الحج3

كمال الدين فى الأركان حج       لبيت الله فى البلد الحرام

استكمالا لموضوع الحج بالعددين السابقين لهذا العدد نقول وبالله التوفيق:

هذا البيت الذى يطالعنا به السيد الإمام فخر الدين بمطلع القصيدة التاسعة والأربعون من ديوان شراب الوصل به مفردات لغوية مثل كمال وهو الشئ الغير منقوص، والدين وهو ما يدان به الإنسان نحو ربه والأركان وهى أركان الإسلام الخمسة، والحج وهو القصد إلى معظم، وبيت الله وهو المسجد الحرام، والبلد الحرام مكة، وهذه كلها من باب اللغة تفيدنا بأنه يخبرنا بأن من أراد أن يكمل دينه فعليه بالحج، والكمال كما جاء بلسان العرب هو التمام وقيل التمام الذى تجزء منه أجزاءه، وبهذا المعنى يقول الإمام الغزالى المنتقل سنة 505 هـ بكتاب إحياء علوم الدين أن الحج من بين أركان الإسلام ومبانيه عبادة العمر وختام الأمر وتمام الإسلام وكمال الدين، وهذا الذى قصدناه بأن الحج هو كمال الدين وهو ما قاله الإمام فخر الدين فى مطلع القصيدة "كمال الدين فى الأركان حج" ويظهر لنا هذا الموضوع فى قول الله عز وجل ﴿اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا فقد أنزل الله هذه الآية الكريمة فى حجة الوداع ولم يكتمل الدين إلا بالحج وهو الركن الخامس فى الإسلام، وفى هذا الركن قال المصطفى (من حج البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه ليوم ولدته أمه) فما أعظم من عبادة يعدم الدين بفقدها الكمال ويعود بفعلها العبد ليوم ولدته أمه.

وقال الإمام الغزالى هذا كله من باب الظاهر والشريعة، ولكن إذا نظرنا إلى المعانى الحقيقية بعين البصيرة التى يرى بها واحد من أئمة صالحى هذه الأمة أصحاب الإشارات والمعانى التأويليه لوجدنا من المعانى ما ينصلح به حال أفراد هذه الأمة وتوحدهم على كلمة سواء لا يختلفون بل يتآلفون وينبذون الفرقة والانقسام فيرضى عنهم المولى تبارك وتعالى فيسعدون فى الدنيا والآخرة.

فانظر أخى فى الله فى هذه الآية ﴿اليوم أكملت لكم... نزلت فى حجة الوداع فأُكمل الدين بفرض الحج والنص المذكور من الآية جزء من الآية وليس الآية كلها، والآية أولها ﴿حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير... وهى الآية الثالثة من سورة المائدة، ولها ارتباط وثيق لما قبلها من آيات، فلنبدأ البحث والتدارس من أول آية لنصل بإذن الله تعالى إلى المراد:

فأول آية فى سورة المائدة ﴿يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلى الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد فنرى خطاب الحق تبارك وتعالى بداية بلفظة ﴿يا أيها الذين آمنوا وهو القائل جل وعلا ﴿قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان فى قلوبكم فكان الخطاب فى أول سورة المائدة للمؤمنين لاستجابتهم لنداء الحق تبارك وتعالى ﴿أوفوا بالعقود التى عاهدتموها ربكم والعقود التى عاقدتموها إياه وألزمتم بها أنفسكم، فأتموها بالوفاء والكمال منكم إلى الله بما ألزمكم بها وهذا هو قول الطبرى .

وقال الإمام محيى الدين صاحب الفتوحات : الفرق بين العهد والعقد أن العهد هو إيداع التوحيد فيهم فى الأزل، والعقد هو إحكام عزائم التكليف عليهم ليتادى بهم إلى الإيفاء بما عاهدوا عليه، فالعهد سابق والعقد لاحق.

ويقول الإمام ابن عجيبة فى معنى ﴿أوفوا بالعقود أى العهود التى عهدت إليكم أن تحفظوها، وهى: حفظ الأموال، وحفظ الأنساب، وحفظ الأديان، وحفظ الأبدان، وحفظ اللسان، وحفظ الإيمان، وفى إشارته يقول أوفوا بالعقود التى عقدتموها على أنفسكم فى حال سيركم إلى حضرة ربكم – يعنى التقرب إلى الله – من مجاهدة ومكابدة، فمن عقد عقدة مع ربه فلا يحلها، فإن النفس إذا استأنست بحل العقود لم ترتبط بحال، ولعبت بصاحبها كيف شاءت، كذلك أوفوا بالعقود التى عقدتموها مع أشياخكم بالاستماع والإتباع إلى مماتكم، وأوفوا بالعقود التى عقدها الحق تعالى من القيام بوظائف العبودية ودوام مشاهدة عظمة الربوبية فإن أوفيتم بذلك ﴿أحلت لكم الأشياء كلها تتصرفون فيها بهمتكم، لأنكم إذا كنتم مع المكون كانت الأكوان معكم.

﴿بهيمة الأنعام فى ظاهر الشريعة الأنعام معروفة مثل الأبقار والماعز والإبل وكل هذه رزق للأجساد، فأحل لنا بهيمة الأنعام كلها ﴿إلا ما يتلى عليكم أى أن من الأنعام ما هو حرام وليس بحلال، فالاستثناء هنا يتضح لنا فى الآية الثالثة نذكره مع ذكر الآية إنشاء الله تعالى.

فالله سبحانه وتعالى لم يحرم إلا الخبائث وما هو قبيح وما حلل لنا إلا كل طيب فتراه سبحانه يحرم علينا أن نأكل الخبائث ويقول سبحانه ﴿كلوا من طيبات ما رزقناكم وذلك للعناية بطهارة أجسادنا فى الظاهر، وكذلك يحرم على أرواحنا أن تشرب أو تتغذى على المعانى الدنية الخبيثة المتسفلة، فلا نأكل إلا الأنعام المزكاة أى الطاهرة التى ذكر عليها اسم الله المذبوحة على الشريعة، وكذلك لا نغذى أرواحنا إلا من نفس سليمة وهى التى قال عنها سيدى محيى الدين بن عربى فى تفسيره ﴿بهيمة الأنعام النفس التى تزكت أو الروح التى تزكت بقتل صاحبها نفسه كما قال الحق تبارك وتعالى ﴿اقتلوا أنفسكم فتوبوا إلى بارئكم أى جاهدوا النفس بالاشتغال بالجهاد الأكبر كما أخبرنا المصطفى بأنه جهاد النفس وأن الجهاد فى الحرب هو جهاد الأصغر.

فصاحب هذه الروح المعبر عنها بالروح البهيمى فى كلام سيدى محيى الدين بن عربى المزكاة المتقرب صاحبها بقتل هذه النفس وذبحها تقرباً إلى الله هو المعبر عنه ﴿بهيمة الأنعام أى النفوس السليمة التى تتمتع وتحظى بمعانيها العالية التى تكون غذاءً لباطننا فتكون الطهارة فى ظاهرنا وباطننا سواء ...

وللحديث بقية إنشاء الله تعالى ،،،

محمد مقبول