إلا المودة 3

إلا المودة ما سألنا حبنا     إن الودة رفعة ورشاد

نستكمل ما قلناه بعدد الشهر الماضى فى تدارس هذا البيت من أبيات ديوان شراب الوصل. انتهينا فى العدد السابق عند الكلام عن فضل أهل البيت، وقال سيدى محيى الدين :

ولما صح الحديث الوارد فى سلمان الفارسى (سلمان منا أهل البيت) فإنه لو كان سلمان على أمر يشنؤه (يبغضه) ظاهر الشرع وتلحق المذمة بعامله، لكان مضافا لأهل البيت من لم يذهب عنه الرجس فيكون لأهل البيت من ذلك بقدر ما أضيف إليهم. وهم المطهرون بالنص، فسلمان منهم بلا شك، فأرجو أن يكون عقب عقيل وسلمان تلحقهم هذه العناية. كما لحقت أولاد سيدنا الحسن وسيدنا الحسين وعقبهم وموالى أهل البيت، فإن رحمة الله واسعة.

وإذا كانت منزلة مخلوق عند الله بهذه المثابة، وهى أن يشرف المضاف إليهم بشرفهم، وشرفهم ليس لأنفسهم، وإنما اجتباهم الله وكساهم حلة الشرف، فكيف يا ولى الله بمن أضيف إلى من له العناية والمجد لنفسه وذاته؟

فهو المجيد سبحانة وتعالى، فالمضاف إليه من عباده وهم الذين لا سلطان لمخلوق عليهم فى الآخرة. قال تعالى لإبليس ﴿إن عبادى﴾ فأضافهم إليه ﴿ليس لك عليهم سلطان﴾ وما نجد فى القرآن عبادًا مضافين إليه سبحانه إلا السعداء خاصة وقد جاء اللفظ فى غيرهم بالعباد فماظنك بالمعصومين المحفوظين منهم القائمين بحدود سيدهم، فشرفهم أعلى وأتم.

ثم قال: وبعد أن تبين لك منزلة أهل البيت عند الله وأنه لا ينبغى لمسلم أن يذمهم بما وقع منهم أصلا، فإن الله طهرهم، فليعلم الذّام لهم أن ذلك راجع إليه ولو ظلموه، فذلك الظلم هو فى زعمه ظلم لا فى نفس الأمر وإن حكم عليه ظاهر الشرع بأدائه، بل حُكم ظلمهم إِيَّانا فى نفس الأمر يُشبه جَرْىَ المقادير علينا وعلى من جرت عليه فى ماله ونفسه بغرق أو بحرق أو غير ذلك من الأمور المهلكة فيحترق أو يموت له أحد أحبائه أو يصاب فى نفسه، وهكذا كله مما لا يوافق غرضه، ولا يجوز له أن يذم قدر الله ولا قضاءه، بل عليه أن يقابل ذلك كله بالتسليم والرضى وإن نزل عن هذه المرتبة فبالصبر، وإن ارتفع عن هذه المرتبة فبالشكر، فإن فى طى ذلك نعمًا من الله لهذا المصاب وليس وراء ما ذكرناه خير، فإن ما وراءه ليس إلا الضجر والسخط وعدم الرضا وسوء الأدب مع الله.

فكذا ينبغى أن يقابل المسلم جميع ما يطرأ عليه من أهل البيت فى ماله ونفسه وعرضه وأهله وذويه، فيقابل ذلك كله بالرضى والتسليم والصبر ولا يلحق المذمة بهم أصلا، وإن توجهت عليهم الأحكام المقررة شرعاً، فذلك لا يقدح فى هذا بل يجريه جرى المقادير، وإنما أيضاً مُنعنا تعليق الذم بهم، إذْ مَيَّزَهُمْ الله عنا، بما ليس لنا معهم فيه قدم، وأما أداء الحقوق المشروعة، فهذا رسول الله كان يقترض من اليهود وإذا طالبوه بحقوقهم أدّاها على أحسن ما يمكن وإذا تطاول اليهودى عليه بالقول يقول (دعوه إن لصاحب الحق مقال) وهذا الحديث رواه الإمام البخارى فى صحيحه وابن حبان فى صحيحه وأبو عوانة فى مسنده، وقال من قصة لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها، وقد أعاذها الله من ذلك . فوضع الأحكام لله، ليضعها كيف يشاء وعلى أى حالٍ يشاء، فهذه حقوق الله تعالى ومع هذا لم يذمهم الله.

وإنما كلامنا فى حقوقنا ومالنا أن نطالبهم به، فنحن مخيرون إن شئنا أخذنا، وإن شئنا تركنا، والترك أفضل عموما، فكيف بأهل البيت؟ وليس لنا أن نذم أحد، فكيف بأهل البيت؟ فإنا إن نزلنا عن طلب حقوقنا وعفونا عنهم فى ذلك أى فيما أصابوه منا، فكانت لنا عند الله اليد العظمى والمكانة الزلفى، فإن النبى ما طلب منا من أمر الله إلا المودة فى قرابته، فكيف بأهل بيته وهم أخص القرابة؟ ثم إنه جاء بلفظ (المودة) وهى الثبوت على المحبة، فإن من ثبت وده فى أمر، استصحبه فى كل حال. وإذا استصحب المودة فى كل حال، لم يؤاخذ أهل البيت بما يطرأ منهم فى حقه. فماله أن يطالبهم به؟ ويتركه محبة وإيثار على نفسه لا لها.

قال المحب الصادق: وكل ما يفعل المحبوب محبوب. وهذا باسم الحب، فكيف حال المودة. ومن البشرى ورود اسم الودود لله تعالى ولا معنى لثبوته إلا حصول أثره بالفعل فى الدار الآخرة، وفى الناس بكل طائفة بما تقتضيه حكمة الله فيهم، وقيل فى هذا المعنى:

أحب لحبها السودان حتى       أحب لحبها سود الكلاب

وقال ايضًا:

أحب لحبك الحبشان طرّا      وأعشق لاسمك البدر المنير

قيل كانت الكلاب تناوشه وهو يتحبب إليها أعنى (قيس صاحب ليلى) فهذا شأن المحب فى حب من لا تسعده محبته عند الله، ولا تورثه القرب من الله. فهل هذا إلا من صدق المحبة وثبوت الود فى النفس. فلو صحت محبتك لله ولرسوله أحببت أهل بيت رسول الله ورأيت كل ما يصدر منهم فى حقك، مما لا يوافق طبعك ولا غرضك، إنه جمال تتنعم بوقوعه منهم، فنتعلم عند ذلك أن لك عناية عند الله الذى أحببتهم من أجله، فتشكر الله تعالى على هذه النعمة، فإنهم ذكروك بألسنة طاهرة، طهرها الله بتطهيره طهارة لا يبلغها علمك. وإذا رأيناك على ضد هذه الحالة مع أهل البيت الذين أنت محتاج إليهم، ومع رسول الله ، حيث هداك الله به، فكيف أثق أنا بودك الذى تزعم أنك شديد الحب فى، وفى رعايتك لحقوقى أو لجنابى؟ وأنت فى حق أهل بيت نبيك بهذه المثابة من الوقوع فيهم؟ والله ما ذاك إلا من نقص إيمانك، ومن مكر الله بك واستدراجه إياك من حيث لا تعلم. وصورة المكر أن تقول وتعتقد أنك فى ذلك تذب (تدفع) عن دين الله وشرعه. وتقول فى طلب حقك: إنك ما طلبت إلا ما أباح الله لك طلبه ويندرج الذم فى ذلك الطلب المشروع، والبغض والمقت وإيثار نفسك على أهل البيت وأنت لا تشعر بذلك.

والدواء الشافى من هذا الداء العضال أن لا ترى لنفسك معهم حقًا، وتنزل عن حقك لئلا يندرج فى طلبه ما ذكرته لك. وما أنت من حكام المسلمين حتى يتعين عليك إقامة حد، أو إنصاف مظلوم، أو رد حق لأهله. وإن كنت حاكما ولابد، فاسع فى استنزال صاحب الحق عن حقه، إذا كان المحكوم عليه من أهل البيت، فإن أبى، فحينئذٍ يتعين عليك إنفاذ حكم الشرع فيه.

فإن كشف الله لك يا ولى عن منازلهم عند الله فى الدار الآخرة، لوددت أن تكون مولى من مواليهم والله يلهمنا رشد أنفسنا. أ.هـ

وأقول لك إن لم يكن هذا هو حالك معهم فى الدنيا، فكيف تطلب من جدهم الشفاعة فى الآخرة وهى أن لا تعاقب على ما فعلته من أخطاء فى الدنيا.

إذا أردت أن تُرحم، فارحم يرحمك الله إلى ما يحب ويرضى... وإلى العدد القادم لنستكمل موضوع المودة.

 

محمد مقبول