قال الحارث المحاسبى "المحبة ميلك إلى المحبوب بِكُلِّيتِكَ، ثم إيثارك له على نفسك ورُوحك، ثم موافقته سرّاً وجهراً، ثم علمك بتقصيرك فى حبه".
إعلم
أخى الكريم أن كل خُلة وصحبة تنقطع يوم القيامة، إلاَّ خُلة المتحابين
فى الله، وهم الذين ورد فى الحديث أنهم يكونون فى ظل العرش، والناس فى
حر الشمس، يغشى نورُهم الناسَ فى المحشر، يغبطهم النبيون والشهداء
لمنزلتهم عند الله. قيل: يا رسول الله، مَن هؤلاءِ؟ صفهم لنا لنعرفهم،
قال
وقد
ورد فى موطأ الإمام مالك
وفى رواية (إنّ فى الجنة غُرَفاً يُرى ظواهِرُها مِن بَوَاطِنِها، وبَواطِنُها من ظَواهرها، أعدَّها الله للمُتحابِّين فى الله، والمُتَزَاورِينَ فيه، والمُتباذِلين فيه). وفى لفظ آخر (إنَّ فى الجنة لعُمُداً من ياقوتٍ، عليها غُرَفٌ من زَبَرْجد، لها أبواب مُفَتَّحَةٌ، تُضىء كما يُضىء الكوكب الدُّرِّى، قلنا: يا رسول الله، مَن يَسْكُنُها؟ قال: المتحابُّون فى الله، والمتباذِلُون فى الله، والمتلاقون فى الله، مكتوب على وجوههم، هؤلاء المتحابون فى الله). وفى الأثر أيضاً: إذا كان يوم القيامة، نادى منادٍ: أين المتحابون فى الله؟ فيقوم ناس - وهم يسير - فَيَنْطَلِقُون إلى الجَنَّة سِرَاعاً، فَتَتَلقَّاهم الملائكة، فيقولون: رأيناكم سِراعاً إلى الجنة، فمَن أنتم؟ فيقولون: نحن المتَحَابُّون فى الله، فيقولون: وما كان تحابُّكُم؟ فيقولون: كنَّا نتحاب فى الله، ونتزاورُ فى الله، ونتعاطف فى الله، ونتباذل فى الله، والتباذل: المواساة بالبذل، فيُقال لهم: ادخلوا الجنة ، فَنِعْمَ أَجْرُ العاملين. ومحبة العبد لمولاه قالوا سببُها شيئان: أولهما: أن نظر العبد لإحسان الله إليه وضروب امتنانه عليه، حيث جُبِلَت القلوبُ على حب من أحسن إليها، وهذا هو المسمى بحب الهوى، وهو مكتسب، لأن الإنسان مغمور بإحسانات الله إليه، ومتمكن من النظر فيها، فكلما طالَع منةً مِنْ مِنَن الله جل وعلا التى لا تقبل الحصر ولا العدَّ ولا يستطيع إحصائها، كان ذلك كحَبةٍ زُرعت فى أرض قلبه الطيب الزكى، فلا يزال يطالع مِنّةً بعد منّة، وكلُّ منّة أعظم من التى قبلها، لأنه كلما طالع المنن تنوّر قلبه وازداد إيماناً، وكشف من دقائق المنن ما لم يكن يُكشف له قبلُ، وظهر له خفايا المنن، وعظمت محبته.
وثانيهما: كشْف الحُجُب، وإزالة الموانع عن ناظر القلب، حتى يرى جمال
أُحِبُّكَ حُبَّين حُبَّ الهَوَى وحُبّاً لأنك أهلٌ لِذَاكَ فأمَّا الذى هو حُبُّ الهَوى فَشُغْلى بِذِكْرِك عمَّن سِوَاكَ وأمَّا الذى أنتَ أهلٌ لهُ فكَشْفُكِ لِلْحُجْبِ حتى أراكَ فَلا الحمدُ فى ذَا ولا ذَاك لى ولَكِنْ لكَ الحَمْدُ فى ذَا وذاكَ وإنما خَصَّصَتْ الحُبَّ الناشئ عن شهود الجمال بالأهلية دون الأول، وإن كان أهلاً للجميع، لأن هذا منه وإليه، لا كسب للعبد فيه، والآخر فيه كسب، وعمل العبد معلول، وقولها "فشغلى بذكر عمن سواك" من باب التعبير بالمسبب عن السبب، والأصل: فثمرته شغلى بذكرك عمن سواك، فهو مسبب عن المحبة لأنفسنا، وقولها أيضاً "كشفك للحجب حتى أراك" من باب التعبير بالسبب عن المسبب، والأصل، فبسببه كشفك للحجب حتى رأيتك بعينَىْ قلبى. وقولها "فلا الحمد" إخبار منها بأن الحُبَّيْن معاً منه وإليه وبه فى الحقيقة، لا كسب لها فى واحد منهما باعتبار الحقيقة، بل هو الحامد والمحمود، وإدراك التفاوت بين المقامين، أعْنى بين المحبة الناشئة عن شهود الإحسان، والناشئة عن شهود الجمال ضرورى عند كل ذائق، وأن الثانية أقوى. وقال ابن جُزَىّ : اعلم أن محبة العبد لربه على درجتين، أحدهما: المحبة العامة، التى لا يخلو منها كل مؤمن، وهى واجبة، والأخرى: المحبة الخاصة التى ينفرد فيها العلماء الربَّانيون، والأولياء والأصفياء، وهى أعلى المقامات، وغاية المطلوبات، فإنَّ سائر مقامات الصالحين: كالخوف والرجاء والتوكل، وغير ذلك، مَبْنِيَةٌ على حظوظ النفس، ألا ترى أن الخائف إنما يخاف على نفسه، والراجى إنما يرجوا منفعة نفسه، بخلاف المحبة، فإنها من أجل المحبوب فليست من المعاوضة.
عبد الستار الفقى |
||
فعلاج مرض القلوب أهم من علاج مرض الأبدان، ولا ينجو إلا من أتى الله بقلب سليم. وله دواءان: الدواء الأول: ملازمة ذكر الموت وطول التأمل فيه، مع الاعتبار بخاتمة الملوك وأرباب الدنيا، وكيف أنهم جمعوا كثيرا وبنوا قصورا وفرحوا بالدنيا بطرا وغرورا، فصارت قصورهم قبورا وأصبح جمعهم هباء منثورا، ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً﴾ الأحزاب 33: 37. ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِى مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ﴾ السجدة 32: 26، فقصورهم وأملاكهم ومساكنهم صوامت ناطقة، تشهد بلسان حالها على غرور عمّالها. فانظر الآن فى جميعهم ﴿هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً﴾ مريم 19: 98، والمعنى هنا هل ترى منهم أحدا أو تسمع لهم صوتا، فقد ماتوا وصاروا الى أعمالهم.
وقد أصبح أكثر الناس أمواتا عن كتاب الله تعالى، وإن كانوا أحياء فى معايشهم. وبُكماً عن كتاب الله، وإن كانوا يتلونه بألسنتهم. وصُماً عن سماعه، وإن كانوا يسمعونه بآذانهم. وعميا عن عجائبه، وإن كانوا ينظرون إليه فى صحائفهم ومصاحفهم. وأميّين عن أسراره معانيه، وإن كانوا يشرحونه فى تفاسيرهم. فاحذر أن تكون منهم، وتدبّر أمرك وأمر من لم يتدبر أمر نفسه كيف ندم وتحسر! وانظر فى أمرك وأمر من لم ينظر فى أمر نفسه كيف خاب عند الموت وخسر. واتعظ بآية واحدة من كتاب الله، ففيه مقنع وبلاغ لكل ذى بصيرة. قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ • وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِى أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ • وَلَن يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ المنافقون 63: 9-11. أقول انظر إلى ما لا يجب أن نتلهى عنه؛ ذكر الله؛ فانتبه.
وأول الطريق الى الله تعالى طلب الحلال والقناعة بقدر القوت من المال، وسلوك سبيل التواضع والخمول - والمقصود عدم طلب الشهرة والسيادة - والنزوع عن رعونات أهل الدنيا التى هى مصائد الشيطان. هذا مع الهرب عن مخالطة الأمراء والسلاطين، ففى الخبر: "إن الفقهاء أمناء الله ما لم يدخلوا فى الدنيا، فإذا دخلوها فاتهموهم على دينكم". رواه العسكرى عن على مرفوعا ورواه القضاعى وابن عساكر عن أنس.
وينبغى أن تقتدى بمن يؤثر النزوع عن الدنيا. وإن كان ولدك فهو وإن كان
فرعا فلربما صار بمزيد العلم أصلا. لذلك قال إبراهيم أسأل الله تعالى أن يصغر فى عيننا الدنيا التى هى صغيرة عند الله. وأن يعظم فى عيننا الدين الذى هو عظيم عند الله. وأن يوفقنا لمرضاته، ويحله الفردوس الأعلى من جنّاته بمنّه وفضله وكرمه، إن شاء الله تعالى. من أقوال الإمام الغزالى بتصرف نادية |
||
من أراد الاستزادة فى هذا الموضوع فليتتبع صفحات الصوفية فى موقع الطريقة البرهانية. أسرة التحرير |
||
|