حال مريدى

 

يُنْكِرُ الْجَاهِلُونَ حَالَ مُرِيدِى          مُنْكِرُ السَّلسَبِيلِ غِرٌ سَقِيمُ (12/11)

نهدى إليكم أيها الأحباب بيتاً من نظم الدر للإمام فخر الدين وأرضاه ونفعنا بِدُرَرِه وحكمه التى تقيم منهج الدين المضمون آمين.

يقول :

ينكر الجاهلون: والانكار ضد المعرفة والجهل ضد العلم هذا ما علمناه من كتب اللغة وذا عجبٌ! جاهلٌ وينكر ما يراه من علم. فمتى يتعلم؟ وماذا بعدُ إذا عُرِض عليه الحق فأنكره؟ ونحن مأمورون بنص القرآن الكريم أن نسمع ونتدبر بقلوبنا لا نتسرع فى الحكم بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ محمد 24، ﴿إِنَّ فِى ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ ق 37، أيقبل أن يعيش فى الضلال؟ أغرّه جلبابٌ أم لحية؟ وفى الصحيح (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)، وبمعنى آخر: جاهل لا يعلم شيئاً فى الدين وينكر ويرفض كل ما يسمعه؟ واللهِ هذا ليس إنصافاً ولا عدلاً بل ظلم للنفس.

حال مريدى: الحال: اصطلاح صوفى يحتاج إلى شرح، يقول المتحقق العارف بالله أى الذى يعرف بواسطة الله  سيدى محيى الدين بن عربى ولا عجب أن يقول فالذى علمه الله ﴿وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ﴾ البقرة 282، وتدبر قوله تعالى ﴿وَاللهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ﴾ أى أن الذى يُعَلِمّه الله لا يخفى عليه شىء لأنه اتقى الله فأحبه الله وعلمه كل شىء ولا تستغرب يا أخى فالمولى تبارك وتعالى  يقول ﴿وَكُلَّ شَىْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِى إِمَامٍ مُبِينٍ﴾ يس 12، فإن قلت الإمام المبين كتاب مبين قلنا لك الكتب كثيرة ومختلفة ولما لم يقل الحق كتاب مبين؟ ومما يصدق على ما قلناه قوله تعالى ﴿بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِى صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ﴾ العنكبوت 49، فهل تهيأت بعد هذا السرد اليسير لتتلقى معنى الحال من كلام سيدى ابن عربى : الحال ... مايرد على القلب من غير تعمل ولا اجتلاب فتتغير صفات صاحبه له ... الأحوال مواهب. والحال أيضاً: هو ظهور العبد بصفة الحق وهو التشبه بصفات الله المعبر عنه بالتخلق بالاسماء، وهو الذى يريده أهل زماننا اليوم بالحال. ونحن نقول به ولكن لا نقول بأثره لكن نقول أن يكون العبد متمكناً منه بحيث لو شاء ظهوره لظهر به، لكن الأدب مع الله يمنعه ... وأن الله تعالى لا يعطى العلم إلا لمن يحب وقد يعطى الحال من لا يحب، فانتبه، فإن العلم ثابت والحال زائل لأن صاحبه ينتقل من حال إلى حال والحال تكُونُ منها كل صفة فى وقت دون وقت، كالسُكْر والغيبة مثلاً فالسُكْر لا يدوم والغيبة أيضاً ونقصد بالسُكْر هنا السُكْر الحلال الناشىء عن وارد قوى وهو ما يرد من نفحات الله على قلب المريد المجتهد فى تقرّبه بالأوراد والعبادة والصلاة على النبى على يد شيخ عارف بالله فيحدث له ما يحدث للسكران من غيبة عن الوعى ولكن هذا المحب يغيّبه الله تعالى عن ما حرم الله وعن ما نهى الله. وعكسه المقام وهو فى كل صفة يجب الرسوخ فيها ولا يصح التنقل عنها كالتوبه مثلاً. وحال مريدى -مريد الشيخ- ليس أى مريد وإنما وصفه لنا شيخنا فقال:

سَقَيْتُ مُرِيدِى مِنْ شَرَابٍ مُعَتَّقٍ        وَكَفِّىَ كَأْسٌ وَالْخَفَاءُ مَزِيَّتِى (1/8)

أى: شرّبهُ العلم فى خفاء.

وَلَسْتُ بِنَاءٍ عَنْ مُرِيدِىَ لَحْظَةً          وَإِنَّ مُرِيدِى مَنْ أَرَادَ إِرَادَتِى (1/266)

أى: عندما تتوافق إرادة المريد مع إرادة شيخه يكون مريد الشيخ فعلاً وإلا فلا.

وَلَيْسَ مُرِيدِى مَنْ عَشَى عَنْ كَلَامِنَا    وَلَا قَائِلٌ لِلنَّفْسِ يَانَفْسُ مَالَكِ (10/6)

أى لا يكون مريدى وينتسب إلىّ الذى يعرض عن كلامى والمقصود منهجى ولا يخالف هوى نفسه، فالمريد هو الذى يتكلم بكلام ومنهج وعلم شيخه ويكون حاله وإرادته إرادة شيخه، هذا المريد إذا أنكر حاله جاهل من الجُهّال يكون هذا الجاهل غرٌّ أى خدّاع مفسد سقيم مريض وقد وصف الشيخ مريده بأنه سلسبيل والسلسبيل هنا المراد به علم الشيخ وشرابه المعنوى الذى تحصل عليه المريد بفضل الله من شيخه فقال :

مُنْكِرُ السَّلسَبِيلِ غِرٌ سَقِيمُ

لأن من أنكر حال هذا المريد الذى هو ترجمة فعلية لمنهج وعلم شيخه والذى هو الحق الذى أراده المولى تبارك وتعالى منا لا يكون إلا خدّاعاً مُفسداً يصرف الناس عن دين الحق بغير علم ولا هدى، نجانا الله منه وهدانا بهدى شيخنا إلى شرابه السلسبيل العذب الذى هو ملىء حانته وللاستزاده راجع موضوع شرابى عذب - بأرشيف التدارس.

وإلى العدد القادم بإذن الله تعالى والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. 

محمد مقبول