها يثمر نوعا من السم
القاتل فجاء أناس واشتغلوا فى قطع تلك الأغصان ولم يتعرضوا لقطع الشجرة
من أصلها ولا لقطع الماء عنها لتجف ويتخلصوا منها وأراحوا أنفسهم عن
الاشتغال بقطع الأغصان الكثيرة فكلما قطع غصن نبت غيره ويظل هكذا إلى
أن يلقى الله على جهل بربه، فالشجرة مثال لبطن الإنسان والأغصان مثال
للصفات الذميمة مثل الكبر والعجب وحب الشهرة والرياسة وغير ذلك من
الصفات الذميمة والثمرة مثال لما يحصل من هذه الصفات الخارج منها من
الآثار أقصد الفعل وهو التكبر على الخلق والاعتراض عليهم والإيذاء
باليد أو باللسان وغير ذلك من الأفعال الذميمة، فاعلم يا أخى أن هناك
من علم أن هذه الصفات مهلكة له فى الدنيا والآخرة فسعى فى إزالتها شيئا
فشيئا فلم يستطيع إزالتها بالكلية بل إذا خلص من صفة فى يوم اتصف بها
فى يوم آخر والسبب فى ذلك أنهم يملأون بطونهم، فتقوى بشريتهم ويكثر
دمهم ويتمكن الشيطان منهم والنبى
يقول: (ماملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه) وقال
:
(إن الشيطان يجرى من أحدكم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع) ولا يقدر
على إزالة أية صفة منها بالكلية وإن زالت بعض الصفات فى وقت من الأوقات
بسبب خوف لحقه أو سماع أى شئ من أحوال القبر والملكين والزبانية فإذا
ذهب عنه الخوف عاد لما كان عليه قبل ذلك وهناك من علم ذلك فقلل من
طعامه فقل نومه وقل كلامه لان الجيعان سهران لايشتهى الكلام فإذا
استمرعلى ذلك لم يبق عنده شئ من هذه الصفات الذميمة وذلك لانهم محوها
من أصلها حتى انهم لم يخطرببالهم شئ منها فتراهم خاليين من الهم والغم
لايتأذون من أحد ولايأذون أحد ولايصدر منهم اى فعل قبيح ولكن لايخلو من
الحسد لكن لايضرهم حسد الحاسدين فالحق قد كفاهم هموم الدنيا والآخرة
والمطلوب للخلاص من هذه الصفات هو الاكثار والمداومة على ترديد الاسم
المفرد ’الله الله‘ بسكون آخره وغمض العينين والذكر بشدة وبقوة وعدم
التلفت يمينا وشمالا إلا لمن تراقب والاسم على لسانك ومد الألف التى
قبل الهاء وتحقيق همزة الله وتسكين الهاء. وفى ذلك قال الإمام فخر
الدين:
يا مريدى رضاى فى ذكرك الله يامريدى خزائن الله عندى
وإياك أن تقضى بك العجلة إلى أن تذكر الله بلفظة ’هلا هلا‘ فإذا لم
تحقق الهمزة مع تشديد اللام الثانية تقول ’هلا هلا‘ فان حققتها لا يصير
شئ من ذلك وإذا ذكرت بهمة قلت الخواطر عندك فان لهذا الاسم نار تحرق
جميع الخواطر والوساوس واعلم انك لاتستطيع ان تتخلص من الخواطر بالكلية
إلا بمن تراقب فاجمع همتك اليه لان القلب متوجه إلى الخلق فإذا توجه
القلب إلى الخلق نقشت عليه افعال الخلق محاسنهم وقبائحهم وحركاتهم
وسكناتهم وكلامهم، اما إذا وجهت القلب إلى شيخك انطبعت الصورة فى قلبك
وغاب عنك صور الخلق تدريجيا فلا ترى لهم صورة ولاتسمع لهم كلاما وكل
ذلك لايكون إلا بهمة عالية، فإذا أردت المقامات العاليه فاترك الخلق
بالكلية واشتغل بربك فلابد ان يستخرج منك آثار هذه الصفات.
واعلم يااخى الفاضل أن القلب محل نظر الحق، وتصفيته فرض عين، هذا الفرض
الذى قد غفل عنه الكثير فاشكر الحق على ان وهب لك شيخا مربيا يأخذ بيدك
من دركات هذه النفوس واعلم أن القلب متقلب لايستقر ابدا ولهذا سمى قلب
لكثرة تقلبه ولذلك يقولون قبل تصفية القلب: ’يا مصرف القلوب اصرف قلبى
إلى طاعتك‘ وبعد التصفية يقولون: ’يا مقلب القلوب ثبت قلبى على دينى‘
ومعنى يا مقلب القلوب ثبت قلبى على دينك هو التقلب من الغفلة إلى الذكر
ومن البكاء إلى الضحك ومن الخوف إلى الأمن ومن القبض إلى البسط وفى هذا
يقول الشيخ:
وذلك حتى تنهلوا وتقلبوا قلوبكم فى السابقات مميطة
ويقول ايضا:
وكل قلوب فى المنائح قلبت تكون بسبق خضبت بخضابها
فالتقلب هنا من الغفلة إلى التذكر وهذا هو تقليب الشيخ لقلبك وذلك لحرق
وطرد الخواطر التى تلوح عليك من إبليس وأعوانه ويقول السيد فخر الدين:
فيدى رحيم الراحميـ ـن بها القلوب تقلب
ثم يظهر عليك بعد ذلك بعض الأنوار والأسرار والمعارف الربانية ظهورا
ذوقيا ينسيك ألم المجاهدة ويرغبك فى السلوك ولكن احذر إذا ظهر لك بعض
الأسرار بغير مجاهدة فهو ادعاء من النفس لان من ادعى بما ليس فيه فقد
كذبته شواهد الامتحان.
وإلى
هنا انتهى ما نشرناه سابقا
مجموعة المرشد الوجيز |