الحج2

يا أيها الناس حج البيت للسارى       وميت القلب لا تشجيه أوتارى

بالعودة إلى هذا البيت من تلك الدرر الفريدة التى تؤتى أكلها كل حين من المعانى والحقائق والحكم التى تحيى القلوب والأرواح، نستكمل ما قلناه فى العدد السابق من المجلة فنقول للأحباب مشرب الأرواح (شراب الوصل) قد يسأل متدارس جديد على التدارس فيقول لمذا هذه الآية بالذات ﴿أفلم يسيروا فى الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التى فى الصدور الحج 46. أقول له أخى الحبيب إن البيت ذكر السير وذكر القلب فعندما ننسب البيت إلى آية وذلك عملاً بقول الشيخ المربى السيد فخر الدين :

إلى القرآن ردوا كل قول       ففى القرآن تخليض الرقاب

وهذا هو البيت الثالث عشر من القصيدة الرابعة والسبعون من ديوانه شراب الوصل‘ والذى ينتهى بكلمة الرقاب فإذا قمنا بِعَد الكلمات من أول القصيدة حتى كلمة الرقاب وجدناها الكلمة رقم 114 أى موافقة لعدد سور القرآن الكريم والبيت يتحدث عن القرآن وهذا ليس بغريب على نظم سيدى فخر الدين فهو مملوء بالغرائب والعجائب حيث يقول ’لاشك تلك عجائبى وغرائبى‘ وهذا راجع إلى أنه ليس بشعر وإنما نظم در من الحقائق والعلوم اللدنية أى الواردة من قبل الحق تبارك وتعالى عندما تصْفَى القلوب والأرواح.

ولايوجد أخى الحبيب أفضل من كتاب الله وشرعه حتى ننسب كلام الصالحين إليه لنفيد ونستفيد من كتاب الله، فالإنسان الصالح الطاهر القلب الصافى السريرة الممدود من قبل الحق ﴿كلا نمد هؤلاء وهؤلاء﴾ و﴿هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب﴾ فالمدد والعطاء ليس قاصراً على الماديات وإنما أعظم المدد هو الفتح فالمعانى التى لاتتناهى من كلام رب العالمين على قلوب العارفين التى تصلح من شأن المحبين المقبلين على ربهم متقربين إليه بالعمل الصالح عاملين بتعاليم الأولياء وإرشاداتهم الواردة من عالم الحقائق على قلوب العارفين الصادقين ﴿ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين﴾.

وكأن صاحب هذا النظم يقول ياأيها الناس نقلاً من كتاب الله فى أول سورة الحج ﴿ياأيها الناس﴾ ياأيها الناس فهمتم من كتاب الله عز وجل حج الفريضة وآمنا به ومن استطاع إليه السبيل سعى إليه، لماذا؟ طالبين العفو والمغفرة من رب العالمين، طالبين أن نرجع كما ولدتنا أمهاتنا بلا ذنوب، ولكن العقبة الرئيسية أمامنا هى أن نرجع إلى الدنيا ومفاتنها وإلى النفس وما تشتهيه مما يجعلنا نعود للذنوب مرة أخرى وهذا كله يحدث بعد أداء الفريضة وبعد غفران الذنوب، ولكنه يخبرنا عن حج آخر من نوع آخر وذلك لمن استطاع إليه سبيلاً يصلح أن نقوم به قبل أداء الفريضة وبعد أداء الفريضة ألا وهو حج القلوب الحية بذكر الله تعالى وهذا لا يكون إلا للسارى الذى يسير على يد شيخ عارف بأمراض القلوب وكيفية علاجها بذكر الله من أوراد وتحصينات وإتباع الشريعة والسنة النبوية كما أمرنا الحق تبارك وتعالى ﴿ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا﴾ وهذا الإسراء ثابت للأولياء وفى ذلك يقول السيد ابن عجيبه فى الإشارة بعد تفسير الآية شرعاً يقول: قال بعض الصوفية إنما قال تعالى ﴿بعبده﴾ ولم يقل بنبيه ولا برسوله ليدل على أن كل من كملت عبوديته كان له نصيب من هذا الإسراء.

غير أن الإسراء بالجسد مخصوص به عليه الصلاة والسلام وأما الإسراء بالروح فيقع للأولياء، على قدر تصفية الروح وغيبتها عن هذا العالم الحسى، فتعرج أفكارهم وأرواحهم إلى ما وراء العرش وتخوض فى بحار الجبروت وأنوار الملكوت، كل على قدر تخليته وتحليته.

فكما أن العبد يطوف بجسده حول الكعبة الشريفة تطوف روحه إذا ترقى فى عالم الجبروت والملكوت لتستقى المعانى الحقيقية التى تربى أرواح المريدين السالكين الطالبين القرب الحقيقى من مولاهم جل وعلا، فإذا تنورت الأرواح بالمعانى سطع نورها على القلب فخشع وخشعت له كل الجوارح، مصداقاً لقول الحبيب (لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه) أورده الإمام السيوطى فى جمع الجوامع.

فيحيى القلب ذاكراً ليل نهار فيتذوق معانى ألفاظ الصالحين عن آيات كتاب الله عز وجل وسنة رسوله لذلك، فكأنه يقول ياأيها الناس هذا الحج الحقيقى حج القلوب الحية لا يكون إلا للسارى على يد شيخ عارف بالله، وأما ميت القلب الغافل عن الذكر والسير إلى الله لا يعرفه ولا يوفق إليه، ولا يفهم ولا تشجيه قصائدى الموتورة أى المتتابعة إليكم حتى يسير إلى الله بروحه وقلبه متقرباً إلى حضرته فيعيش عمره فى حالة حج حقيقى، فعندما ينتقل إلى جوار ربه يرجع إليه سبحانه وتعالى كما ولدته أمه، حجاً مبروراً وذنباً مغفوراً، لا يعود إلى الدنيا فتفتنه كما تفعل مع حج الفريضة.

وإلى اللقاء فى العدد القادم لاستكمال موضوع الحج بإذن الله تعالى، حيث يقول سيدى فخر الدين :

كمال الدين فى الأركان حج       لبيت الله فى البلد الحرام

محمد مقبول