الصحابى الجليل:
أبو
ذر الغفارى

قال
(أَبُو ذَرٍّ يَمْشِى فِى الأرْضِ بِزُهْدِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ )
الترمذى فى سننه عن أبى ذر.
فعَنْ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ: لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ
بِالرَّبَذَةِ، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ، وَعَلَى غُلَامِهِ حُلَّةٌ،
فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنِّى سَابَبْتُ رَجُلًا
فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ، فَقَالَ لِى النَّبِى
(يَا أَبَا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ، إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ
جَاهِلِيَّةٌ، إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمْ اللهُ تَحْتَ
أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ
مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلَا
تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ
فَأَعِينُوهُمْ) متفق عليه, أخرجهما البخارى
ومسلم فى الصحيح عن المعرور بن سويد

هذا
الصحابى الجليل كان من أطراف المدينة، وادٍ من الوديان التى تصل مكة
بالعالم الخارجى. تعرفون الوديان ممرات إجبارية، فهناك وادٍ يعد ممراً
إجبارياً بين مكة والعالم الخارجى، فى هذا الوادى الذى اسمه (ودان)
كانت تنزل قبيلة غفار، وقد تسألون لماذا فى الوادى؟ لأن الوادى مسيل
الماء، وفى قعر الوادى قد تتجمع المياه، وقد ينبت الكلأ، لذلك هذه
القبيلة، قبيلة غفار كانت تنزل فى قعر الوادى الذى يصل مكة بالعالم
الخارجى، يعنى على الطريق، وكانت غفار قبيلة فقيرة جداً، تعيش من ذلك
النزر اليسير الذى تبذله لها القوافل، أى تعيش على فتات القوافل كان
جندب بن جنادة المكنى بأبى ذر واحداً من أبناء هذه قبيلة غفار, وكان
واحداً من هذه القبيلة التى تعيش فى ذلك المكان، وعلى فتات القوافل، أو
على قطع الطريق, لكن هذا الصحابى الجليل سيدنا أبو ذر الغفارى كان
يمتاز بجرأة القلب، ورجاحة العقل، وبُعْدِ النظر، وفطرته
كانت تأبى أن
يعبد الأصنام، كان يضيق أشد الضيق بهذه الأوثان التى تُعبد من دون
الله، ويستنكر على قومه، يستنكر فساد دينهم، وتفاهة معتقدهم فكان أبو
ذر
يضيق أشد الضيق بقومه، ويتطلع بفطرته إلى ظهور النبى الجديد، الذى يملأ
على الناس عقولهم وأفئدتهم، ويخرجهم من الظلمات إلى النور.
سيدنا أبو ذر كان عنده فراغ، كان عنده بحث دائم، ثم تناهت إلى أبى ذر
وهو فى باديته أخبارُ النبى
الذى ظهر فى مكة، وقال لأخيه أنيس: انطلق إلى مكة، وقِفْ على أخبار هذا
الرجل الذى يزعم أنه نبى، وأنه يأتيه وحى من السماء، واسمع شيئاً من
قوله واحمله إلى, ذهب أنيس إلى مكة، والتقى بالنبى
،
وسمع منه، ثم عاد إلى البادية، فتلقاه أبو ذر باللهفة، وسأله عن أخبار
النبى الجديد بشغف, فقال: لقد رأيت واللهِ رجلاً يدعو إلى مكارم
الأخلاق، ويقول كلامًا ما هو بالشعر. فقال: وماذا يقول الناس عنه؟ قال:
يقولون: ساحر، وكاهن، وشاعر. فقال أبو ذر:والله ما شفيت لى غليلاً، ولا
قضيت لى حاجة، فهل أنت كافٍ عيالى حتى انطلق فأنظر فى أمره؟ قال: نعم،
ولكن كنْ من أهل مكة على حذر, لأن الرجل مُحارَب هناك، فإذا علموا أنك
جئته ربما قتلوك.
بلغ
أبو ذر مكة المكرمة، وهو متوجس خيفة من أهلها، فقد تناهت إليه أخبار
غضبة قريش لآلهتهم، وتنكيلهم بكل من تحدثه نفسه باتباع سيدنا محمد،
لذلك كره أن يسأل أحداً عن سيدنا محمد، لأنه ما كان يدرى أيكون هذا
المسؤول من شيعته أم من عدوه؟ لا يعرف, لما أقبل الليل اضطجع عند
الكعبة، فمر به رجل هو سيدنا على بن أبى طالب، فعرف أنه غريب، فقال:
هلم إلينا أيها الرجل، فمضى معه، وبات ليلته عنده، وفى الصباح حمل
قربته ومزوده، وعاد إلى الكعبة دون أن يسأل أحدًا عن شيئ, ثم قضى أبو
ذر يومه الثانى دون أن يتعرف إلى النبى
،
فلما أمسى أخذ مضجعه عند الكعبة، فمر به سيدنا على بن أبى طالب
فقال له: أما آن للرجل أن يعرف منزله؟ ثم اصطحبه معه فبات عنده ليلته
الثانية، ولم يسأل أحدٌ منهما صاحبه عن شيئ, فلما كانت الليلة الثالثة،
قال على لصاحبه: ألا تحدثنى عما أقدمك إلى مكة؟ فقال أبو ذر: إن
أعطيتنى ميثاقاً أن ترشدنى إلى ما أطلب فعلت. فأعطاه سيدنا على ما أراد
من ميثاق, فقال أبو ذر: لقد قصدت مكة من أماكن بعيدة أبتغى لقاء النبى
الجديد، وسماع شيئ مما يقوله, فانفرجت أسارير سيدنا على، وقال: والله
إنه لرسول الله حقاً, هذه على حد قوله تعالى ﴿ثُمَّ جِئْتَ عَلَى
قَدَرٍ يَا مُوسَى﴾ طه 40،
فالله عز وجل علم صدقه، فجمعه بصحابى
جليل، ابن عم النبى
،
قال: والله إنه لرسول الله حقاً, وإنه وإنه وإنه... وحدثه عن النبى
،
فإذا أصبحنا فاتبعنى حيثما سرت, قال له: سر ورائى، فإن رأيت شيئاً
أخافه عليك، وقفتُ كأنى أريق الماء - اتفقوا على إشارة - فانتبه وارجع،
فإن مضيت فاتبعنى حتى تدخل معى، فلم يقر لأبى ذر مضجعه طوال ليلته
شوقاً إلى النبى ورؤيته، ولهفة إلى استماع شيئ مما يوحى إليه , وفى
الصباح مضى على
بضيفه إلى بيت رسول الله
،
ومضى أبو ذر وراءه يقفو أثره، وهو لا يلوى على شيئ، حتى دخلا على النبى
.
ويقولون: إنّ أول صحابى سلَّم على النبى
بسلام الإسلام هو أبو ذر الغفارى، أما كان راجح العقل؟ بلى- حينما رأى
النبى
,
قال: السلام عليك يا رسول الله. لنا هنا كلام جميل، فحين يتكلم
الإنسانُ فإمّا أنْ يعلو أو يسقط، قال زهير بن أبى سلمى فى معلقته:
وكائِنْ ترَى مِنْ صَامِتٍ لكَ مُعجِبٍ زِيادَتُهُ أوْ نَقصُهُ فِى
التّكَلُّـــمِ
سيدنا
عمر كان مرةً ماشيًا فى الطريق، فقال: السلام عليكم يا أهل الضوء, ولم
يَقُلْ: السلام عليكم يا أصحاب النار. فرد
النبى
على أبى ذر
(وعليك سلام الله ورحمته وبركاته) - فعندما تقول: السلام عليكم، يعنى
أننى إنسان خيَّر فلا تخف منى، الإنسان عليه أن يكثر السلام، حتى إذا
دخل على أهل بيته، حتى إذا دخل إلى محل ما فليبدأ بالسلام, وهكذا كان
أبو ذر أول من حيَّا الرسول بتحية الإسلام، ثم شاعت وعمَّت بعد ذلك,
أقبل النبى
على أبى ذر يدعوه إلى الإسلام، ويقرأ عليه القرآن، فما لبث أن أعلن
كلمة الحق، ودخل فى الدين الجديد قبل أن يبرح مكانه، فكان رابع ثلاثة
أسلموا أو خامس أربعة, بعض الصحابة يقولون: كنت فى وقت وأنا ثلث
الإسلام، الثلث أى سبقه اثنان، الآن أنت كم سبقكم من واحد؟ ألف ومائتا
مليون، أنت واحد على ألف مليون ومائتى مليون، سيدنا أبو ذر واحد على
أربعة، يعنى حينما دخل فى الإسلام كان رابع خمسة أو ثالث أربعة. ماذا
فعلت قريش حينما علمت بإسلام أبى ذر, وكيف نجى من القتل, وبماذا أمره
النبى
؟
قال أبو ذر: أقمت
مع رسول الله
بمكة، فعلمنى الإسلام، وأقرأنى شيئاً من القرآن، ثم قال لى (لا تخبر
بإسلامك أحداً فى مكة، فإنى أخاف عليك أن يقتلوك) فقلت: والذى نفسى
بيده لا أبرح مكة حتى آتى الكعبة، وأصرخ بدعوة الحق
بين ظهرانى قريش،
فسكت رسول الله
,
قال: فجئت الكعبة، وقريش جلوس يتحدثون، فتوسطتهم، وناديت بأعلى صوتى،
يا معشر قريش، إنى أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله، فما
كادت كلماتى تلامس آذان القوم حتى ذعروا جميعاً، وهبوا من مجالسهم،
وقالوا: عليكم بهذا الصابئ، وقاموا إلىَّ، وجعلوا يضربوننى لأموت،
فأدركنى العباس بن عبد المطلب عمُّ النبى
،
وأكب على ليحمينى منهم، ثم أقبل عليهم، وقال: ويلكم, ويلكم، أتقتلون
رجلاً من غفار، وممر قوافلكم عليهم؟ انتبهوا. قال: ولما أفقت من
غيبوبتى بعد أن ضُربت ضرباً مبرحاً، جئت النبى
،
فلما رأى ما بى قال (يا أبا ذر, ألم أنهك عن إعلان إسلامك؟) فقلت: يا
رسول الله, كانت حاجة فى نفسى فقضيتها, فقال (الحقْ بقومك، وأخبرهم بما
رأيت وما سمعت، وادعُهم إلى الله، لعل الله ينفعهم بك، ويأجرك فيهم)
قال (فإذا بلغك أنى ظهرت فتعال إلى). قال أبو
ذر: فانطلقت حتى أتيت منازل قومى، فلقينى أخى أنيس، فقال: ما صنعت؟
قلت: لقد أسلمتُ وصدَّقتُ, فما لبث أن شرح الله صدره، وقال: مالى رغبة
عن دينك، فإنى قد أسلمت وصدقت أيضاً. ثم أتينا أمَّنا فدعوناها للإسلام
- والمرأة لها قيمة وشأن، فهى أمٌّ, وزوجة - فقالت: مالى رغبة عن
دينكما، وأسلمتْ أيضاً.
منذ ذلك اليوم انطلقت الأسرة المؤمنة تدعو إلى الله، لا تكلُّ عن ذلك،
ولا تملّ منه، حتى أسلم من غفار خلق كثير، وأقيمت الصلاة فيهم - ما
معنى قوله تعالى؟ ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾
النحل
120.
فعَنِ ابْنِ عُمَرَ, قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ
(غِفَارُ غَفَرَ اللهُ لَهَا، وَأَسْلَمُ سَالَمَهَا اللهُ،
وَعُصَيَّةُ عَصَتْ اللهَ)
أخرجه مسلم فى الصحيح
عن ابن عمر.
أقام أبو ذر فى باديته حتى مضت بدرٌ وأحدٌ والخندقُ، ثم قدم إلى
المدينة، وانقطع إلى رسول الله
،
واستأذنه أن يقوم فى خدمته، فأذن له، ونَعِمَ بصحبته، وسَعِدَ بخدمته،
وظلَّ رسول الله
يؤثره ويكرمه، فما لقيه مرةً إلا صافحة، وهشَّ فى وجهه وبشَّ.
لما لحق النبى
بالرفيق الأعلى لم يُطِق أبو ذر صبراً على الإقامة فى المدينة، بعد أن
خلت من سيدها، وأقفرت من هدى مجلسه، فرحل إلى بادية الشام، وأقام فيها
مدة خلافة سيدنا أبى بكر الصديق وسيدنا الفاروق عمر بن الخطاب
أجمعين، وفى خلافة سيدنا عثمان ذو النورين نزل فى دمشق، فرأى من إقبال
المسلمين على الدنيا وانغماسهم فى الترف ما أذهله، ودفعه إلى استنكار
ذلك، فاستدعاه عثمان إلى المدينة، فقدم إليها، لكن ما لبث أن ضاق برغبة
الناس فى الدنيا،
وضاق الناس بشدته عليهم، وتنديده بهم، فأمره عثمان
بالانتقال إلى الربذة، وهى قرية صغيرة من قرى المدينة، فرحل إليها،
وأقام فيها بعيداً عن الناس، زاهداً بما فى أيديهم من عرض الدنيا،
مستمسكاً بما كان عليه النبى
وصاحباه من إيثار الباقية على الفانية.
فى أحدى الأيام دخل عليه رجلٌ، فجعل يقلب الطرف فى بيته، فلم يجد فيه
متاعاً، فقال: يا أبا ذر, أين متاعكم؟ فقال: لنا بيت هناك، نرسل إليه
صالح متاعنا، ففهم الرجل مراده، أنّه يعنى الدار الآخرة وقال: ولكن لا
بد لك من متاع ما دمت فى هذه الدار، فأجاب: ولكن صاحب المنزل لا يدعنا
فيه.
وبعث إليه أمير الشام بثلاثمائة دينار، وقال له: استعن بها على قضاء
حاجتك، فردها إليه، وقال: أما وجد أمير الشام عبداً لله أهون عليه منى؟
وفى السنة الثالثة والثلاثين للهجرة استأثرت يد المنون بالعابد الزاهد،
الذى قال فيه النبى
(مَا أَظَلَّتْ الْخَضْرَاءُ, وَلَا أَقَلَّتْ الْغَبْرَاءُ - الغبراء
الأرض، والخضراء السماء - مِنْ ذِى لَهْجَةٍ أَصْدَقَ, وَلَا أَوْفَى
مِنْ أَبِى ذَرٍّ، شِبْهِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ )
أخرجه الترمذى فى سننه,
صحابة الرسول سيدنا محمد النبى المعصوم
أجمعين اللهم بجاه الحبيب أكرمنا بسيدنا أبى ذر الغفارى وأحشرنا معهم
أجمعين اللهم أمين وأرضى عنا مشايخنا وساداتنا الأكرمين أمين.
الزهراء ياسين
|