صدأ القلوب

لما كان القلب هو محل نظر المولى تبارك وتعالى فى العبد وكان أيضاً بصلاحه صلاح العبد وبفساده فساد العبد مصداقاً للحديثين الشريفين المرويين عنه واللذين ذكرناهما فى العدد السابق، فكان لزاماً علينا أن ننتبه ونبحث عن السبيل الذى به تصلح قلوبنا فيصلح سائر أجسادنا، وعلينا أيضاً أن نبحث عن الأشياء التى تؤدى إلى فساده لنتجنبها ونتوقى ضررها، ونبدأ حديثنا بهذه النقطة الأخيرة ونرى من أحاديث رسول الله ما يبينها ويوضح لنا من أين للقلب أن يفسد فنجد مما رُوى عنه فى الصحاح والمسانيد الكثير فى هذا الشأن وتحديداً ما رُوى عنه فى السنن الكبرى للنسائى وصحيح ابن حبان وسنن الإمام الترمذى أنه قال: (إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِى قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ صُقِلَ قَلْبُهُ وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، وَهُوَ الرَّانُ الَّذِى ذَكَرَ اللَّهُ ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ فأوضح لنا رسول الله أن فساد القلب يأتى من الران الذى يعلوه، وما علاه الران إلا بكثرة الذنوب، فكانت هذه الأخيرة (الذنوب) هى التى تؤدى إلى فساد القلب، ونجد فى هذا العصر كثيرا من المتشدقين والمتفيقهين فى الدين بغير علم ولا هدى  ولا كتاب منير، يفسرون الذنوب على أهوائهم فما جاء على أهوائهم فليس بذنب وما هو على النقيض فذنب، فلا يجدون أنفسهم مخطئين ولا حتى خطيئة واحدة وإن أبلغناهم حديث رسول الله المروى فى سنن ابن ماجه ومسند الدارمى ومسند أبى يعلى وهو الحديث الذى كثيراً ما نسمعه فى كل صلاة جمعة وتحديداً قبل جلوس الإمام فى الخطبة وطلبه الدعاء من المصلين وهو أنه قال: (كُلُّ بَنِى آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ) نظروا إلينا على أن خطاياهم ما هى إلا كاللمم -صغار الذنوب- فكأنهم حكموا لأنفسهم بالرحمة وعلى غيرهم بالعذاب، ناسين أو متناسيين حديثه المروى فى سنن ابن ماجه ومسند الإمام أحمد بن حنبل وسنن الترمذى ومسند البزار وهو أنه قال: (الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا ثُمَّ تَمَنَّى عَلَى اللَّهِ) فكانت القاعدة أن يعتقد الإنسان فى كثرة خطأه ومجانبته الصواب لكى يفلح ولا يتبع هوى نفسه الذى يجعله يرى نفسه دائما على صواب، وإذا نظرنا أيضاً إلى حديثه على الذنوب وسواد القلب وإلى الأية الكريمة ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ فنجد فى حديث مولانا الشيخ محمد إبراهيم محمد عثمان عبده البرهانى أجمعين فى هذا العام وتحديداً فى حولية الإمامين أثناء إلقائه خطابه السنوى، نجد فى حديثه ما يوضح لنا أن من الذنوب ما لا نلقى لها بال وهى كبيرة ﴿وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾ وهى الذنب فى حق الغير ولعل من يقرأ كلمة الغير هنا يعتقد أنها قاصرة على بنى آدم فقط، ولكن أوضح مولانا أن هذه الكلمة ممتدة حتى للبهائم، وأشار إلى حديث المصطفى المروى فى صحيح البخارى ومسلم: (دَخَلَتْ امْرَأَةٌ النَّارَ فِى هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ) ولما كانت الذنوب بهذه الدقة وكان الأمر جد خطير، كان علينا أن نبحث عن الخلاص من هذا السواد حتى لا يعم الران القلب فإن كان قد عم فنسعى لإزالته بالكلية، فكان من حديثه ما يبين لنا كيف الخلاص والوصول إلى صلاح القلب بقوله فى الحديث الذى ذكرناه سالفاً: (فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ) فكان الاستغفار من العوامل الأساسية لجلاء القلوب من الران أو من الذنوب كلمة بسيطة خفيفة على اللسان نقولها؛ "أستغفر الله العظيم هو التواب الرحيم" ولكن ما هو مفعولها؟ جلاء لقلوبنا، ومن كرم المولى تبارك وتعالى أنها لا تجلى القلب فحسب بل ولها خصائص أخرى، منها ما روى عنه انه قال: (مَنْ لَزِمَ الِاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) وهذا الحديث مروى فى سنن أبى داود وسنن ابن ماجه والسنن الكبرى للبيهقى، ومما رواه الإمام الديلمى عن ابن عباس: (لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار) فالحمد لله على نعمة الاستغفار.

ولكن إذا اقتصر الحديث عن الاستغفار وكفى نجد كلام الإمام على ابن طالب يقول: "ألا إن القلوب أوعية" فشبه القلب بالوعاء، وإذا نظرنا إلى الوعاء وطبيعة خلقته نجد أنه خلق ليوضع به شئ، فما الذى يوضع فى القلب، وما الطريقة التى يوضع بها، وما كيفيتها، نتحدث عن هذا فى العدد القادم إن شاء الله تعالى. 

عصام

 

 

 

 

روحا أم جسدا

تمر علينا هذه الأيام ذكرى عظيمة وجليلة فى عالمنا الإسلامى وهى ذكرى الإسراء والمعراج وهى على أرجح الأقوال فى السابع والعشرين من شهر رجب من أحد الأعوام قبل الهجرة النبوية وقد رُوى عنه أنه قال (إن لربكم في أيام دهركم نفحات فتعرضوا لها لعله أن يصيبكم نفحة منها فلا تشقون بعدها أبدا) وكانت ليلة الإسراء من أعظم الليالى جعلنا الله بجاه حبيبه ومصطفاه من المتعرضين لها عسى أن تصيبنا نفحاتها.

وفى مناسبة تلك الليلة نزلت سورة على رسول الله فكانت سورة الإسراء وافتتحها المولى تبارك وتعالى بقوله ﴿سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ والقصة معروفة ومشهورة ونجد كتب السادة الأعلام مليئة بأحداثها، ولكن لم يسلم الأمر فأدخل أبليس اللعين فى بعض العقول المريضة بعض المفاهيم محاولة منه للإنقاص من قدر الحبيب المصطفى أعاذنا الله منه ومن أفعالهم ومن اتباع أهوائهم، فزعم البعض أن إسراء النبى كان بالروح فقط دون الجسد، ولكنهم لو قرأوا الآية المذكورة وفهموا معنى كلمة ﴿بِعَبْدِهِ﴾ لعلموا أن هذه الكلمة لا تطلق إلا على الروح والجسد معاً فيقول المولى تبارك وتعالى ﴿سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾ ولم يقل "بروح عبده".

وقد قال فى هذا الشأن الكثير من أعلام هذه الأمة فى تصنيفاتهم منها: سبل الهدى والرشاد للصالحى، البداية والنهاية لابن كثير، الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضى عياض، شرح المواهب اللدنية للزرقانى، دلائل النبوة لأبى نعيم.

وقال سيدى الإمام فخر الدين فى هذه المناسبة قصيدة نذكر منها:

فِى كُلِّ حِينٍ لَنَا فِى الْمُصْطَفَى أَمَلٌ   حَتَّى إِذَا حَانَتِ الْإِسْـرَا يُسَرِّينَا
وَكَفُّهُ مِنْ عَطَــــاءِ اللهِ يَمْنَحُنَا   وَمِـنْ تَدَانِيهِ يُطْعِمُـنَا وَيَسْقِينَا
لَمَّا دَنَا الْعَرْشُ وَالْكُرْسِىُّ جِىءَ بِهِ   فِى أَوَّلِ اللَّيْلِ وَازْدَانَتْ مَرَاقِينَا
حَلَّتْ عَلَى أَهْلِ هَذَا الْحَىِّ فَرْحَتُهُ   كُلٌّ تَخَلَّى فَلَا مَعَنَا وَلَا فِيــنَا

 سامر الليل

 

من أراد الاستزادة فى هذا الموضوع فليتتبع صفحات الصوفية فى موقع الطريقة البرهانية.

أسرة التحرير