﴿وتقلبك فى الساجدين﴾

هو تنقل نوره من ساجدٍ إلى ساجد - كما قاله المفسرون فى معنى قوله تعالى ﴿الَّذِى يَرَاكَ حِينَ تَقُومَ • وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّاجِدِينَ﴾ الآية. فليس من آبائه كافر ولا مشرك؛ جميعهم أصلاب كريمة وأرحام طاهرة من لدن آدم إلى أبيه عبد الله، وليس منهم إلا من هو مصطفى مختار؛ ويشهد لذلك حديث مسلم: عن واثلة بن الأسقع عن النبى أنه قال (إِنَّ اللهَ اصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ: إِسْمَاعِيلَ واصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ: كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ بَنىِ كِنَانَةِ قُرَيْشاً، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيشِ: بَنىِ هَاشِمِ، وَاصْطَفَانِى مِنْ بَنِى هَاشِم) صححه الترمذى.

كذا يصدقه ما روى عن أنس بن مالك أن رسول الله قال (مَا افتَرَقَ النَّاسُ فِرْقَتَيْن إِلاَّ جَعَلَنِى اللهُ فِى خَيْرِهِمَا؛ فَأُخْرِجْتُ مِنْ أَبَوَى لَمْ يُصِبْنِى شَئٌ مِنْ عِهْرِ الجَاهِلِيَّةِ وَخَرَجْتُ مِنْ نِكَاحٍ وَلَمْ أَخْرُجُ مِنْ سِفَاحٍ مِنْ لَدُنْ آدَمَ حَتىَّ انْتَهَيْتُ إِلى أَبِى وَأُمِّى، فَأنَا خَيْرُكُمْ نَفْساً وَخَيْرُكُم أباً) رواه البيهقى، و(عِهْرِ الجَاهِلية) أى عبادة الأصنام ونحوها، وقد قال ابن عباس فى تأويل هذه الآية ﴿تقلبك فى الساجدين﴾ أى تقلبك من أصلاب طاهرة من أب بعد أب إلى أن جعلك نبياً.

وفى تفسير القرطبى: عن قوله تعالى: ﴿لقد جاءكم رسول من أنفسكم﴾ أن ﴿من أنفسكم﴾ يقتضى مدحا لنسب النبى وأنه من صميم العرب وخالصها. وفى صحيح مسلم عن واثلة بن الأسقع قال: سمعت رسول الله يقول (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بنى هاشم واصطفانى من بنى هاشم). وقرأ عبد الله بن قُسيط المكى ﴿من أنْفَسِكم﴾ بفتح الفاء من النفاسة؛ ورويت عن النبى وعن فاطمة أى جاءكم رسول من أشرفكم وأفضلكم، من قولك: شييئ نفيس إذا كان مرغوبا فيه. وقيل: من أنفسكم أى أكثركم طاعة.

وعن عبد الله بن عباس : أن هرقل الروم لما سأل أبا سفيان بن حرب عن نسب النبى فيهم فقال هو فينا ذو نسب فقال هكذا تبعث الأنبياء فى أنساب قومهم. فشرف النسب وطهارة المولد من شروط النبوة -كما قال الماوردى فى أعلام النبوة- فهكذا جبلت الأنبياء على أن يكونوا من أشراف أقوامهم، فإن كان هذا هو حال الأنبياء فما بالك بصفوة عباده وخير خلقه وخاتم أنبيائه ورسله، فالله استخلصه من أطيب المناكح وحماه من دنس الفواحش ونقله من أصلاب طيبة إلى أرحام طاهرة؛ استخلصه ربه من أكرم العناصر واجتباه بمحكم الأواصر.

وقال الحافظ السيوطى "فى هذه الأحاديث المتقدمة - بلفظها ومعناها - الدليل الواضح على أن آباء النبى وأمهاته إلى آدم وحواء مطهرون من الدنس ليس فيهم كافر أو مشرك لأن الكافر لا يقال فى حقه أنه مختار ولا طاهر ولا مصطفى بل الكافر نجس؛ كما فى قوله تعالى ﴿إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَس﴾، وقد صرحت تلك الأحاديث بأنهم مختارون مصطفون وأن الآباء كرام والأمهات طاهرات .. فوجب ألا يكون فى آبائه مشرك". ولو كان من آبائه مشرك لما كان أفضل أهل قرنه وزمانه بل كان الموحدون فى زمنه خيراً منهم وهذا باطل لمخالفته الأحاديث الصحيحة باصطفائهم فى كل القرون؛ فوجب قطعاً أن لا يكون منهم مشرك لأنهم خير أهل الأرض كلٌّ فى قرنه - إذ المشرك لا يكون خيراً من المسلم بإجماع العلماء. بل إنه لعلو شرفه ولكونه خير خلق الله قاطبة فقد كانت تختار له الأمهات والآباء حتى يكون الأفضل على الإطلاق وفى ذلك يقول الإمام البوصيرى:

 وأخرج البخارى فى صحيحه عن أبى هريرة قال: قال رسول الله (بُعِثتُ مِنْ خَيْرِ قُرُونِ بَنِى آدَمَ قَرناً فَقَرنَا حَتىَّ بُعِثتُ مِنَ القَرْنِ الَّذِى كُنْتُ فِيهِ) أى أن كل أصل من أصول الرسول من آدم إلى أبيه عبد الله: هو من خير أهل قرنه وأفضلهم ولم تخل الأرض منذ عهد آدم ونوح إلى بعثة النبى - ثم إلى أن تقوم الساعة - من مسلمون يعبدون الله ويوحدونه ويُصلون له وبهم تحفظ الأرض ولولاهم لهلكت الأرض ومن عليها، وفى ذلك ورد عن الإمام على بن أبى طالب مرفوعاً قال (لم يزل على وجه الدهر فى الأرض سبعة مسلمون فصاعدا، فلولا ذلك هلكت الأرض ومن عليها) أخرجه عبد الرازق بإسناد صحيح.

من موقع النبى