جَعْفَرُ
بنُ أَبِى طَالِبٍ
ذو
الجناحين
السَّيِّدُ، الشَّهِيْدُ، الكَبِيْرُ الشَّأْنِ، ابْنُ عَمِّ رَسُوْلِ
اللهِ
أبى طالب عَبْدِ مَنَافٍ بنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ بنِ هَاشِمِ بنِ
عَبْدِ مَنَافٍ بنِ قُصَى الهَاشِمِىُّ، أَخُو عَلِى بنِ أَبِى
طَالِبٍ، وَهُوَ أَكبر مِنْ عَلِى بِعَشْرِ سِنِيْنَ.
هَاجَرَ الهِجْرَتَيْنِ، وَهَاجَرَ مِنَ الحَبَشَةِ إِلَى
المَدِيْنَةِ، فقدم على المُسْلِمِيْنَ وَهُمْ عَلَى خَيْبَرَ إِثْرَ
أَخْذِهَا، فَأَقَامَ بِالمَدِيْنَةِ أَشْهُراً، ثُمَّ أَمَّرَهُ
رَسُوْلُ اللهِ
عَلَى جَيْشِ غَزْوَةِ مُؤْتَةَ بِنَاحِيَةِ الكَرَكِ، فَاسْتُشْهِدَ.
وَقَدْ سُرَّ رَسُوْلُ اللهِ
كَثِيْراً بِقُدُوْمِهِ، وَحَزِنَ لِوَفَاتِهِ.
هجرته الى الحبشة:
عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ
،
قَالَ:
بَعَثَنَا رَسُوْلُ اللهِ
إِلَى النَّجَاشِى ثَمَانِيْنَ رَجُلاً: أَنَا، وَجَعْفَرٌ، وَأَبُو
مُوْسَى، وَعَبْدُ اللهِ بنُ عُرْفُطَةَ، وَعُثْمَانُ بنُ مَظْعُوْنٍ.
وَبَعَثَتْ قُرَيْشٌ عَمْرَو بنَ العَاصِ، وَعُمَارَةَ بنَ الوَلِيْدِ
بِهَدِيَّةٍ، فَقَدِمَا عَلَى النَّجَاشِىِّ، فَلَمَّا دَخَلاَ سَجَدَا
لَهُ، وَابْتَدَرَاهُ، فَقَعَدَ وَاحِدٌ عَنْ يَمِيْنِهِ، وَالآخَرُ
عَنْ شِمَالِهِ، وَقَالُوا: إِنَّ فِتْيَةً مِنَّا سُفَهَاءَ فَارَقُوا
دِيْنَنَا، وَلَمْ يَدْخُلُوا فِى دِيْنِكَ، وَجَاؤُوا بِدِيْنٍ
مُبْتَدَعٍ لاَ نَعْرِفُهُ، وَلَجَؤُوا إِلَى بِلاَدِكَ، فَبُعِثْنَا
إِلَيْكَ لِتَرُدَّهُم.
فَقَالَتْ بَطَارِقتُهُ: صَدَقُوا أَيُّهَا المَلِكُ.
فَغَضِبَ،
ثُمَّ قَالَ: لاَ لَعْمْرُ اللهِ، لاَ أَرُدُّهُم إِلَيْهِم حَتَّى
أُكَلِّمَهُم، قَوْمٌ لَجَؤُوا إِلَى بِلاَدِى، وَاخْتَارُوا جِوَارِى،
فَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَبْغَضَ إِلَى عَمْرٍو وَابنِ أَبِى رَبِيْعَةَ
مِنْ أَنْ يَسْمَعَ المَلِكُ كَلاَمَهُم. فَأَرْسَلَ فِى طَلَبِهِم.
فَقَالَ جَعْفَرٌ: أَنَا خَطِيْبُكُم. فَاتَّبَعُوْهُ، فَدَخَلَ،
فَسَلَّمَ. فَقَالُوا: مَا لَكَ لاَ تَسْجُدُ لِلْمَلِكِ؟ قَالَ:
إِنَّا لاَ نَسْجُدُ إِلاَّ للهِ. قَالُوا: وَلِمَ ذَاكَ؟ قَالَ:
أَيُّهَا المَلِكُ! كُنَّا قَوْماً عَلَى الشِّرْكِ، نَعْبُدُ
الأَوْثَانَ، وَنَأْكُلُ المَيْتَةَ، وَنُسِيْءُ الجِوَارَ،
وَنَسْتَحِلُّ المَحَارِمَ وَالدِّمَاءَ، فَبَعَثَ اللهُ إِلَيْنَا
نَبِيّاً مِنْ أَنْفُسِنَا، نَعْرِفُ وَفَاءهُ وَصِدْقَهُ
وَأَمَانَتَهُ، فَدَعَانَا إِلَى أَنْ نَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ،
وَنَصِلَ الرَّحِمَ، وَنُحْسِنَ الجِوَارَ، وَنُصَلِّيَ، وَنَصُوْمَ.
فَبَكَى النَّجَاشِىُّ، حَتَّى أَخْضَلَ لِحْيَتَهُ، وَبَكَتْ
أَسَاقِفَتُهُ حَتَّى أَخْضَلُوا مَصَاحِفَهُم، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ
هَذَا الكَلاَمَ لَيَخْرُج مِنَ المِشْكَاةِ الَّتِى جَاءَ بِهَا
مُوْسَى، انْطَلِقُوا رَاشِدِيْنَ، لاَ وَاللهِ، لاَ أَرُدُّهُم
عَلَيْكُم، وَلاَ أُنْعِمُكُم عَيْناً. فَقَالَ عَمْرٌو: إِنَّهُم
يُخَالِفُوْنَكَ فِى ابْنِ مَرْيَمَ وَأُمِّهِ. قَالَ: مَا
تَقُوْلُوْنَ فِى ابْنِ مَرْيَمَ وَأُمِّهِ؟ قَالَ جَعْفَرٌ: نَقُوْلُ
كَمَا قَالَ اللهُ: رُوْحُ اللهِ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى
العَذْرَاءِ البَتُوْلِ الَّتِى لَمْ يَمَسَّهَا بَشَرٌ. قَالَ:
فَرَفَعَ النَّجَاشِى عُوْداً مِنَ الأَرْضِ، وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ
الحَبَشَةِ وَالقِسِّيْسِيْنَ وَالرُّهْبَانِ! مَا تُرِيْدُوْنَ، مَا
يَسُوْؤُنِى هَذَا أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُوْلُ اللهِ، وَأَنَّهُ الَّذِى
بَشَّرَ بِهِ عِيْسَى فِى الإِنْجِيْلِ، وَاللهِ لَوْلاَ مَا أَنَا
فِيْهِ مِنَ المُلْكِ، لأَتَيْتُهُ، فَأَكُوْنَ أَنَا الَّذِى أَحْمِلُ
نَعْلَيْهِ، وَأُوَضِّئُهُ. وَقَالَ: انْزِلُوا حَيْثُ شِئْتُم.
وَأَمَرَ بِهَدِيَّةِ الآخَرَيْنِ، فَرُدَّتْ عَلَيْهِمَا.
فضل جعفر
:
لَمَّا رَجَعَ رَسُوْلُ اللهِ
مِنْ خَيْبَرَ تَلَقَّاهُ جَعْفَرٌ، فَالْتَزَمَهُ رَسُوْلُ اللهِ
وَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَقَالَ: (مَا أَدْرِى بِأَيِّهِمَا
أَنَا أَفْرَحُ: بِقُدُوْمِ جَعْفَرٍ، أَمْ بِفَتْحِ خَيْبَرَ)
فَقَبَّلَ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَضَمَّهُ، وَاعْتَنَقَهُ.
عَنْ مُحَمَّدِ بنِ أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيْهِ: سَمِعَ
النَّبِى
يَقُوْلُ لِجَعْفَرٍ (أَشْبَهَ خَلْقُكَ خَلْقِى، وَأَشْبَهَ خُلُقُكَ
خُلُقِى، فَأَنْتَ مِنِّى وَمِنْ شَجَرَتِى). عَنْ عَلِىٍّ، قَالَ:
إِنَّ رَسُوْلَ اللهِ
قَالَ لِجَعْفَرٍ: (أَشْبَهْتَ خَلْقِى وَخُلُقِى).
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ
،
قَالَ:
مَا احْتَذَى النِّعَالَ، وَلاَ رَكِبَ المَطَايَا بَعْدَ رَسُوْلِ
اللهِ
أَفْضَلُ مِنْ جَعْفَرِ بنِ أَبِى طَالِبٍ.
يَعْنِى: فِى الجُوْدِ وَالكَرَمِ. عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ
،
قَالَ:
كُنَّا
نُسَمِّى جَعْفَراً أَبَا المَسَاكِيْنِ، كَانَ يَذْهَبُ بِنَا إِلَى
بَيْتِهِ، فَإِذَا لَمْ يَجِدْ لَنَا شَيْئاً، أَخْرَجَ إِلَيْنَا
عُكَّةً أَثَرُهَا عَسَلٌ، فَنشُقُّهَا، وَنَلْعَقُهَا. تَزَوَّجَ
عَلِى أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ، فَتَفَاخَرَ ابْنَاهَا؛ مُحَمَّدُ
بنُ جَعْفَرٍ، وَمُحَمَّدُ بنُ أَبِى بَكْرٍ.
فَقَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا: أَبِى خَيْرٌ مِنْ أَبِيْكِ. فَقَالَ
عَلِىٌّ: يَا أَسْمَاءُ! اقْضِى بَيْنَهُمَا. فَقَالَتْ: مَا رَأَيْتُ
شَابّاً كَانَ خَيْراً مِنْ جَعْفَرٍ، وَلاَ كَهْلاً خَيْراً مِنْ
أَبِى بَكْرٍ. فَقَالَ عَلِىٌّ: مَا تَرَكْتِ لَنَا شَيْئاً، وَلَوْ
قُلْتِ غَيْرَ هَذَا لَمَقَتُّكِ. فَقَالَتْ: وَاللهِ إِنَّ ثَلاَثَةً
أَنْتَ أَخَسُّهُم لَخِيَارٌ. وعَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ جَعْفَرٍ،
قَالَ: مَا سَأَلْتُ عَلِيّاً شَيْئاً بِحَقِّ جَعْفَرٍ إِلاَّ
أَعْطَانِيْهِ.
غزوة مؤته:
بَعَثَ رَسُوْلُ اللهِ
جَيْشَ الأُمَرَاءِ، وَقَالَ: (عَلَيْكُم زَيْدٌ، فَإِنْ أُصِيْبَ،
فَجَعْفَرٌ، فَإِنْ أُصِيْبَ جَعْفَرٌ، فَابْنُ رَوَاحَةَ). فَوَثَبَ
جَعْفَرٌ، وَقَالَ: بِأَبِى أَنْتَ وَأُمِّى! مَا كُنْتُ أَرْهَبُ أَنْ
تَسْتَعْمِلَ زَيْداً عَلَىَّ. قَالَ: (امْضُوا، فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِى
أَى ذَلِكَ خَيْرٌ). فَانْطَلَقَ الجَيْشُ، فَلَبِثُوا مَا شَاءَ
اللهُ.
ثُمَّ إِنَّ رَسُوْلَ اللهِ
صَعِدَ المِنْبَرَ، وَأَمَرَ أَنْ يُنَادَى: الصَّلاَةُ جَامِعَةٌ.
قَالَ
:
(أَلاَ أُخْبِرُكُم عَنْ جَيْشِكُم، إِنَّهُم لَقُوا العَدُوَّ،
فَأُصِيْبَ زَيْدٌ شَهِيْداً، فَاسْتَغْفِرُوا لَهُ، ثُمَّ أَخَذَ
اللِّوَاءَ جَعْفَرٌ، فَشَدَّ عَلَى النَّاسِ حَتَّى قُتِلَ، ثُمَّ
أَخَذَهُ ابْنُ رَوَاحَةَ، فَأَثْبَتَ قَدَمَيْهِ حَتَّى أُصِيْبَ
شَهِيْداً، ثُمَّ أَخَذَ اللِّوَاءَ خَالِدٌ). وَلَمْ يَكُنْ مِنَ
الأُمَرَاءِ، هُوَ أَمَّرَ نَفْسَهُ.
فَرَفَعَ رَسُوْلُ اللهِ
أُصْبُعَيْهِ، وَقَالَ (اللَّهُمَّ هُوَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوْفِكَ،
فَانْصُرْهُ). فَيَوْمَئِذٍ سُمِّىَ: سَيْفَ اللهِ. ثُمَّ قَالَ
(انْفِرُوا، فَامْدُدُوا إِخْوَانَكُم، وَلاَ يَتَخَلَّفَنَّ أَحَدٌ).
فَنَفَرَ النَّاسُ فِى حَرٍّ شَدِيْدٍ.
و روى عن جعفر
فى غزوة مؤته: أنه اقْتَحَمَ عَنْ فَرَسٍ لَهُ شَقْرَاءَ، فَعَقَرَهَا،
ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ.
وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ عَقَرَ فِى الإِسْلاَمِ، وَقَالَ:
يَا حَبَّذَا الجَنَّةُ وَاقْتِرَابُهَا طَيِّبَةٌ
وَبَارِدٌ شَرَابُهَا
وَالرُّوْمُ رُوْمٌ قَدْ دَنَا عَذَابُهَا عَلَى إِنْ لاَقَيْتُهَا
ضِرَابُهَا
استشهاده
فى مؤته:
ضَرَبَهُ
رُوْمِىٌّ، فَقَطعَهُ بِنِصْفَيْنِ، فَوُجِدَ فِى نِصْفِهِ بِضْعَةٌ
وَثَلاَثُوْنَ جُرْحاً. عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: فَقَدْنَا جَعْفَراً
يَوْمَ مُؤْتَةَ، فَوَجَدْنَا بَيْنَ طَعْنَةٍ وَرَمْيَةٍ بِضْعاً
وَتِسْعِيْنَ، وَجَدْنَا ذَلِكَ فِيْمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ. عن
أسماء بنت عميس زوجة جعفر قالت:
دَخَلَ عَلَى رَسُوْلُ اللهِ
فَدَعَا بَنِى جَعْفَرٍ، فَرَأَيْتُهُ شَمَّهُم، وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ.
فَقُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ! أَبَلَغَكَ عَنْ جَعْفَرٍ شَيْءٌ؟ قَالَ
(نَعَمْ، قُتِلَ اليَوْمَ). فَقُمْنَا نَبْكِي، وَرَجَعَ، فَقَالَ
(اصْنَعُوا لآلِ جَعْفَرٍ طَعَاماً، فَقَدْ شُغِلُوا عَنْ
أَنْفُسِهِم). وَعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمَّا جَاءتْ وَفَاةُ
جَعْفَرٍ، عَرَفْنَا فِى وَجْهِ النَّبِى
الحُزْنَ.
جعفر الطيار
:
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
:
بَيْنَمَا رَسُوْلُ اللهِ
جَالِسٌ وَأَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ قَرِيْبَةٌ، إِذْ قَالَ (يَا
أَسْمَاءُ! هَذَا جَعْفَرٌ مَعَ جِبْرِيْلَ وَمِيْكَائِيْلَ مَرَّ،
فَأَخْبَرَنِى أَنَّهُ لَقِى المُشْرِكِيْنَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا
فَسَلَّمَ، فَرُدِّى عَلَيْهِ السَّلاَمَ). وَقَالَ (إِنَّهُ لَقِى
المُشْرِكِيْنَ، فَأَصَابَهُ فِى مَقَادِيْمِهِ ثَلاَثٌ وَسَبْعُوْنَ،
فَأَخَذَ اللِّوَاءَ بِيَدِهِ اليُمْنَى، فَقُطِعَتْ، ثُمَّ أَخَذَ
بِاليُسْرَى، فَقُطِعَتْ. قَالَ: فَعَوَّضَنِى اللهُ مِنْ يَدَى
جَنَاحَيْنِ أَطِيْرُ بِهِمَا مَعَ جِبْرِيْلَ وَمِيْكَائِيْلَ فِى
الجَنَّةِ، آكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا).
عَنِ ابْنِ عَبَّاس
:
قَالَ رَسُوْلُ اللهِ
(رَأَيْتُ جَعْفَرَ بنَ أَبِى طَالِبٍ مَلَكاً فِى الجَنَّةِ،
مُضَرَّجَةً قَوَادِمُهُ بِالدِّمَاءِ، يَطِيْرُ فِى الجَنَّةِ). كَانَ
ابْنُ عُمَرَ إِذَا سَلَّمَ عَلَى عَبْدِ اللهِ بنِ جَعْفَر، قَالَ:
السَّلاَم عَلَيْك يَا ابْنَ ذِى الجَنَاحَيْنِ.
سمير جمال
|